أيوب صديق يكتب : الكيزان بين رباح الصادق وآمنة أحمد المكي
ربما بات اسم الكيزان الآن أكثر تردداً في مسمع الناس مما كان عليه في فجر سقوط حكمهم. فعندما خرجت أول مظاهرة في أتبرة في عهد الإنقاذ، كانت تحتج على وصول ثمن رغيفة الخبز جنيها كاملاً. ولما نجحت الاحتجاجاتُ في إسقاط حكمهم، ظن المحتجون الذين كانوا في غالبيتهم العظمى من الشباب، أن الذين سيتسلمون زمام الحكم في بالبلاد سيُخفضون سعر رغيف الخبز إلى أقل من جنيه واحد للرغيفة، ومن ثَم ستنخفض أسعار السلع الأخرى.
ولكن الأحزاب التي استولت على دفة الحكم بعد الثورة، لم تكن من أسبقياتها تخفيض أسعار الخبز وغيره من ضروريات حياة الناس، بل كان على رأس اسبقياتها شيٌ أكبرُ من ذلك بكثير، وهو هدُ جدار ما كان عِماداً لحكم الكيزان بين الناس، وهو دين الإسلام، الذي تبنوه شعاراً، وتوسعوا في مؤسساته وتطبيق مبادئه. كانت تلك الأحزاب، التي تولت زمام الحكم، وذلك الذي كان يوجهها (من منازلهم) كما قال السيد عبد الله مسار، كانت تبغض الإسلام من منطلق عقائدها، فعملت على تطبيق ما تراه مهما في محاربته، وقد سايرها في حربها على اللإسلام، الجناحان العلمانيان، في الحزبين القديمين، وهما الجناحُ الذي تتزعمه الدكتورة مريم الصادق من حزب الأمة، الذي كان ينادي بإسلام الصحوة، وجناح الاتحاديين بزعامة محمد الفكي سليمان، الذي هو فرع من حزب كان يلهج بالجمهورية الإسلامية.
فشنت هذه الأحزاب مجتمعة، حرباً عوانا على الدين الإسلامي، إلغاءً لشرائعه وأحكامه، وتحليلا لمحرماته، وتمهيداً لكل سبل الوصول إلى ما نُهى عنه من الموبقات وسيء الأفعال. ونتيجة لتلك البيئة، شهد الناس ولايزالون يشهدون في طرقاتهم، أنواعا من الشباب، إناثاً وذكورا، لم يشهدوا مثلهم من قبل، من التفسخ والانحلال في المظاهر والسلوك، والخنا في اللغظ، والمجاهرة بالكفر والإلحاد. مثل قول أحدهم (لو وقع الله هذا الاتفاق معهم لعارضناه) وقول آخر(لو امتدت يد الله لإزالة هذا الترس لقطعناها) وقول آخر( أنا بصفتي سوداني لا يهمني إن كان الله موجودا أم غير موجود.) مثل هذا الكفر الصُراح يُسمعونه لشباب صغار يتلقونه منهم ثم يلهجون به في مسمع الجميع.
هذا الجيل الذي رعاه في الثلاثِ السنواتِ المنصرمة، قوم رضعوا من ذلك الثدي الملعون مبته، وجف في بلاده ولايزال حافلاً باللبن الملعون في بلادنا، تلتقمه أفواه هذا الجيل المغرر به، الذي قيل له إن انعتاقه من قيود الدين الذي فرضه عليه الكيزان إبان حكمهم، هو التقدم والرقي والتمدن واللحاق بأمم الغرب.
ومن ناحية أخرى ونتيجة لكل ذلك، بدأ كثير من الناس يتأسفون على زمن الكيزان، وهذا الأسف لزمن الكيزان، هو ما يخيف آل قحت، مما جعلهم يسعون بكل وسيلة، إلى العودة للحكم، حتي يبعدوا أكثر ما يكرهونه من طريقهم وهو الانتخابات، التي هي أبغض ما يسمعونه، والتي كما قال خالد سلك في صدق:(الانتخابات ما تجيبنا، عاوزين فترة انتقالية طويلة) وقد حددت تلك الفترة جماعتُه للسيد حميدتي بعشر سنوات أو خمس عشرة سنة، لأن الانتخابات كما يرونها ستجيئ بالكيزان، فكلما ذُكرت الانتخاباتُ ذُكر الكيزان فزاد نفور آل قحت منها.
