العبيد أحمد مروح يكتب: متحور السودان الجديد !!

(1)
تعود الملكية الفكرية لمشروع “السودان الجديد” للعقيد الراحل جون قرنق، مؤسس “الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان”، وخلاصة الفكرة، كما تم توثيقها في الإصدار الأول لمانفستو الحركة، هي أن السودان بشكله القديم يجب أن يذهب ويحل محله سودان جديد، تم وصفه في البيان التأسيسي بأنه (سودان إشتراكي موحد وليس جنوب السودان منفصلاً)، وفي ذات البيان صنفت الحركة أصدقاءها الحقيقيين والمحتملين وكذلك أعداءها الحقيقيين والمحتملين وسمت خمس فئات من المجموعة الثانية فقالت هم (الصفوة البرجوازية البيروقراطية الشمالية و الصفوة البرجوازية البيروقراطية الجنوبية وقادة الأنيانيا 2 الرجعيون و الدول الأفريقية والعربية الرجعية و الإمبريالية).
عبارة الصفوة البرجوازية البيروقراطية الشمالية، كما ورد في سياق آخر من أدبيات الحركة وقتها، تعني القوى الرأسمالية والحزبية التي ورثت دولة الإستقلال، مضاف إليها القوى الدينية التقليدية والخدمتين المدنية والعسكرية، وهي العمود الفقري للسودان القديم، وقد كانت الحركة وقت تأسيسها ترى أن تلك القوى “المتحالفة مع الإمبريالية” ينبغي تفكيكها كشرط لإقامة السودان الجديد، ولعل هذا ما يفسر أن الحركة قد رفضت أن تكون جزءاً من الديمقراطية الثالثة حيث ظن الكثيرون أنه بمجرد نجاح انتفاضة أبريل 1985 وزوال نظام الرئيس نميري ستوقف الحركة إطلاق النار وتنخرط في مفاوضات سلام تؤدي إلى تعزيز النظام الديمقراطي، لكن الحركة واصلت حربها واحتفالاتها بإسقاط المدن واحدة تلو الأخرى، وكان عدد من الشماليين الذين يدعون الآن الدفاع عن الديمقراطية والدولة المدنية منخرطين في تلك الحرب على النظام الديمقراطي الذي كان قائماً، بالأقوال والأفعال !!

(2)
أحدثت قيادة الحركة الشعبية نقلة في خطابها وتحالفاتها، وأعادت صياغة أجندتها بما يستوعب المستجدات وذلك عقب سقوط الشيوعية الدولية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتفكك الإتحاد السوفيتي، وهو ما أدى بدوره لسقوط النظام الشيوعي في أثيوبيا بزعامة منغستو والذي كان يحتضن الحركة ويسهل لها الحصول على المال والسلاح والإعلام، ومن تلك المستجدات أن الحركة أصبحت حليفاً وشريكاً في “التجمع الوطني الديمقراطي” المعارض لنظام الإنقاذ والذي يضم أكبر حزبين يمثلان مصالح “الصفوة البرجوازية البيروقراطية الشمالية”، كما أضحت الحركة الشعبية بحاجة إلى كسب تعاطف الأنظمة العربية أو تهدئة مخاوف بعضها من تقسيم السودان، خاصة وأن نظام الإنقاذ قد كسب بالمقابل قدراً لا يُستهان به من خصومةِ تلك الأنظمة إما بسبب موقفه المعارض لاستقدام القوات الأجنبية للمنطقة في إثر الغزو العراقي للكويت أو بسبب ما نسب إليه من احتضان لعناصر إسلامية معارضة لتلك الأنظمة.
ووفقاً لهذه المستجدات، لم تتراجع النبرة اليسارية في خطاب الحركة الشعبية ومواقفها السياسية وتصوراتها للسودان الجديد فحسب، بل حدث تحول جوهري في ذلك ببناء تحالف مع القوى “الإمبريالية والرأسمالية”، حيث أسهمت في ذلك منظمات الإغاثة الغربية العاملة في مناطق سيطرة الحركة وفي الدول التي تحتضن قياداتها، خاصة المنظمات النرويجية والبريطانية والأمريكية، وتمت إعادة هندسة فكرة السودان الجديد فأصبح أساسه عرقياً وعنصرياً، بحجة أن الشعوب السودانية ذات الأصول الأفريقية أو التي لا تدين بالإسلام وقعت عليها مظالم تاريخية وتهميش متعمد واسترقاق، وأن الوجود العربي في السودان هو وجود أقلية، قد حان الوقت لأن تتولى تلك الشعوب الأصلية مقاليد السلطة في السودان الجديد بعد تحريره !!

(3)
تمسكت الحركة الشعبية بتحالفها مع المعارضة الشمالية، وانخرط الجميع في الجهود الأمريكية للإطاحة بنظام الإنقاذ عن طريق الحرب، طوال عقد التسعينيات، حتى انتهينا، في بدايات الألفية، إلى اتفاق السلام الشامل ورحيل قرنق وإلى انفصال جنوب السودان، لكن مشروع السودان الجديد لم يمت بموت صاحبه برغم فشل تلاميذ الزعيم الراحل الذين قسموا بلادهم وصاروا يتصارعون على الجزء الذي اقتطعوه منها.
عقب انفصال جنوب السودان، تلاشت الفوارق ، أو كادت، بين مشروع السودان الجديد وبين أجندة القوى الخارجية الساعية لإسقاط نظام الإنقاذ، بعد أن كانت الترويكا الغربية التي رعت اتفاق السلام الشامل قد نجحت في مزج أجندتها مع الأجندة الجديدة للحركة الشعبية، وصممت اتفاق السلام ليكون أقرب إلى طموحاتها في أن يتولى قرنق رئاسة السودان، قبل أن تصيبها خيبة الأمل برحيله المفاجئ.
أصبح مشروع السودان الجديد، منذ أواخر أيام قرنق، يعمل على تزكية النعرات العنصرية والجهوية، في غرب السودان وفي جنوبه الجديد، تحت مظلة دعم مطالب المهمشين، ويحاول التمدد إلى شرق السودان وشماله، وأخذت القوى الغربية تدعم هذا الحراك بممارسة المزيد من سياسات خنق النظام إقتصادياً وتحرض الشباب السوداني للثورة، مستفيدة من الزخم الذي أحدثته ثورات الربيع العربي، إلى أن أدى هذا المجهود المتراكم وبعد نحو تسع سنوات من انفصال جنوب السودان، إلى الحراك الشعبي الذي انتهى بإسقاط النظام في الخرطوم.

