د. أمجد فريد يكتب : عبد الرحمن الغالي، غالٍ عند شعبه يا بابكر

د. أمجد فريد الطيب

“كل جماعة اجتماعية تحاول السيادة عبر اقصاء الاخر تصبح وظيفتها الأساسية في العالم، ان تخلق، مع تطورها، وعيًا خاصًا بها، وفكرًا خاصًا بها، وأخلاقًا خاصة بها… موجهة نحو خدمة مصالحها الذاتية فيما تظن انه المصلحة الكلية، وتسعى إلى أن تفرض هذه القيم على المجتمع بأسره، في محاولة لبناء هيمنة ثقافية وسياسية تعكس مصالحها.”
ـ أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن.

لم أستطع إكمال قراءة مقال الأستاذ بابكر فيصل، رئيس حزب التجمع الاتحادي جناح صمود، المعنون: “عبد الرحمن الغالي والكتابة الرخيصة”، والذي جاء رداً على التحليل النقدي الذي تناول فيه الدكتور عبد الرحمن الغالي ملابسات إعلان تحالف الدعم السريع الجديد (تأسيس) ومحاولات إعلان حكومة موازية. وهو أمر لا يستطيع بابكر إنكار دورهم الراسخ فيه – سواء بقصد أو عن جهالة، لا فرق. فهم من عملوا على تقديم وتلميع أعضاء الدعم السريع الذين يعرفون انحيازاتهم جيدا، وكانوا معهم في “تقدم”، ولا يزال بعضهم يتبوأ المناصب القيادية في “صمود”، بينما يتغنون بالفريق حميدتي الذي “يريد السلام”، وقواته تقتل وتغتصب وتشرّد السودانيين من الجنينة إلى الخرطوم، ومن مدني حتى الفاشر.

لم يكن سبب توقفي عن إكمال ما جادت به قريحة بابكر هو حدة التعبير عن الرأي السياسي أو الرأي المضاد، فهذه مطلوبة، بل ربما تكون محمودة، في ظل ظروف الحرب التي يمر بها السودان، بحيث لا تترك مجالاً للتساؤل عن ماهية المواقف. ولكنها حدة يفتقدها بابكر ورفاقه في تحالفاتهم المتعددة عند الاشارة الي
الجرائم الماثلة أمام أعينهم كل يوم. بل ان مقال بابكر افتقد بالأساس إلى أي فكرة سياسية مركزية في الرد على أطروحة الغالي التي حاولت تقديم تحليل متماسك ومترابط لما حدث ويحدث في السودان. وهي روية يحق لأي أحد انتقادها والاختلاف مع مضمونها بأي شكل كان.

لكن مبعث الغثيان الحقيقي كان في الأوصاف والنعوت التي حاول بابكر إلقاءها على عبد الرحمن الغالي، من اجل القفز على مضمون نقده وتفادياً لتناوله، بوصمه بإساءات تنتقص من شخصه عوضاً ان تتناول طرحه. وهي ممارسة قميئة لاغتيال الشخصية وإطلاق التوصيفات التي يتم تبادلها في دوائر تقدم/صمود الداخلية للحشد وطمأنة الذات السياسية، في إطار ما يسمونه “الحريق الإعلامي”. عادة أدمنها حزب بابكر، التجمع الاتحادي، ومارسها للابتزاز السياسي مراراً وتكراراً، وساهمت بقدر وافر في إفساد الحياة السياسية في الفترة الانتقالية.

هذا السلوك، الذي قد أبرئ بابكر شخصياً من ممارسته في السابق، فهو عرف عنه الميل لهدوء الكلمة وتهذيبها بغض النظر عن خطل مضمونها، ولكنه بالطبع يتحمل مسؤوليته المؤسسية عنه، ولكن يبدو أنه في مقاله المعني، تأثر بالموقف التاريخي لعداء الاتحاديين وحزب الأمة، وزاد عليه افتقاده للقدرة بشكل موضوعي على إنتاج مضمون للرد على ما أورده عبد الرحمن الغالي من حقائق، ففلتت منه هذه الكلمات التي لا يستقيم إطلاقها لا على الغالي في شخصه ولا على كتاباته التي تتجاوز، لغة ومضموناً، “دافوري” السياسة اليومي.

