وجه الحقيقة
إبراهيم شقلاوي
منذ الإطاحة بنظام حكم البشير في أبريل 2019، لم تكن المرحلة الانتقالية التي أعقبته مجرد مساحة لتصحيح المسار الوطني كما رُوِّج، بل شكَّلت مدخلًا لتحضير انقلاب سياسي ناعم، جرى الإعداد له بعناية من قبل قوى إقليمية ودولية سعت لإعادة هندسة الدولة السودانية على أسس جديدة تخدم مصالحها وأجندتها، بعيدًا عن تطلعات السودانيين. هذا التحضير لم يكن معزولًا، بل مرَّ عبر محطات محددة، بدءً من تشكيل “الرباعية الدولية”، ووضع البلاد تحت الوصاية الدولية، مرورًا بمسودة “دستور المحامين”، ووصولًا إلى “الاتفاق الإطاري” الذي حاول أن يمنح شرعية كاذبة لمشروع اختطاف الدولة وإعادة تركيبها من جديد.
إلا أن فشل هذه المخططات في تحقيق السيطرة الناعمة على مفاصل السلطة، نتيجة وعي القوات المسلحة السودانية والمقاومة الوطنية، عجَّل بالتحول إلى الخيار العسكري باعتباره خيارًا مطوَّرًا، كما تحدثت بذلك د. مريم الصادق المهدي. فاندلعت الحرب في أبريل 2023، كحلقة أخيرة في مشروع متكامل فشل في تحقيق أهدافه عبر الأدوات المدنية والسياسية، فلجأ إلى القوة المسلحة لفرض واقع جديد.
وهذا ما سنحاول الوقوف عليه بتحليل أبعاد هذا الحدث الكبير، من خلال قراءة السياقات الإقليمية والدولية التي أحاطت به، وتفكيك دلالاته السياسية والعسكرية، وصولًا إلى فهم ما يعنيه استعادة الدولة لعاصمتها القومية .
من هنا لم يكن تحرير الخرطوم من قبضة ميليشيا الدعم السريع مجرد استعادة للأمن، بل لحظة وطنية كاشفة، أسقطت قناع “العملية السياسية الكذوب “، وعرّت أبعاد مشروع خارجي أُريد له أن يعيد تشكيل السودان على مقاس مصالح لا تعترف بسيادته، ولا تستبطن استقراره. تحرير الخرطوم إذًا يُقرأ بوصفه انهيار لمنظومة من التدخلات، والرهانات والأدوات العابرة للحدود، التي ظنَّت أن بمقدورها إعادة رسم المشهد السوداني بما يخدم توازنات ومصالح جيوسياسية.
لقد راهنت بعض القوى الإقليمية على تمكين ميليشيا الدعم السريع لتصبح بديلًا للدولة السودانية، مستثمرة في هشاشة المرحلة الانتقالية، ومشجعة على الانقلاب على المسار المدني، ومدعومة بمنظومة مصالح واسعة تشمل التنافس على الموانئ والموارد ، والتغلغل الاستخباراتي، والاختراق السياسي. في المقابل، فضّلت قوى دولية مؤثرة الصمت أو التوازن المفتعل، مراهنة على إطالة أمد الصراع كوسيلة لتركيع البلاد ، ودفعها نحو تفاوض غير متكافئ أو إعادة هيكلة الدولة تحت وصايتها.
جاء تحرير الخرطوم ليقلب هذه المعادلات. فلأول مرة منذ اندلاع الحرب، تنجح الدولة السودانية، ممثلة في جيشها ومقاومتها الشعبية، في استعادة العاصمة بشكل حاسم، وتفكيك أكبر مراكز الثقل الميداني للميليشيا، في مشهد لم يترك مجالًا للغموض: الجيش يتقدم، والميليشيا تنهار، وأدوات الخارج تفقد رهانها على إنتاج سلطة موازية تكرّس للخراب.
المشاهد التي خرجت من مناطق مثل “الصالحة” غرب أم درمان — من ترسانة عسكرية ضخمة تركتها المليشيا ، إلى جثث متحللة في صناديق مغلقة، ومواقع تعذيب وتصفية — كشفت أن ما كان يُدعَم ليس مشروعًا سياسيًا، بل منظومة عنف وهيمنة. تلك الحقائق المتزامنة مع الانهيار التام لمقاتلي الميليشيا، وجَّهت ضربة أخلاقية مدوِّية للخطابات الدولية التي حاولت إضفاء طابع “الندية” بين الدولة والتمرد، اعتمادًا على خطاب داعمي الميليشيا المحليين.
لكن ما يزيد من أهمية الحدث، هو أهمية عودة الحكومة رسميًا إلى الخرطوم وبدء ممارسة مهامها من قلب الدولة، بعد شهور من الإبعاد القسري. فالعاصمة لم تكن فقط هدفًا عسكريًا، بل كانت رهينة سياسية، وحقل اختبار لمشروعية الدولة نفسها. أن تعود منها الحكومة لإدارة شؤون البلاد، هو إعلان عن نهاية مرحلة التراجع، وبداية مرحلة إعادة التشكل الوطني من مركز السيادة والقيادة، لدولة سودانية لا تعرف الارتهان ولا الانكسار رغم العقوبات الجائرة.
عودة المواطنين رجوع إلى الذاكرة والكرامة والانتماء للمكان . فالأحياء التي هُجرت، والمؤسسات التي توقفت، تعود اليوم لتنهض من جديد، مؤكدة أن الخرطوم لم تُحتل، بل كانت تمر بلحظة وعي واستعادة للإرادة الوطنية. فما جرى لم يُسقط السودان، بل أيقظه؛ ولم يُفتّت الدولة، بل وحّدها؛ ولم يُخرج العاصمة من يد أهلها، بل أعادها إليهم، بعزّة وكبرياء يحكيان عن عظمة جيشهم وخبرته لمائة عام ، وعظمة المقاومة الشعبية حين يقودها المخلصون.
هذا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن تحرير الخرطوم لا يُختزل في بيان نصر، بل هو إشارة إلى بداية مرحلة جديدة، عنوانها أن السودان ليس دولة هشّة يصاغ مستقبلها من الخارج، بل وطن عميق الجذور؛ كلما حاولوا كسره، ازداد تماسكًا. وإذا كان البعض يظن أن المدد يأتي من العواصم الكبرى، فإن تجربة الخرطوم تثبت أن الإرادة الوطنية — كما عبّر عنها المفكر عماد الدين خليل — هي القادرة على “رد كيد الخارج وصناعة التاريخ من جديد” ، لأن الأمة التي تنتصر على خوفها، تنتصر على من يحاول أن يحتلها.
دمتم بخير وعافية.
الجمعة 23 مايو 2025م
Shglawi55@gmail.com