د.البوني يكتب: يا ود باب الله فوقك الله

عبداللطيف البوني

دخلت ألتي عند المغيب.. منهك القوى دامي الأرجل …متسخ الجسم والملابس… بعد مسيرة سبعة ساعات على الأرجل لمسافة لا تتعدى الستة كيلومترات… إذ أنها كانت في وحل وطين وشوك ومسكيت وحجارة.. ومعية النساء والأطفال.. و كنا نتجنب الطريق الرئيسي الذي كان الدعامة ينتشرون فيه… ضمن المجموعة كان في معيتي أسرتي الصغيرة وضيف وزوجته رمت بهم الحرب إلينا فهذا هو نزوحهم الثاني… عند مدخل ألتي استقبلنا الشباب بحفاوة وحنية بالغة (حبابكم حبابكم… كفارة ليكم… النسوان بجاي… الرجال بي هناك) وأنا متجه لصيوان الرجال مسكني شاب من يدي… يا أستاذ معاي ورفض أن يسمع مني ولا كلمة وقد كان متأثراً جداً … ولحسن الحظ كان بيته قريباً من التكية… فدفعني إلى داخل الحمام… وبالمنور ناولني فرشاه ومعجون و جلابية وعراقي وسروال… وكان حماماً لاينسى لأنه جاء بعد أربعة أيام من الانقطاع.. بعد أن خرجت طلبت منه إحضار دكتور محمد الصيدلاني الضيف الذي كان معي .. فامضينا يومين مع الأخ عبد العظيم عمر الصديق وشقيقه الرشيد ولم يتركا لنا فرضاً ناقصاً… ولم يقصر خالهم أحمد جادين (شقيق الاستاذ الراحل محمد علي جادين) في الونسة معنا… ولما كنت في غاية الإرهاق لم أخرج حتى لمقابلة بقية الأسرة ولمدة اليومين… وبعدها انتقلنا إلى منزل ابن عمي الأستاذ عبد الجليل كرار… والذي كان ابنه المهندس كرار قد أضناه البحث عنا . وهناك استقبلتنا ربة المنزل السيدة افتتان الأمين في الشارع… وهي أيضا ابنة عمنا… فكلنا عقابنا في القرضات تلك القرية الوادعة..
في مساء اليوم الأول لوجودي في منزل عبد العظيم حركة… جاءني الاستاذ محمد باب الله… وبعد العناق والدموع والذي منه… قال لي إنه عقبني في اللعوتة بحثاً عني وعن بقية الأصدقاء… واستأذن عبد العظيم لأخذي معه فرفضت لأني أعلم عظم مشغوليته… وقلت له يا محمد إنت عارف نص ألتي دي قرايبي والنص الباقي معارف وأصدقاء… لكن ما بطلع من البيت دا إلا اخد راحتي.. وللا يجوا الدعامة يسوقوني.. فقال لي أن شاء الله ما بتجيك عوجة وروحنا فداك وفدا كل اللعوتة… وإن شاء الله الجاتكم تختاكم.. ولحسن الحظ كان منزل عبد الجليل كرار قريب جداً من منزل محمد باب الله…
محمد باب الله من جيلنا… استاذ بالمرحلة الابتدائية… في شبابه كان لاعب كرة بارز… ثم إنه أنصاري بالوراثة و على السكين ويظهر ذلك في أنه لا يلبس إلا الجلابية الأنصارية وفي أسماء أبنائه… محمد باب الله اشتهر بحبه للناس و بمحبة الناس له… فما من شخص تعرف عليه إلا وأحبه… وفي أي درب من دروب الحياة حتى ولو لحظات عابرة…كان يتفاني في خدمة كل مَن يعرف… محمد في علاقته مع أي شخص يبعد أي انتماء حزبي أو قبلي أو مهني أو حتى عمري… صديق للكبير والصغير… محمد يمكن أن تقول عنه وباطمئنان شديد (زيرو كراهية )….
في درب من دروب الحياة التقى بحسن عبد الله الشهير بالترابي… وكان هذا الأخير مواليا للانقاذ في ذلك الوقت… ثم انضم للدعم السريع قبل الحرب وبعد الحرب عينه الدعم قائداً لمنطقة الكاملين… وهو من أبناء قبيلة السلامات… وكان ديكتاتوراً باطشاً وحاكماً جائراً … وفي يوم من أيام سوق المسيد كان محمد ماراً بالمحلية…. وكان الترابي مجتمعا بقادة من الدعامة… فرآه بالنافذة وأصر عليه أن يدخل… وخاطب جماعته قائلا لو قبضتوا زول ولقيتوا في موبايله صورة بتاعت جيش بتعملوا ليه شنو؟.. فجاءه الرد كما ينبغي…. فقال لهم أنا لو لقيت محمد باب الله خاتي صورة البرهان كأيقونه في موبايله برجعه ليه.. ولو مسكت البرهان وجاني محمد باب الله وقال لي فكه بفكو ..
