الظاهر من شهري يناير وفبراير 2022م تدهور الجنيه أمام العملات الأجنبية بشكل ملحوظ، فقد الجنيه حوالي 15-20٪ من قيمته، ولا يدري الغالبية ما السبب، بل ولايدرون إلى أين يمكن التهكن بأن يقف هذا التدهور، أصبح الجميع يسعى للتخلص منه كمدخر ويترددون في بيع البضائع الموجودة في المتاجر حتى يرون حداً لهذا التدهور، يعزي البعض الأمر للمشكلة السياسية، وآخرون لأسباب اقتصادية بينها توقف الدعم الخارجي وغيرها.
ولكننا نرى غير ذلك، فالقضية قضية تشريعات وممارسات داخلية، تعمقت بعد صدور منشور لسياسات صادر الذهب، وهو منشور جديد لبنك السودان المركزي صدر بداية هذا العام 2022م بالرقم (2022/3) ، بعد أن كان المنشور السابق قد حافظ على ثبات الجنيه أمام العملات الأخرى لكل العام تقريباً ، قد يميل البعض إلى أنه أحد أسباب، نعم لا يمكن إنكار ذلك، ففي المنشور نقاط ساهمت على تضييق الأمر لدى سوق الذهب تحديداً، والذي أصبح يتحكم في الدولار، وبالتالي يؤثر على الجنيه بدوره فيتهاوى أمام العملات الأجنبية بفقدان قيمته الشرائية، ففي المنشور فقرات دعونا نركز عليها تحت عناوين مهمة :
الأول عن ثغرات ودوافع للإحجام أو للتهريب :
فضلاً عن أننا كنا نكافح التهرب التقليدي من دفع العوائد الجليلة للحكومة، وكذلك التهريب عبر المنافذ والمعابر؛ إلا أن المشكلة ازدادت تفاقماً، دعونا نتطرق إليها.
(1) المشكلة : في المنشور فقرة؛ مثل التي لم تستثنِ الذهب الحر من ذهب الشركات في رسوم التصفية؛ سيما أن شهادة مصفاة الخرطوم للذهب الحالية غير معتمدة عند أي جهة خارجية، وهذا قد لا يشجع من يصفي ذهبه أن يهدر 90 دولاراً ذهاباً إليها، وبالتالي سوف يحجم عن التصدير ريثما تتغير السياسة أو يتخذ طرقاً أخرى، وهذا ما نسميه تهريباً، بل إنه في المنشور السابق كان فقط يكتفي بالذهاب لهيئة المواصفات والمقاييس؛ ولكن اليوم لن يذهب إليها حتى؛ لأنه لن يمكنه التصدير عبرها، وقد لوحظ أن وارد الذهب للمواصفات قد قل من 70 كجم في اليوم إلى صفر تقريباً .
الحل : نتفهم حوجة المصفاة لتراكم كل إنتاجية الذهب عندها لأغراض الاعتمادية، ولكنها يجب أن تعامل القطاع التقليدي بسياسات أكثر تشجيعاً ، فبدلاً عن المساواة بينهم وأصحاب الشركات في التعريفة، عليها أن تقلل سعر التصفية للقطاع التقليدي بشكل رمزي لا يزيد عن تعريفة المواصفات والمقاييس السابقة، فبذلك سوف تستقطب كل ذهب المنتجين، هذا بالإضافة لأن تسلم السبائك المصفاة فوراً من احتياطاتها لحظة التسليم، ولا تدع المنتج ينتظر في أي صف، وتبحث المصفاة عن ممول آخر لتحميله تكاليف هذا العجز مثل المالية او البنك المركزي نفسه.
(2) المشكلة : أيضاً عمد المنشور إلى تقليل فترة حصائل الصادر من (21 يوماً) إلى فقط (5 أيام عمل) لبيعها للبنك بالسعر المعلن، والسعر المعلن دوماً في البنك يكون الفارق كبير بينه وبين السعر في السوق الموازي، وهذا أيضاً لا يشجع من يصدر إلى أن يخاطر بفقدان تقريباً بين 40 إلى 60 جنيهاً في كل دولار يدفعها للبنك، وفي عينه السوق الموازي.
