عبد الحفيظ مريود يكتب….. هل ينقلبُ السّحر على السّاحر؟

خاص:الزرقاء ميديا

 

الأصواتُ المناديةُ بوضعِ عملِ لجنة إزالة التمكين فى نصابه، ضمن أُطرٍ قانونيّةٍ أخرى لتحقيق العدالة، لم تكنْ كلُّها نشازاً. نبيل أديب المحامى، مثلاً، ورئيس لجنة التحقيق فى فضّ الإعتصام يذهبُ إلى انَّ أداء اللجنة يقوّض – من حيث لا تدرى – النّظام العدلىّ السُّودانىّ ذا التأريخ المجيد. غير نبيل أديب كثيرون ممن لا يمكنُ توجيه اتّهام لهم “بموالاة النّظام السّابق”، التّهمة الأكثر رواجاً، والبعبع الذى يخيف أغلب الصّادعين بالحقّ. وحين تُعيدُ المحكمة العليا عدداً مقدّراً من قوائم المفصولين من قبل لجنة إزالة التمكين إلى الخدمة، من بين القضاة، وكلاء النيابة والدبلوماسيين، فإنَّ على أىّ حادبٍ على الفترة الإنتقالية والبناء الدّيمقراطىّ أنْ يعيد حساباته. ذلك أنَّ اللجنة – فى أسِّ تكوينها – خرِبةٌ وبيّنة الموالأة والتحيّزات. تحملها روحُ الإنتقام والتشفّى أكثر مما تحملها أجنحة تحقيق العدالة وردّ المظالم وإعادة المنهوب من الدّولة إلى الدّولة. ويبدو أنَّ الغالبية العظمى من شركاء الفترة الإنتقاليّة، يجعلون من عمل اللجنة، تكوينها مدخلاً لتقديم الإنتقادات وإصلاح العوج فى الفترة الإنتقاليّة. من لدن المكوّن العسكرىّ بمجلس السّيادة، الذى قدّم أحدُ أبرز أعضائه، الفريق ياسر العطا، إستقالته من رئاسة لجنة إزالة التمكين، ورفضتْ، مروراً بالحركات الموقّعة على إتّفاق جوبا للسلام، وبعض الأحزاب والكيانات الموقّعة على إعلان الحرّية والتغيير.
اللجنة – إجراءاتٍ ونتائج – هى تلخيصٌ دقيق للواقع السياسىّ السُّودانىّ. فهى إختطاف متعمّد لا شبهة فيه لحزمةٍ من المفاهيم والأجهزة والتوّجهات الكلّيّة للحادبين على التحوّل الدّيمقراطىّ. فالأحزاب والمنظّمات التى وقّعتْ على إعلان الحرّية والتغيير تتجاوز الستين تنظيماً. كان هدفها التّصعيد لإقتلاع نّظام الإنقاذ الذى حكم السّودان لما يُقارب الثلاثين عاماً، ومن ثمَّ إرساء نّظام ديمقراطىّ يؤسّس لتداولٍ سّلمىّ للسّلطة، ويقطع الطّريق أمام أىّ محاولات للإستيلاء على الحكم بالقوّة، ويعزّز دولة المواطنة والعدالة والحرّية. وبُعَيدَ تحقيق الهدف الإوّل – إقتلاع نّظام الإنقاذ – تمّ التحالف بين قوى إعلان الحرّية والتغيير مع المجلس العسكرىّ الإنتقالىّ، فى أعقاب مفاوضاتٍ شاقّة، خرج منها المجلس العسكرىّ بالمشاركة فى مجلس السيّادة مناصفة، ورئاسته فى النّصف الأول من الفترة الإنتقاليّة، فيما نالتْ قوى إعلان الحرّية والتغيير مجلس الوزراء كاملاً، ما يُقارب السبعين بالمائة من عضوية المجلس التّشريعىّ الإنتقالىّ المزمع تكوينه، ويداً مطلقة فى وضع السياسات التى من شأنها أنْ تضمن العبور الآمن والمستقر للفترة الإنتقاليّة. لكنَّ هذا التحالف ما لبث أنْ أظهر هشاشته. كما لم يمضِ وقتٌ طويلٌ قبل أنْ تتبيّنَ الشّقوق العميقة والغائرة فى جدار الحرّية والتغيير، وهذا هو الأخطر من هشاشة التحالف مع القوّات المسلّحة، المجلس العسكرىّ الإنتقالىّ أو المكوّن العسكرىّ. فما هى ملامح هذه الشّقوق الغائرة على جدار الحرّية والتغيير؟
