أيمن كبوش يكتب: من محطة رمسيس (القطار دور حديدو)

أيمن كبوش 
من نعم الله عليّ، أنني لم اشهد الأيام الأولى للحرب، ولا أيامها الاخيرة، في العشرين من مارس كنت في (الجابون) ثم (النيجر).. وعدت الى الخرطوم في الرابع والعشرين من مارس من ذات العام الذي اندلعت فيه الحرب، في السابع والعشرين من مارس طرت إلى القاهرة التي لم اغادرها الا إلى المنامة البحرينية في التاسع من أبريل ثم عدت إلى القاهرة في الثاني عشر من ابريل لكي احمل حقائبي الى الخرطوم في نهارية الخامس عشر من ابريل 2023 ثم (حدث ما حدث) ولم اكتسب، اول ما اكتسبت واكتشفته مؤخراً غير (عقدة السفر).. كأن هنالك (فوبيا) من المطارات والطائرات ومحطات الوداع والسفر.. !
# أمس الجمعة.. كنت هناك.. في محطة (رمسيس) العتيقة.. المحطة المركزية لتفويج القطارات المسافرة إلى صِعد الدنيا المصرية المختلفة.. الغرض من التواجد في المكان (الضاج بالحياة) هو التلويح باشارات الوداع لاحبة.. وأهل.. وأقارب كانوا في الجوار طوال عامين وأكثر من عمر الحرب.. آثروا برغبتهم الملحة واللحوحة.. العودة إلى حضن وطنهم الأم ضمن برنامج (العودة الطوعية المجانية) الذي تنظمه وتشرف عليه (منظومة الصناعات الدفاعية) بتوجيه من الجنرال عبد الفتاح البرهان، وإشراف لصيق ومباشر من الجنرال ميرغني ادريس سليمان..
# كنت هناك منذ الثامنة صباحاً ولم أكن الا مودعا.. ثم وجدت نفسي منغمسا في التفاصيل الاكثر همة ونشاطا التي تبدأ من صفوف الحصول على التذاكر.. وتنتهي بصفوف (شحن العفش).. علما بانني غادرت المكان في الحادية عشر والنصف وعجلات القطار تسالم القضبان وأصوات (من بف نفسك يا القطار) تملأ الآفاق بالحنين والذكريات.. !
# السودانيون رغم تفردهم، لديهم ما يميزهم عن جميع خلائق الله.. وهو عدم احترام الوقت.. وعدم التقيد بالضوابط والقوانين، المثال أن اقربائي الذين جيئتم لكي اودعهم.. لم يتركوا (معلقة أو كمشة) الا احصوها في سبيل مغادرتها للدولة المصرية.. ثم يأتي اولئك (المهربون) الذين اتخذوا من المشروع الوطني العظيم.. مطية للكسب غير المشروع عبر تهريب الدواء بكميات خيالية تتعدى الاستعمال الشخصي أو الأسري.. لم يحدثني أحد عن التفاصيل.. فقد كنت شاهدا على حوادث تهريب للأدوية تم ضبطها بواسطة السلطات المصرية والمشرفين السودانيين.. !
# اربع ساعات من عمر الوقوف على التجربة.. أدركت بعدها بأن ممثلي المنظومة بقيادة المهندسة (أميمة عبد الله) ومساعدها (محمد سعيد) وبقية الشباب المخلصين.. يعملون بقدرات دولة لا مؤسسة وطنية واحدة.. لا ادري كيف تسنى لهم التسجيل عبر الارقام المعلنة.. ثم تصنيف المستهدفين حسب أسبقية التسجيل.. ثم الاتصال المباشر أو إرسال الرسالة الخاصة بميعاد وزمن الرحلة.. ثم استقبال تلك الجحافل الألفية التي كانت تملأ باحة المحطة منذ الصباح الباكر ومن ثم تنظيمها قبل عملية قطع التذاكر ثم شحن الامتعة.. السودانيون مولوعون بالعفش المستعمل وذلك يمثل عملية مرهقة ومكلفة والعفش لا يستحق كل هذا الجهد.. وقديما قيل: (العفش داخل البص على مسؤولية صاحبه).
# اخيرا أخذ الجميع مواقعهم في مقاعد القطار المتجه إلى محطة السد العالي بمحافظة أسوان.. هذا هو يوم واحد عايشته في محطة رمسيس مثلما عايشت أوضاعا مماثلة لمرة واحدة مودعا في محطة البصات في أول فيصل.. وعابدين وسط البلد.. في هذه المحطات تملكني الإحساس بأن هؤلاء يمثلون جموع السودانيين المتواجدين في مصر.. لا بضعة آلاف من ملايين.. كنت مخطيئا لأن العدد المتبقي اكبر من ذلك بكثير وينبغي لنا من هنا أن نهتف (شكرا مصرا) حكومة وشعبا.
# اعود واقول انه رغم ما فينا من عيوب في عدم احترام الوقت وعدم تقدير المواقف بالشكل الذي تستحق، الا انني اليوم شاهدت الجانب الملئ من الكوب.. رأيت شبابا في عمر الرحيق والندى يقفون برحابة صدر عجيبة على أرجلهم لقطع التذاكر ومراجعة الكشوفات والصبر والاصطبار على سواقط القيد وارتباك بعض البيانات.. فيكملون مهمتهم بكل النشاط ثم ينتقلون كخلايا النحل إلى بوابات الدخول لتفتيش الأمتعة ثم الاشراف على شحنها ودخول الركاب إلى مقاعدهم والمهندسة أميمة تطوف بين هؤلاء واولئك ثم يتحرك القطار.. ونتذكر ما صنعته الحرب في هذا الشعب الجميل الذي يبحث عن العودة الطوعية إلى بلده الرحيب الارحب.. وفي الخاطر عشم وأمل في الغد الأجمل وانضر.
من صفحة: مشروع العودة الطوعية المجانية للسودانيين
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...