فعبد الرحمن الغالي هو من طينة سياسيين غابوا عن المشهد السياسي السوداني الحالي، وإن كانوا بالأساس قلة فيه. فقد تدرج نضاله ضد نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص في أشد أيامه قسوة، إلى أن وصل إلى موقع تولي الأمانة العامة لحزب الأمة في الفترة بين ٢٠٠٨ و٢٠٠٩. وحين أصبح للصراع السياسي حسابات أخرى غير نجاعة الموقف الصحيح وقوة الحجة والإقناع، اختار أن يبتعد ويترك البلاد كلها طلبا للرزق في غيرها، وأن يمارس السياسة من موقع فكري أجاده وأتقن فيه الالتزام بصرامة أخلاقية ووطنية عالية. واحتل فيه مكانة نالت إشادة واسعة من جموع السودانيين باعتباره أصبح مفكراً سياسياً بارزاً في الشأن السوداني. ولكني شخصياً أظن أنه ترك فراغاً كبيراً في سياق الممارسة السياسية المباشرة، الومه عليه بلا عليه هوادة فهي مساحة خالية من حق شعبنا على الغالي أن يملأها.

على العكس من ذلك، فإن بابكر ورفاقه مسكونون بواقع مأزوم لمجمل الطبقة السياسية السودانية المعاصرة، ولا أبرئ منها أحداً. وهي أزمة ساهمت في إفساد الفترة الانتقالية حتى انتهت بانقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ثم تواصلت في تفاصيل التفاوض على الاتفاق الإطاري التي ساهمت بقدر وافر في إشعال الحرب. فالسعي نحو إنتاج نموذج للهيمنة الجديدة، للتصدي لهيمنة نظام المؤتمر الوطني المخلوع، ظل هو البوصلة لحركة التحالف العابر للتنظيمات والتي انتزعت لنفسها اسم “حاضنة الانتقال” وحاولت احتكار ثورة الشعب كغنيمة لنفسها. ابتداءً من لجنة إزالة التمكين التي اعتنقت منهج تكوين تمكين مضاد كعقيدة لها، وانتهاءً بالإعلام الذي اعتنق عقيدة تجريم الاختلاف وتأليه الرأي الواحد الصحيح، بحيث يصبح من يخرج عليه خائناً للثورة. وهذا الرأي “الصحيح” بحسبهم لا ينبني على حكم فكري، بقدر ما هو مرتبط بأشخاص وتحالفات عابرة للتنظيمات، مهما ظهر من وقائع تثبت خلل وخطأ ما يقولون به ويسيرون في دروبه، أو حتى لو اشتعلت البلاد حرباً قضت على أخضرها ويابسها.

بابكر ورفاقه مهووسون بممارسة الهيمنة كما أسلفت. ووفقًا لغرامشي، فإن ممارسة الهيمنة، أو “الغلبة القائمة على القبول”، هي حالة تحاول فيها مجموعة ممارسة دور قيادي سياسي وفكري وأخلاقي عبر منظومة بنية متماسكة تطرح رؤية كلية لتفاعلات المجتمع والسياسة المختلفة تهدف للحفاظ على موقعها القيادي. وتتطلب ممارسة هذا الدور في فترات الانتقال الاجتماعي تنفيذ عملية إعادة صياغة فكرية وأخلاقية على الصعيدين الأخلاقي-السياسي والاقتصادي يتم من خلالها “تحويل” الأرضية الأيديولوجية السابقة (منظومة أفكار الإسلاميين وخطاب المؤتمر الوطني المخلوع في هذه الحالة) وإعادة تعريف البنى والمؤسسات والشعارات بشكل جديد يخدم المجموعة الجديد. يتم تحقيق هذا التحول وإعادة التعريف بإعادة صياغة العناصر الأيديولوجية السابقة ضمن رؤية كلية تصبح بمثابة المبدأ الموحد للإرادة الجماعية الجديدة بما يتضمن تجريم مخالفته بشكل قطعي. في واقع الممارسة، تصبح هذه الرؤية الكلية الجديدة هي المقياس لتحديد مفاهيم الصواب والخطأ والمواقف الوطنية المنفردة في صوابيتها بحسب رأي الجماعة المهيمنة، وبهدف توحيد المجتمع خلفها ضمن سياق الهيمنة الجديدة، هي التي تشكل الأيديولوجيا العضوية لنظام الهيمنة الجديد.