ومن أغرب ما اطلعت عليه بشأن الكيزان، من أنصار حُكَّام الأمس، ما قالته السيدة رباح الصادق المهدي، من حزب الأمة، والدكتورة آمنة أحمد المكي من الاتحاديين، التي كانت والية ولاية نهر النيل. أما السيدة رباح فقد شملت جميع الكيزان بأنهم عديمو أخلاق بقولها: (الكيزان لا خلاق لهم ويكذبون كما يتنفسون). والسيدة رباح كانت ضحية خطأ لغوي، وهو خطأ فهمها لـ(الخلاق) بأنه الاخلاق، ولذا وصفتهم بأنهم لا خلاق ويكذبون كما يتنفسون. والمعنى اللغوي للخلاق هو النصيب. ولذا يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) الآية 77 آل عمران.
أما السيدة آمنة أحمد المكي فأمرها أعجب بكثير من أمر رباح. فقد قالت في تسجيل بالصوة والصوت عن الكيزان: (مع بداية العام، بشريات العام، والله لن نُبقي على كوز في مؤسسة ولو كان الشريف الرضي، نزيه ويصلي ويصوم، وما خِد الوظيفة التي هو فيها بحق، نحن ما حنخليهو، لأنه شنو..لأنه كان قاعد داخل المؤسسة وفي ناس بيظلموا في المؤسسة ..) كان هذا قول آمنة أحمد المكي بصوتها.
أولا ؛ لماذا ضربت مثلاً للنزاهة والصلاة والصوم بالشريف الرضي تحديدا؟ وهل الشريف الرضي هو الوحيد الذي كان نزيها ويصلي ويصوم؟ وأنا أفسر ذلك بأحد احتمالين، أما الاحتمالُ الأول فن السيدة آمنه المكي اشتبه عليها المعنى اللفظي، فكما ظنت رباح أن الخَلاق هو الأخلاق، ظنت آمنة أن اقتران الشرف والرضى في لقب الرجل (الشريف الرضي) يدلان حقاً على مكانة الرجل الذي اختارته مضرباً لمثلها، باعتبار أنه شريفٌ ومرضيٌ عنه، لصلاته وصومه.
وجدير بالذكر أن اسم الرجل هو محمد بن الحسين بن موسى. والاحتمال الثاني ربما أنها شيعية المذهب، وأرادت أن تخبرنا بتشيعها، بضربها مثلا بشخصية شيعية معروفة في زمانها، وإلا فلماذا كان اختيارها للشريف الرضي؟! ثم ما ذنب الكوز الذي يعمل في مؤسسة نال وظيفته فيها بكل جدارة، وفي المؤسسة معه مظلومون؟ ولعل الذي حملها على هذا الموقف الظالم، ما وجدته نهجا متبعا من وجدي صالح وفريقه في ركوب متن الظلم في رابعة النهار، وتلذذهم بكل أنواعه،( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.) .
فالسيدة آمنه التي عينها أهل الحكم والية على ولايتنا ( نهر النيل) قد استبدت بها السلطة أيما استبداد مما جعلها تقول عن الكيزان إنهم مهما تمتعوا بنزاهة وصلاح، وتولوا مناصبهم بجدارة فإنها لن تبقي عليهم في مؤسساتها! فلماذا؟ هذا قول يدل على منتهى الظلم، الذي تنوي ارتكابه في حقهم، رغم تحذير الله عباده منه، وكأنها بذلك تتحدى أمر ربها، فتعمد إليه انتقاما من خصومها، وكأنها لا يهمها الوعيد بـأن الظلم ظلمات يوم القيامة.
ولكن الحمد لله الذي نزع السلطة من يدها، قبل أن تُقدِم على خطوة تكون أكبر من المجاهرة بالظلم. ولعلها لو بقيت في حياض السلطة أمدا أبعد، فلربما سلكت فينا مسلك (سجاح في بني تميم)، ولا سيما فنحن بلد قد تنبأ فيه من قبلُ رجلٌ منا ثم تألَه، ناهجاً بذلك نهج الباب الشيرازي ثم تلميذه البهاء. وعبده منا قوم في حياته وظنوا أنه لن يدركه الموت، فمات كما يموت البعير كما تقول العرب، وكما مات من قبلُ الباب الشيرازي ثم تلميذه البهاء. ذلك الذي تنبأ فينا ثم تأله، مات أمام أعين عابديه، بعدما أحيا فينا المذهب البهائي في أوضح صوره، وهذا شيء قد كتبت عنه من قبل.
صحيفة الانتباهة