عبدالرحمن عبدالله سيد احمد يكتب.. السودان وصفقة القرن

الزرقاء ميديا

 

في العام ١٩٧٨ تلقى مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي ميناحيم بيغن رسالة من مجهول؛ يدعي انه ينتمي لعرقية اثيوبية مضطهدة تمثل احدى المجموعات اليهودية التي هاجرت إلى إفريقيا واستوطنت فيها قبل اكثر من ألفي عام. طلبت الرسالة من رئيس الوزراء تقديم العون المادي والمعنوي؛ فالجفاف الذي اصاب المنطقة، والحرب الأهلية، دفع عددا من ابناء الفلاشا للهجرة الى السودان، حيث يعيشون في معسكرات اللاجئين تحت ظروف بالغة السوء. ولمزيد من الإثارة والتحفيز، ادعت الرسالة ان اكثر ما يؤلم يهود الفلاشا هو ما يعانونه من اضطهاد ديني و عرقي.

وجدت الرسالة (على الرغم من مصدرها المجهولة) اهتمامًا كبيرًا عند الرئيس بيغن؛ فقد جرب بنفسه مرارة العيش في معسكرات اللاجئين. وهذا ما جعله يوجه قيادة الموساد بتتبع مصدر الرسالة والتحقق مما ورد فيها ومن ثم وضع خطة مفصلة لإجلاء الفلاشا من أثيوبيا والسودان، منوها إلى أن هذا الأمر يجب ان يكون هدفا استراتيجيا لدولة إسرائيل.

لم يمض وقت طويل حتى بدأت الموساد عملية إجلاء ابناء الفلاشا الى إسرائيل (في العام ١٩٧٩)؛ مرت العملية بفصول مختلفة و محاولات متعددة. كان التحدي الأكبر الذي واجه الموساد هو وجود نظامين يصعب التعامل معهما؛ الأول في السودان ينظر لإسرائيل كدولة معادية؛ والآخر في اثيوبيا يعتبر أقلية الفلاشا مجموعة لا تستحق الحياة.

لم يكن اجلاء العالقين في السودان أمرا سهلا؛ لكنه لم يكن مكلفا ايضا، فقد نجح الموساد (عبر رجل أعمال إيراني الأصل، بريطاني الجنسية) من تجنيد عملاء داخل نظام النميري؛ استطاع عبرهم تهريب عدد مقدر من الفلاشا من معسكرات اللاجئين وتسفيرهم الى إسرائيل. لكن العدد الكبير للفلاشا داخل الأراضي السودانية استوجب استخدام طائرات نقل عملاقة، وهذه لا يتثنى لها الهبوط سوى في مطار الخرطوم. تواصل الأمريكيون مع الرئيس النميري، والذي وافق بدوره على العملية شريطة التعامل معها بسرية تامة. لايعرف على وجه الدقة الثمن الذي طلبه النميري نظير العملية؛ لكن وبحسب ما هو متاح من معلومات؛ فإن القيادة السودانية تعاملت مع الطلب الأمريكي بكرم كبير ومن باب الصداقة مع امريكا (غير ان بعض المصادر تؤكد قيام إسرائيل بدفع مبالغ محدودة لعدد من المسؤولين والضباط السودانيين، لكنها مبالغ تافهة).

اما على الجانب الآخر؛ فقد مثل اجلاء العدد الضخم (ما يزيد عن ٢٠ الف نسمة) من الفلاشا المقيمين في إثيوبيا تحد من نوع آخر. لجأت إسرائيل الى التفاوض المباشر مع الرئيس منقستو (المحسوب على الكتلة الشيوعية)، والذي وافق على السماح بهبوط الطائرات الإسرائيلية في مطار اديس ابابا، لكنه اشترط مقابل ذلك ان تقوم إسرائيل بدعمه بالسلاح الغربي(فالحرب الأهلية الإثيوبية في أوجها، والمدن الإثيوبية تتهاوى في أيدي الثوار). أوضحت إسرائيل لمنقستو ان توفير السلاح امر عسير، نسبة للحظر الذي تفرضه امريكا على النظام الأثيوبي الشيوعي؛ لكن إسرائيل اقترحت الاستعاضة عن السلاح بالمال. لم يجد منقيستو بدًا من المضي قدمًا في المفاوضات، والتي ابتدرها بطلب مبلغ يتجاوز ال ١٢٠ مليون دولار. الجانب الاسرائيلي بدوره اعتبر المبلغ تعجيزيا؛ لكنه آثر الدخول في مفاوضات شاقة، أسفرت عن تخفيض المبلغ إلى ٣٥ مليون دولار تدفع نقدا. لاشك ان ظروف الحرب الأهلية و تقدم الثوار نحو العاصمة اديس ابابا في العام ١٩٩١ دفعتا النظام الإثيوبي إلى التنازل وقبول هذا المبلغ الزهيد.