(4)
لم يكن إسقاط حكم الإنقاذ نتيجة فعل وحراك ثوري محض، بل كان أمشاجاً تداخل فيها الفعلان الداخلي والخارجي بأساليب شتى وأدوار متنوعة، وكان الهدف المتفق عليه عقب إسقاط النظام بين الفاعلين الرئيسيين هو إقامة “سودان جديد” يتفق مع متحور الحركة الشعبية في كثير من أوجهه، لكنه يزيحها من كابينة القيادة إلى الصفوف الخلفية ويجعلها إحدى أدوات تنفيذ المشروع ضمن آخرين.
خلاصة فكرة المتحور الجديد لمشروع السودان الجديد هي إعادة صياغة أوضاع السودان إقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ليندرج في مشاريع العولمة والليبرالية الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم ينطلق السودان – بحكم وضعه الجغرافي الحاكم – في خدمة الأجندة الأمريكية المنافسة للنفوذ الصيني في القارة السمراء، ويتطلب هذا الإندراج – هو الآخر – هدم البناء الذي كان قائماً وإعادة تأسيسه وإقامة بناء جديد.
الآن نستطيع أن نفهم لماذا كانوا يُسمون الدكتور عبد الله حمدوك ب “المؤسس” ولماذا تم الإتيان بنصر الدين عبد الباري وزيراً للعدل، ولماذا بقيت سلطة التشريع لعامين في يد الجهاز التنفيذي يفعل بها ما يشاء، ولماذا انخرط السودان في مشاريع صندوق النقد والبنك الدوليين دون أن تتهيأ أوضاعه الإقتصادية وقبل أن يتم ربط نظامه المصرفي بمنظومة التحويلات الدولية، ولماذا تصر مجموعة مدنية غير منتخبة على الاستحواذ على كامل السلطة ولعدة سنوات ، ولماذا يكون التأخير المتعمد في إقامة مؤسسات الفترة الإنتقالية وتمديد أجلها كلما اقتربت نهايته ؟ والإجابة على هذه التساؤلات وغيرها شديدة الوضوح وهي أن أصحاب متحور مشروع السودان الجديد ما يزالون يصرون على أن يصيب بعدواه كامل الجسد السوداني برغم ما يجده من مقاومة نتيجة المناعة الطبيعية.

(5)
تجسدت تلك المقاومة الطبيعية في وعي الناس والمجتمع المحافظ بأبعاد المشروع المتحور وبخطورته، وتجسدت كذلك في استعصاء مؤسسات “السودان القديم” على الهدم والتفكيك وعلى رأسها مؤسسة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، وفي ميل قوى السلام في الغرب والشرق إلى البحث في صيغ بديلة عن المواجهة المسلحة يُعاد على أساسها بناء الإستقرار في السودان وتتم إقامة التحول الديمقراطي؛ غير أن هذه المقاومة نفسها أضحت تجد مقاومة من الأطراف الخارجية التي استحوذت على النصيب الأكبر من مشروع التغيير، أو قل إن شئت على متحور السودان الجديد!!
يسعى المستحوذون الجدد، عبر أدواتهم المحلية، لبث أقدار هائلة من خطاب الشيطنة والكراهية بقصد إحداث فجوة معنوية عميقة بين الحاضنة التقليدية للمجتمع، بما في ذلك الأحزاب القديمة، وبين الأجيال الجديدة من الشباب الذي تجري تعبئته تحت لافتات مختلفة، ومن جهة أخرى بين هؤلاء الشباب وبين القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى مضاف إليها الحركات التي وقعت على السلام في جوبا، لأن أولئك المستحوذين يرون أن المجتمع التقليدي والأحزب القديمة والقوات النظامية هي جزء من السودان القديم الذي يتعين هدمه.
السيناريو الحالي الذي يجري تنفيذه بتكامل بين الخارج وأدواته بالداخل، هو ممارسة أقصى قدر من الضغط على السلطة الحاكمة، من خلال الشارع والإقتصاد والتلويح بالعصا وبعض من جذرة، لكي تتنازل القوات المسلحة عن السلطة وتسلمها للحاضنة التي تجرى صناعتها من “أصحاب المصلحة” على أن تشكل هذه الحاضنة الجهاز التنفيذي ويتشكل منها الجهاز التشريعي في غالبيته المطلقة، ومن هناك ينطلق قطار التأسيس في مرحلته الثانية حيث يتم سن التشريعات المطلوبة وصياغة قانون الانتخابات والمصادقة على الدستور الذي هو الآن شبه جاهزوتشرف عليه إحدى المنظمات الألمانية المختصة في هذا المجال !!

كاتب صحفي وسفير سابق

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...