الحل : أن يترك فترة ال(21) السابقة في مكانها أو النزول إلى (15 او 10 أيام عمل) تدريجياً حتى يطمئن المصدرون من عدم المخاطرة في فقدان الفارق أعلاه، حال عدم الوفاء بالمدة التي نراها قصيرة جداً ، إذا لاحظ البنك المركزي أي انحرافات وتلاعب بين البنوك التجارية والمصدرين في حصائل الصادر، عليه اتخاذ إجراءات منفردة حال أي مخالفة، هذا أفضل من العقاب الجماعي هذا.
(3) المشكلة : أيضاً شيء آخر في المنشور، وهو إجبار أصحاب الذهب المشغول ان يضعوا ضماناً مساوياً للكمية المراد تصديرها يعني إذا أردت ان تصدر 15 كجم؛ عليك أن تضع ضماناً أيضاً 15 كجم، وهذا مستحيل، ويضر بأصحاب الأعمال أن يقسمون رأس مالهم بسبب هذه الفقرة، لا نرى هنالك ضرورة لهذه الفقرة؛ سيما أن صناع الذهب المشغول معروفون بمواقعهم، بل بتجارتهم منذ وقت طويل وتنعدم فيهم شريحة الوراقة ( الشركات الورقية الوهمية).
الحل : هو اتخاذ إجراءات ضمان غير هذه (وقد تم) مثل الشيكات او شهادة تسجيل الشركة وورق عقارات وغيرها من الضمانات، سيما وأن الصاغة وأصحاب الذهب المشغول، كما قلت هم معرفون اسماء وشركات وأسر قديمة تمتهن هذه التجارة، وليس فيهم فئة الوراقة، وتنعدم عندنا الورش الحديثة لتوطين الصناعة حالياً، بل نساؤنا يفضلن مشغول سوق دبي أكثر من المحلي.
سبب تدهور قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية وارتفاع أسعار الذهب أكثر من البورصة أحياناً.
(4) المشكلة : أخطر ما في المنشور أنه سمح لنفس الجهات المصدرة أن تكون هي الموردة نفسها أو تستخدم هي نفسها الحصيلة، وهذا ما سوف يجعلها تخرب توازن سوق الذهب (بشرائه بأعلى من سعر السوق أو حتى سعر البورصة نفسه)؛ باعتباره أكبر صادرات البلاد وأضمنها في السوق العالمي، ولا يكترث المصدر – المورد من رفع السعر من أجل أن تستورد سلعة او تستفيد من حصائلها، ليغطي هذا المصدر – المورد خسارته الأولى، والتي اشترى فيه الذهب بأعلى من السوق وأعلى من البورصة بربحه في السلعة التي يستوردها، ومن عملية الاستيراد، وهذا ما نلاحظه في الزيادات غير المبررة، خاصة للوقود رغم استقراره في السوق العالمي سيما أن الحكومة قامت بتحرير سعره، فلن يبرر أحد الزيادة في السوق المحلي.
دعونا نكون أكثر وضوحاً بضرب مثل مباشر في هذه النقطة تحديداً ، ليتفهم القارئ ما نقوله، هب أن سعر كيلوجرام الذهب في العمارة (بورصة الذهب التقليدية في الخرطوم ) هو 23 مليون جنيه، وهنالك شركة من نوعية ( Petro-Gold بترو – قولد وهي التي تصدر الذهب لتستورد بحصائله الوقود)، تريد أن تقوم بشراء شحنة او شحنتين عاجلتين من الجازولين او البنزين، تأتي هذه الشركة – ولعجلتها هذه ولكي تجذب الباعة في العمارة – تضع سعراً أفضل من السعر اليومي مثلاً 24 او 25 مليون للكيلوجرام وأحياناً يصل لسعر يفوق سعر البورصة في دبي، لا يهم لأنها تعلم أن الخسارة يمكن تعويضها في سعر الوقود المستورد لاحقاً؛ سيما وأن الحصيلة، وفق المنشور، تكون لها كأولوية وأنها تعلم أيضاً أنها وحدها يمكنها أن تستورد شحنة الوقود للسوق، لأن القطاع الخاص كله ليس مؤهلاً لاستيراد الوقود بسبب ضعف البنية التحتية في بلادنا، لذلك نرى تحرك سعر الذهب بسبب التصدير والاستيراد للوقود، ويتبعه الدولار، وبالتالي يفقد الجنيه جزءاً من قيمته ويتهاوى سعر صرفه أمام العملات الأجنبية مثل الدرهم وغيره، وتتبعه رفع للأسعار، وعندما تصل شحنة الوقود تكون بأعلى من السعر السابق حتى ولو شهد استقراراً في الأوبك او السوق العالمي.