في العام ١٩٩١، وبعد سقوط نظام منقستو بقليل، احتفلت الموساد باكتمال عمليات تهجير الفلاشا، اي بعد اكثر من ثلاثة عشر عام من استلام الرئيس بيغن للرسالة مجهولة الهوية.

على الرغم من كل تلك المجهودات المقدرة والمبالغ المهدرة، لا يمكن الزعم بأن الفلاشا وجدوا في إسرائيل ما فقدوه في موطنهم، فقد اصابتهم رتوش العنصرية المقيتة التي برعت الدولة الصهيونية في خلقها وبثها. فهل كان قدر الفلاشا ان يفروا من اضطهاد ابناء جلدتهم، الى اضطهاد ابناء عقيدتهم.

 

الواقع الجيوسياسي لدولة إسرائيل:

أقامت جامعة هارفارد ورشة عمل حول “الواقع الجيوسياسي الحديث لدولة إسرائيل” تحدث فيها عدد من المهتمين بقضايا الشرق الأوسط. اهم المتحدثين كان احد الخبراء الاستراتيجيين من إسرائيل، ذكر في مداخلته ما يلي:

“تاريخيا كان الخطر الأكبر الذي يهدد الأمن القومي الاسرائيلي هو وجود أنظمة قوية ومعادية في كل من مصر، سوريا، العراق، السعودية، الجزائر. بينما كانت إيران وتركيا تقفان في خانة الحياد. أما اليوم فقد تغيرت الخارطة تماما، لم تعد الأنظمة العربية تشكل خطرا من حيث قوتها وعدائها، فقد استطعنا تحجيمها وترويضها. لكن الضعف الذي تسببنا فيه جعل هذه الأنظمة تعيش حالة من الميوعة والهوان تفقدها السيطرة على شعوبها، وهذا هو الخطر الجديد الذي يهدد امن وسلامة إسرائيل. في المقابل تحولت تركيا وإيران من خانة الحياد إلى العداء المقيد “كما هو الحال مع تركيا”، أو العداء المطلق “كما هو الحال مع إيران”. ثم أشار إلى ان تدمير القوة الإيرانية هو امر حتمي لضمان امن وسلامة إسرائيل.

 

لقاء البرهان/ نتنياهو في أوغندا

حديث الخبير الاسرائيلي يصلح ان يكون مدخلا جيدا للتعليق عن اللقاء الذي جمع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان برئيس الوزراء الاسرائيلي بنجامين نتنياهو في يوغندا. فقد ظلت الخرطوم من العواصم العربية القليلة التي لا تعترف بإسرائيل، كما ان السودان ظل حليفًا استراتيجيًا لإيران طوال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير. لكن الفريق طه عثمان (مدير مكتب البشير، والذي اتضح فيما بعد انه رجل الإمارات داخل النظام) استطاع وضع حد لتلك العلاقة. حيث اقنع البشير ان السبيل الوحيد لحل المعضلة الاقتصادية المزمنة ورفع اسم السودان من قوائم الإرهاب الأمريكية هو الاصطفاف خلف الحلف السعودي/الاماراتي، وان ذلك لا يكون الا بالتضحية بإيران.