أصبح محمد باب الله بحكم معرفته السابقة للقائد الجديد… صاحب خاطر لدي الدعم السريع… وكان قادة الدعم في المنطقة والمارين بها يغشون منزله…. لكن تعالوا شوفوا كيف وظف محمد هذا الخاطر.. والله العظيم ثلاثا طيلة وجودنا في ألتي كل أيام النزوح… لم أجد محمد إلا حوله الناس جماعات جماعات…. دا مسكوا ولده… ودا شالو عربيتو… ودا احتلوا بيتو و… و… ومحمد لا يكل ولا يمل ساعة في المحلية لإطلاق سراح… وبعدها في الباقير لإرجاع سيارة…. وتارة في الماليزي لإنقاذ قرية كاملة…. لا يأتي لبيته إلا خطفا…كميات من الممتلكات أرجعها لأصحابها… ومئات من الأشخاص فك أسرهم…. وقرى بكاملها سعى لإنقاذ ما يمكن انقاذه منها…. ومن ضمنها قريتنا اللعوتة… التي جازف بحياته من أجلها… وأنا الآن لا أريد أن أفصل في الحتة دي… لكن إن شاء الله سأفعل إذا أمد الله في الآجال..
بعد أن وصلت القوات المسلحة وطهرت المنطقة من الدعامة… كان محمد باب الله في طلائع مستقبليها… وفي داره .. لمحمد حوش لاتقل مساحته عن فدان موزعة فيه أشجار النيم بنظام معين… يمكن أن يستقبل مئات الأشخاص دون أي حاجة لصيوان أو أي مظلة…ود باب الله فنان في كل تفاصيل حياته… في داره الوسيعة تقام مختلف المناسبات لا بل حتى الرحلات… لان صدره أوسع من داره…
لدهشة الجميع وبعد عدة أسابيع من التحرير… أعتقل محمد بتهمة التعاون مع الدعم السريع… فقامت الدنيا ولم تقعد فتداعى الناس زرافات ووحدانا ومن كل حدب وصوب ورابطوا أمام المحكمة تضامنا معه… وكان الأستاذ فتح الرحمن بابكر الباهي وهو من رواد العمل الدعوي في المنطقة… والبروفسير أحمد مختار الأمين من المخاطبين للحشود .. بعد حوالى ثلاثة أشهر تم إطلاق سراح محمد باب الله فكان حشد استقباله خرافياً ولم تشهده المنطقة من قبل… وبحمد الله خرج مرفوع الرأس وبصحة جيدة ولم يشكو من أي سؤ معاملة.. وهكذا يا صديقي محمد باب الله إذا أراد الله نشر فضيلة طويت سخر لها لسان حسود..
أما عنوان المقال… ياود باب الله فوقك الله.. فقد كان أهزوجة رواد دار الرياضة بالكاملين… أيام كانت مسورة بالجوالات… حيث كان محمد باب الله صخرة دفاع فريق النهضة بألتي… ذلك الفريق القوي المهيب (خليل يا خليل خليك وين.. وأبو الزيك وعبيد يوسف وعز الدين مضوي والشيخ باك القيامة وسيد بطة وسيد غلام الله و… و…) وكان يمكن لأي واحد من هؤلاء أن يكون لاعباً في فرق العاصمة والفريق القومي… لكنه زهد أهل الجزيرة… كانت دار الرياضة تمتلي عن آخرها عندما يكون فريق النهضة طرفاً في المبارة…أما مشجع الفريق عبده ود أب شنبر فكان له جمهوره الخاص …ويومها كنا في نهاية المرحلة الثانوية… لكننا لا نفوت مباراة للنهضة.. والله أيام يا زمان… زمنا الكنا لا ندري بما كان الزمن ضامر…
كسرة هامة….
في الأسبوع الماضي سمعت تصريحاً لوالي الجزيرة… يقول فيه إن عدد المعتقلين بتهمة التعاون مع الدعم السريع خمسة ألف… أظن أن هذا العدد مهول جداً… ونحن مع مبدأ عدم الافلات من العقاب… ولكننا في نفس الوقت مع عدم التوسع في دائرة الاتهام… فالذي تعاون مع الدعم السريع هو الذي حمل السلاح وقاتل معه… أو قدم له خدمة ساعدته في عدوانه الغاشم على المواطنين العزل… أما غير ذلك فيكون قد تعامل معه تقية لتجنب شره أو كأمر واقع أو لأي سبب آخر فيجب إطلاق سراحه فورا .. فإن تبريء مائة مجرم خير من أن تجرم بريئاً واحداً… فاعملوا على رتق الفتق بدلا من توسعته… احذروا تصفية الخصومات الخاصة… والله المستعان.

نقلاً عن صحيفة الأحداث

قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...