لم يتستّر الحزبُ الشّيوعىُّ السّودانىّ على اختلافه الجذرىّ مع توجّهات الحكومة الإنتقاليّة. ذلك أنَّه يرى أنَّ تكالبها على تطبيق سياسات وشروط البنك الدّولىّ، بحثها بكلّ الوسائل والسّبل عن الرضاء الأمريكىّ ورفع العقوبات الإقتصادية المفروضة على السّودان من تسعينات القرن الماضى، إزالة اسم السّودان من قائمة الدّول الرّاعية للإرهاب، إنْ هو إلّا ارتضاء ورتماء فى أحضان الرّأسماليّة الإمبرياليّة، وهو بالتّالى خيانة لقضايا الجماهير، وللثّورة وبيعٌ رخيص للفقراء وعامّة الشّعب، عبر تطبيق سياسات رفع الدّعم عن الدّقيق والمحروقات والسّعىّ الدوؤب للتحوّل للنّسق الذى تتطلّبه المؤسسات الدّولية المقرضة. لذلك فقد بدا صوته المعارض للحكومة الإنتقالية يعلو. لكنَّ الشّيوعى – كعادته – يحتفظ بموقفين إزاء كلّ قضية. ومع ذلك يمكن احتسابه من المفارقين لسياسات الفترة الإنتقالية بوضعها الرّاهن.
على انَّ موقف الحركات الموقّعة على اتفاق سلام جوبا، من قبل التوقيع حتّى، هو الأكثر أهميّة فى ملامح جدار الإنتقاليّة. فقد عارض الموقّعون – باكراً – محاولات الإستفراد التى تقودُها مجموعات من قوى إعلان الحرّية والتغيير بالقرار وبالسّلطة. لم تفلح جهود رأب الصّدع فى أديس ابابا والقاهرة، مما دفع القائد منّى أركو منّاوىّ لإطلاق تصريحاتٍ ناريّة تجاه مجموعة الإختطاف عالية الصّوت، والتى تعتقد أنّها تملك الشّارع وتكتسب شرعيّتها منه. فقد صرّح منّاوى عقب لقاء القاهرة بأنَّ المجموعة التى اجتمعتْ معهم عبّرتْ بصريح العبارة أنّها من يملكُ القرار، وأنّها تعطى من تشاء وتمنعُ من تشاء. وفى أعقاب التوقيع على سلام جوبا، أبدتِ الحركات الموقّعة ملاحظاتها، حتّى بعد تشكيل الحكومة الجديدة وحصولها على مقاعد فيها. ذلك انَّ المجموعة ما تزال تحاول أنْ تمارس فوقيّتها على الآخرين، محتكرةً الخطاب والتوجّه السياسىّ وتقديم وتأخير الملّفات المطروحة أمام الإنتقاليّة.
لقد تصاعدتْ وتيرة العراك بين المجموعة المحتكرة (مجموعة الأربعة) وكافة المعارضين لها من داخل قوى إعلان الحرّية والتغيير للدّرجة التى بات فيها واضحاً للمراقب أنَّ هناك مجموعتان من قوى إعلان الحرّية والتغيير. للدّرجة التى تقود إلى تشويش فى أذهان العامّة. فالموقفان من كلّ القضايا – تقريباً – متعارضان، متضادّان، كأنّهما صادران عن كيانين لا جامع بينهما، وهو أمرٌ حقيقىّ ودقيق جدّاً فى الواقع. فانطلاقاً من الموقف إزاء لجنة إزالة التمكين وطرائق عملها، مروراً بشغر المواقع الخالية فى الأجهزة الحكومية المختلفة، وصولاً إلى الموقف من الإنتخابات، ثمّة تنافر يجعل بقاء الطرفين فى الحرّية والتغيير ضرباً من العبث. وليس لدى أىٍّ منهما الجرأة للخروج العلنىّ عن الحرّية والتغيير، وذلك لأنَّ كلفة الخروج باهظة. ذلك أنَّ الخروج يعنى عند العامّة والغوغاء الذين يجرى تحريكهم، خروجٌ عن أهداف الثّورة، وهو أمرٌ مخيف للذى لا يملك بناءً متماسكاً يقنع به الآخرين.