قناعتي الشخصية انه لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة التقارب السوداني الاسرائيلي بمعزل عن قرار البشير قطع العلاقة الدبلوماسية مع إيران؛ ومن المفارقات ان كلا من السعودية والإمارات (ورغم عدائهما الصارخ لإيران) لم تقدما على مثل هذه الخطوة، لكن البشير قرر ان يكون “ملوكيا اكثر من الملك”. ومن سخرية القدر ان نظام البشير لم يحصد من تقاربه مع الإمارات سوى الوهم. فالأزمة الاقتصادية لم تبارح مكانها رغم وعود ابوظبي الجوفاء، بل ان التسريبات الأخيرة اثبتت وقوف الإمارات خلف ثورة ديسمبر التي أجهزت على النظام وأودت برأسه إلى غياهب السجن.

 

التطبيع مع إسرائيل: المصالح والوعود :

من الفرضيات التي لا تقبل التشكيك عند القادة العرب ان أسهل الطرق لكسب ود واشنطون هو مغازلة إسرائيل. والشواهد على ذلك كثيرة.

في منتصف التسعينات، وبعد الانقلاب الشهير الذي قام به امير قطر السابق “حمد بن خليفة” على والده؛ بدأت الرياض تضيق الخناق على النظام القطري، ووقفت قطر عاجزة عن التصدي للجار السعودي، فلم تجد بدًا من الاستعانة بالراعي الأمريكي لوضع حد لهذه المضايقات. لم يكن بمقدور قطر تسويق نفسها في واشنطون على حساب الحليف السعودي. لكن دهاء حمد بن جاسم (وزير الخارجية القطري الأسبق) جعله يلجأ الى إسرائيل. كانت إسرائيل وقتها تبحث عن اعتراف يمكنها من إختراق المنظومة الخليجية، فوجدت بغيتها في الدوحة، والتي وافقت على استضافت اول مكتب للتمثيل الدبلوماسي و التجاري للدولة العبرية في ارض الجزيرة العربية. لكن في المقابل حصلت الدوحة على دعم اللوبي اليهودي في واشنطون، والذي مكنها من اختراق المؤسسة الأمريكية، وغني عن القول ان ثمرة ذلك الاختراق الدبلوماسي تمثل في استضافت قطر لأكبر القواعد الأمريكية في المنطقة (قاعدة العيدية).

 

لاشك انه وبعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالدولة الاسرائيلية في أوسلو، لم تعد النظرة العربية الى إسرائيل كما كانت عليه إبان حقبة الستينات والسبعينيات وحتى الثمانينات. وهو الشيء الذي دفع بعدد من الأنظمة العربية إلى الانتقال من خانة الممانعة إلى خانة التطبيع. امام هذا الواقع الجديد، لم يكن لقاء الرئيس السوداني بنظيره الاسرائيلي أمرا مستغربا. لكن المحزن ان الخطوة لم تراعي المصالح الوطنية والمكاسب الاستراتيجية، فإذا كان اللقاء ثمرة لحوار داخلي حول الموقف من إسرائيل، يوازن بين المكسب السياسي والموقف الأخلاقي (وليس لقاء سريا بترتيب خارجي) لكان يمكن تقبله على الأقل كخطوة تكتيكية. لكن وللأسف الشديد لم يكن اللقاء سوى تكرار لاستراتيجية فاشلة. فقد صرح البرهان ان لقاءه مع نتنياهو جاء تطبيقا لمبدأ “مصلحة البلاد فوق كل اعتبار”؛ وان العلاقة مع إسرائيل من شأنها ان تسهم في رفع الحظر الامريكي عن السودان. وهنا تبرز التساؤلات:

1. ماذا استفاد السودان من قطع علاقته مع إيران واصطفافه خلف المحور الإماراتي؟

2. هل استطاعت إسرائيل رفع الحظر عن نظام منقيستو؟ وهل قدرت خدماته الجليلة في ملف ترحيل الفلاشا؟

3. ماهو الضمان الى عدم تكرار الخطأ الذي وقع فيه الرئيس نميري (ذو الخلفية العسكرية)، والذي كان في غاية الكرم مع إسرائيل ولم يحصل منها على شيء (مقارنة بما حصل عليه نظام منقيستو).