الحل : يجب أن لا نسمح للمصدر أن يكون هو نفسه المورد، فالبنك المركزي ملزم، وعليه أن يؤمن لكل الموردين حصائل صادر للاستيراد؛ وبأسرع مايمكن، خاصة لمن يوردون السلع الاستراتيجية (وقود وقمح ودواء) دون معرفتهم حتى بالجهة المصدرة، وفي البنوك التجارية المتعددة، وأن لا يسمح جهاز الأمن الاقتصادي لأي جهة أن تشتري الذهب بأكثر من قيمة البورصة التقليدية، وأيضاً يجب إنزال عقوبات صارمة للوراقة.
أسباب أخرى تهدد إنتاج الذهب في شركات الامتياز الكبيرة :
(5) المشكلة : أيضاً هنالك فقرة في المنشور أجبرت شركات الامتياز على أن تدفع حصائل صادر الذهب دفعاً مقدماً؛ فيه مبالغة وهو غير الطريقة التي كانت سائدة سابقاً؛ أن تبيع للبنك المركزي 30٪ من إنتاجها ويسمح لها بتصدير 70٪ فإنتاج شركات الامتياز دوماً يكون أقله في الإنتاجية الواحدة بين 80 ال 100 كجم، وقد يصل إلى أكثر من 250 كجم أحياناً، وهو ما يصعب عليهم دفع المقدم. كما يطلب البنك – وهذا أسهم في إيقاف هذه الشركات من التصدير، وبالتالي هذا يهدد الإنتاج بتوقف شراء مدخلاته من الخارج، كما كان يجري سابقاً بسلاسة.
الحل : يمكن للبنك المركزي أن يرفع من نسبة البيع المحلي من 30 إلى 50٪ ويسمح لنفس هذه الشركات أن تصدر 50٪ بدلاً عن إجبارها بالدفع المقدم.
هذه الملاحظات التي أوردتها في المنشور أعتقد جازماً أنها المسؤولة عن تدهور قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، ولا تلعب الظروف السياسية هنا أي دور لتدهور قيمة الجنيه؛ سيما وأن الجنيه ظل مستقراً منذ 25 أكتوبر وحتى 31 ديسمبر 2021م وهي كانت أشد الأيام حالكة في مسار الأزمة السياسية، وإذا ما طبقنا ما نقوله، سيما فصل المصدر من المورد، ووضع عقوبات صارمة للوراقة فإننا سنتجاوز أزمة عدم استقرار سعر الجنيه هذه.
هنالك من يعزي التدهور لرسم ال400 جنيه المفروضة من قبل الشركة السودانية للموارد المعدنية لاستمارة الذهب، وهذا ما نستبعده تماماً لأنه غير مسؤول عن ارتفاع سعر الذهب في السوق المحلي بأكثر من سعر البورصة، بل هذا المبلغ جاء بعد التخفيض من 1000 جنيه، ففي العام الماضي كان هنالك استقرار في سعر الصرف، الجنيه أمام العملات الأجنبية، رغم ال 1000 جنيه، فلا يوجد سبب يجعل سعر الذهب يرتفع بعد تخفيض الرسم إلى 400 جنيه.
25 فبراير 2022م