هي إحدى روائع الفنان الموسوعي ليوناردو دافنشي؛ “العشاء الأخير” لوحة عبرت عن ردود أفعال مختلفة تجسدها الديناميكيّة في الشخصيّات المرسومة لحظة إعلان (يسوع) عن خيانة أحد التلاميذ..إكتملت ملامح هذه اللوحة بعد ثمانية عشر عاما من الجهد المبذول والتى تحولت فى وقت لاحق إلى عمل سينمائي.
إستغرقت الإنقاذ ما يقارب ضعف المدة التي سبقت تبلور “العشاء الأخير” في شكل جديد. فقد التف حول عنقها حبل السنين المتطاول دون أن تتضح معالم توجهاتها بعد لا في برنامجها الاقتصادي ولا حتى علاقاتها الدولية وما يتصل بها من تحالفات اقتصادية، ولا في تصوراتها لكيفية هيكلة الدولة السودانية على أسس سليمة وما يستصحب ذلك من خطط إدارية مطلوبة تساهم في تقصير الظل الإداري وذلك حتى تتمكن البلاد من قطف ثمار الصرف المهلك على الجهاز التنفيذي المترهل والفاقد للفعالية التنفيذية. بل فقدت الدولة مصداقيتها وقدرتها على مجابهة تحديات الفساد المالي والإداري المستشري داخل دولاب الدولة.
بقدر البشريات التي تسربت قبيل بث خطاب طال انتظار جموع الشعب السوداني له بما كان يمكن أن يعيد الأمور إلى نصابها الذي يرتضونه وبما يجنب البلاد شر المزيد من التوتر، مر مساء الأمس مضفيا المزيد من الغموض العام على الشارع السوداني. جاء خطاب الرئيس مبهما ولم يحمل جل التصريحات المنسوبة إلى مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني عبر كلمات مباشرة حملت ربما بعض “البشريات” التي إشرأبت الأعناق لقطفها؛ إلا أن التضمين والغموض في خطاب السيد الرئيس جاءت تأثيراته سالبة بل ومخالفة لتطلعات عموم الشعب.
رغما عن معرفتى بخطورة السباحة ضد التيار، إلا أن المخاوف من خطورة انزلاق البلاد إلى متاهات لا قرار لها، حفزنى إلى التدقيق في ما وراء الكلمات الغامضة التى لا تتجاوز المواقف التفاوضية.
فيما يلي محاولة متواضعة لإعادة قراءة المشهد السياسي المحتشد بالأحداث، بغية إزالة “الغبش” الذي صاحبها:
1- لا شك أن صون الدولة السودانية ضد الأخطار المحدقة بها أمر أكبر من “عباءة” حزب المؤتمر الوطني.
2- بات جليا أن الحزب الحاكم غير متجانس وسفينته لم تعد تحتمل هذا التلاطم القوي للأمواج داخليا وخارجيا.
3- نجحت ثورة الشباب في فرض الأمر الواقع على أجندة السياسة السودانية متجاوزة بذلك “شيخوخة” الدولة السودانية على نطاق الحكومة والمعارضة، فجاءت تحمل حزمة “نبيلة” من (الأهداف والمبادئ) التي صيغت بشيء من الحكمة والتعقل بما يمكن من تسويقها كنموذج لا يقل قوة وألقا عن نموذج الثورة الفرنسية.
4- رسوخ المفاهيم لدى الشباب وإدراكهم حقيقة أن الدولة السودانية بتنوع مواردها الطبيعية والبشرية والمادية قادرة على صنع نموذج اقتصادي غني هو الأكثر تأثيرا على المحيط العربي والأفريقي، إلا إن قاطرة السياسة السودانية بتعقيداتها الداخلية و”الاختراقات” الخارجية، أقعدت البلاد عن لعب الأدوار المأمولة على المحيط الإقليمي والدولي منذ حقبة الاستقلال، ما يؤكد على ضعف أنظمة الحكم التى تتمظهر سلبا على تماسك وقوة الدولة السودانية.
إن “مشهد البارحة” بحاجة إلى إعادة قراءة دقيقة، علها تسهم في الحفاظ على ما تحقق من مكاسب على الأرض على اعتبار أن السياسة هي “فن الممكن” وأن افتراض حسن النوايا في التشكيلات الحزبية بشكلها القديم غير متوفر بالقدر المطلوب، حيث أنها جميعها تفتقر إلى برامج اقتصادية قابلة للتطبيق. فالمطلوب الآن بناء تنظيم سياسي ينتشل البلاد من براثن الفوضى يقوم على أسس جديدة تواكب المتغيرات الواقعية بما يضع البلاد وشعبها في المكان الذى يليق به في مقدمة الأمم.
ومهما حملت كلمات خطاب الرئيس من “إبهام وتغبيش”، إلا أن المعادلة “الصفرية” تعنى أن حزب المؤتمر الوطني أصبح خارج معادلة السلطة، وما تواتر عن إمكانيةوقف إجراءات تعديل الدستور مع وجود الرئيس فى موقف الحياد ما يفصح عن إمكانية مساهمة الثوار في تشكيل ملامح المرحلة المقبلة وما يعنى عمليا الدخول في فترة انتقالية لا تتجاوز العام الواحد مع التأكيد على اختيار هيئة قومية تشرف على قيام انتخابات نزيهة تضمن لجموع الشعب بمختلف ألوان طيفهم المشاركة في إعادة بناء الوطن واستعادة مجده واستقلاليته.
هذا التفسير تلزمه خطوات “جدية” من النظام وإبداء لحسن النوايا بإطلاق جميع المعتقلين السياسين.
لا بد من التأكيد على أن الشباب بإمكانهم فرض الأمر الواقع وصياغة المشهد السياسى على أسس جديدة تواكب المتغيرات الكبيرة على الراهن السياسى وتهيء البلاد إلى انتقال سلس للسلطة يتجاوز ركود الحياة السياسية المزمن.
فهيا بنا جميعا “نتشارك المستقبل” A shared future لصناعة الغد الزاهر ولنبدع الدنيا الجديدة وفق ما نهوى من أجل وطن يسع الجميع دون تمييز.