 

مستقبل إسرائيل:

نشرت النيويورك تايمز في سبتمبر ٢٠١٩ مقالًا شيقًا للكاتبة الامريكية (من اصول يهودية) جوديث شلفيتز بعنوان “لماذا يصعب على اليهود الأمريكيين الاحتفاظ بمشاعر المحبة تجاه إسرائيل”. ذكرت الكاتبة ان يهود أمريكا كانوا أقوى المناصرين لدولة إسرائيل، لكن الأجيال الحديثة لم تعد تشعر بنفس الولاء والحميمية. ولمعرفة الأسباب التي تقف خلف هذا التحول، حاولت الكاتبة استطلاع آراء الشباب، الأكاديميين و رجال الدين اليهود في امريكا. فكانت اهم النقاط التي خرجت بها هي ان الروح الليبرالية التي يغرسها النموذج الأمريكي في المواطن والمهاجر على حد السواء تجعل اليهودي الامريكي يشكك في النهج الليبرالي لدولة إسرائيل بل وينظر اليها كدولة ظالمة مغتصبة، تسعى لتحقيق الرفاه لفئة من المجتمع، ولا يزعجها مصادرة حقوق باقي الفئات. وتشير الكاتبة إلى ان هذه النظرة السالبة تجاه إسرائيل تكاد تمثل القاسم المشترك لمعظم جيل الشباب. هذه الدراسة على بساطتها، واعتمادها على الملاحظات العامة، تجعلنا ندرك ان التحالف الاسرائيلي الأمريكي ليس زواجا كاثوليكيا، وان عوامل الزمان قد تترك اثرها. فالمرشح الديموقراطي في الانتخابات الأمريكية (اليهودي الأصل بيرني ساندرز) ظل يوجه انتقادات لحكومة نتنياهو، ويدعوا الى وقف الاستيطان، وتقديم مصلحة امريكا على مصلحة إسرائيل، كما ان الصوت الناقد لإسرائيل في المؤسسة الأكاديمية آخذ في العلو.

لقد ساعدت التكنلوجيا بشكل فعال في نقل معاناة مختلف فئات المجتمع الاسرائيلي، و التحيز السلبي الذي يمارس داخل دولة “إسرائيل الديموقراطية”. كما ان الوعود الزائفة بوقف عمليات الاستيطان، والتي ظلت القيادة الاسرائيلية تطلقها، بدأت تقلق قيادات الاحزاب في امريكا. وهو ماجعل الرئيس اوباما عاجزا عن خلق علاقة ودية مع نتنياهو بل واتهامه صراحة بالكذب والمراوغة (وهو امر لم يسبقه عليه احد من اسلافه الرؤساء).

 

العلاقة السودانية الاسرائيلية:

لقد اثبتت تجارب التاريخ ان انفراد الحاكم بالقرار الاستراتيجي يضيع المكاسب التي يمكن تحقيقها عبر التفكير الاستراتيجي الجماعي (تجربة الفلاشا في السودان)، كما انه يقدم المصالح الشخصية على المصالح القومية(ما يعرف بال Interesrt of Agent). لقد كشف ادوارد سعيد اسرارا لم تكن معروفة عن اوسلوا و تهافت النظام الفلسطيني سعيا وراء سلام متوهم؛ لكن الأهم هو توثيقه للخيانة الاسرائيلية و التمادي في نقص العهود والوعود التي قدمت للراحل عرفات وأركان حربه: ابومازن، نبيل شعث، وعريقات.

من الواضح ان إسرائيل تسعد كثيرا بهرولة الزعماء اليها سرًا؛ فحالة التخاصم مع الذات والمجتمع التي تعتري الحاكم المهرول تجعله منفصلا عن شعبه، متنازلا عن مصالحه، باحثا عمن يحميه من ابناء جلدته، وهذه هي اولى مراحل العمالة.

لست من دعاة التخاصم والقطيعة، فقناعتي ان الوجود الاسرائيلي اصبح أمرا واقعا لا يجدي انكاره بل يجب التعامل معه. لكني ارفض ان يتم التعامل مع هذا الملف الاستراتيجي الحساس، بهذا التبسيط و الغفلة، من قبل أشخاص يفتقرون الى البعد الاستراتيجي. فالمفاوض الاسرائيلي الشرس الذي تمكن من اقناع الرئيس منقيستو بقبول ربع المبلغ الذي اشترطه؛ قادر على فعل الشيء نفسه مع الرئيس عبدالفتاح البرهان، وهنا يذهب الشعار “مصلحة البلاد فوق كل اعتبار” ادراج الرياح.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...