ولكن ما يفوت على بابكر ورفاقه، أن الموقف الوطني الصحيح لا يحتاج إلى كثير من التفكير السياسي أو إغراقه في التعقيد. الموقف من وجود واستمرارية مليشيا قوات الدعم السريع في الحياة السياسية السودانية، بل الموقف من وجودها المؤسسي ككل، قد حددته جموع جماهير السودانيين بشكل تلقائي في هذه الحرب وهم يفرون من مناطق سيطرة الدعم السريع ليلتمسوا الأمان في غيرها، سواء كانت مناطق سيطرة الحكومة أو خارج السودان. ومن بين هؤلاء بابكر نفسه ورفاقه؛ فإن كانوا كسياسيين يشتكون من أن بلاغات الحكومة ضدهم ومطاردتها لهم بالشكاوي السياسية والاستغلال السياسي للقانون هي ما تمنع وجودهم داخل السودان، فما الذي منعهم من التواجد في الضعين أو نيالا أو مناطق سيطرة الدعم السريع للمطالبة بالحل السلمي من هناك، ومن بين صفوف شعبهم؟ ولكن الحقيقة أنهم يدركون تماماً أن قوات الدعم السريع كيان فاشي متوحش لا يرتوي إلا بالدم ولا يتفق وجوده مع استمرارية الحياة الطبيعية في السودان. ما عدا ذلك فهو تفاصيل. فعلاما يطالبون شعب السودان القبول بهم اذن؟ الله عليمي!!

تلجلج تحالف “صمود” في الاعتراف بهذه الحقيقة ومحاولتهم التذاكي لفرض وجود الدعم السريع على السودانيين، منذ صيغهم الأولى في المجلس المركزي بعد الحرب، ثم الجبهة المدنية، ثم “تقدم”، فصمود هو ما أدى إلى انقسامات الجبهة المدنية السودانية، التي يريدون من الناس أن ينكروا ما يرونه بأم أعينهم لينعموا عليهم بوصفهم بـ”المدنيين”، وأدى بدوره إلى انقسامات هذا التحالف “الأميبية” مراراً وتكراراً. وإذا تركنا كل ممارسات ومحاولات احتكار الدولة والثورة في الماضي، فإن البحث عن الحل السلمي الآن لكارثة الحرب هو بحث عن الحل الصحيح الذي يضمن إنهاء الحرب وعدم تكرارها، وليس إنتاج معادلة قسمة سلطة جديدة، كما حاولت “تقدم” الترويج لذلك في اتفاقيات أديس أبابا مع حميدتي، والضغط للمضي قدماً في قسمة السلطة في المنامة، وبعد وقبل ذلك في خطاباتها الاعلامية، والتي مضت أبعد من مجرد الترويج لتبرير استمرارية وجود الدعم السريع في المجال السياسي بوجود حاضنات اجتماعية للدعم السريع، او إلى حد دعوة الجيش للاستسلام على غرار الجيش الياباني!

كل تلك تفاصيل وحواشٍ يُؤخذ ويُرد عليها. ولكن المتن، يا بابكر، هو أن عبد الرحمن الغالي هو من تراب هذا الشعب، بل هو تبره الغالي، الذي لا يستقيم ما أطلقته على كتاباته من وصف. الأجدر بهذا الوصف هم بعض الذين في صفوفكم، يتقلبون ذات اليمين وذات اليسار أينما لمع لهم بريق السلطة.

واذا لم تخشوا يا بابكر من غضبة هذا الشعب فاختشوا من امثال عبدالرحمن الغالي، وهم قد سبقونا وسبقوكم الي ميدان السياسة.

قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...