فى السّباق المحموم بينهما، بدا طرفاً أقرب إلى التوافق مع رؤيةٍ تتبنّاها المؤسسة العسكرية، أو المكوّن العسكرىّ لمجلس السيادة. فالثّابت هو أنَّ المؤسّسة العسكريّة ظلّتْ تنظر إلى أداء الحكومة الإنتقالية بعينٍ غير راضية. وذلك نّظراً للخطابات الأولى قبل بدء التفاوض، حيث صرّح الفريق أوّل محمد حمدان دقلو، بأنَّ المجموعة كانتْ تنصّب نفسها الممثّل الوحيد للثّورة، قبل أنْ يتطوّر موقفها، فتصبح الممثّل الوحيد للشّعب السُّودانىّ. وهو ما جعل المجلس العسكرىّ يصرُّ على نسبة 37% من المجلس التشريعىّ الإنتقالىّ. فى أعقاب التوقيع على إتفاق سلام جوبا، بدا واضحاً إنَّ ثمّة تفاهماتٍ خفيّة بين الحركات الموقّعة وبين المؤسّسة العسكريّة، وهى تفاهمات يمكنُ إرجاعُها إلى خبرات الطّرفين السياسيّة والعسكريّة واتّساع علاقاتها الخارجيّة بالإقليم والعالم، وقبل ذلك باشتغالهما على جذور الأزمة السّودانية. ففى مقابل مجموعة الربعة، يبدو هذا الصّوت أكثر عقلانية وتأسيساً منطقياً.
فى الوضع الرّاهن، تصرُّ المؤسّسة العسكريّة على إجراء إنتخابات نزيهة. وذلك يعنى الشّروع فى تكوين مفوضيّة الإنتخابات، وضع القوانين، السّجل الإنتخابىّ وما تتطلّبه العمليّة كلّها. وذلك وفقاً لتصريحات رئيس مجلس السّيادة الإنتقالىّ الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان، بأنَّ الجيش لن يسلّم مقاليد الأمور فى البلاد إلّا لحكومة منتخبة. فى الوقت ذاته تذهب مجموعة الأربعة إلى انَّ الأوان لم يئن لإجراء الإنتخابات، ثمّة عمل طويل قد يستغرق سنين عددا، تربو على العشر سنوات، وهو تفكيك نظام الإنقاذ. وإذْ يتنافر موقف الطّرفين من كلّ القضايا المطروحة، يبدو موقف المجموعة الأخرى من قوى إعلان الحرّية والتغيير، من الموقّعين على اتفاق سلام جوبا الأقرب إلى العقلانيّة والتطبيق. إذْ لا يمكنُ إدارة الأزمات وإدارة شؤون البلاد بحشد الشّارع وتخويف النّاس بتقويض الثّورة أو موالاة النّظام السّابق.
الأيّام المقبلة كفيلة بتعرية الموقف الفجّ، الأكثر هشاشة الذى تتبنّاه مجموعة الأربعة، وذلك لأنَّ الشّارع فى معاداته للإنقاذ، أيّام المواكب والمظاهرات والإعتصام وما بعدها، لم يكنْ ينظرُ إلى خلافات وتناظرات طروح القوى المشكّلة للحرّية والتغيير، بقدر ما كانت توحّده أهداف أوّلها الإطاحة بالإنقاذ. أمّا الآن، فإنَّ الشّارع قادرٌ على التمييز، والوضع الإقتصادىّ والسياسىّ الخانق يؤهّله للنّظر الثاقب، أو على الأقل، إعادة النّظر فيما هو كائن.

قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...