*حاتم الذي اعرف..*

 

د. إبراهيم الصديق علي
دخلنا عليه ذات يوم في أمر ما ، وتبين لنا خطأ معلوماتنا وتقديراتنا والروايات التي نقلت لنا، وقد استنفد من جئنا لنصرته حقه ومع ذلك لم ينقطع العشم ، وتحول النقاش لمجال الآخر، وحين هممنا بالخروج قلت له وكأن الأمر عابراً (إن سمة الكرام العفو عند المقدرة والتسامي والتسامح عن العثرات والزلل) وخرجنا وقلت لمرافقي (بشر زولك)، قال لي كيف؟ قلت له (اعرف حاتم)..
ولم يخذلني حدسي، فالاخ محمد حاتم رجل وقاف عند الحق وزاهداً في الإنتصار لذاته، ورقيق الإحساس، ما دافعته بخير إلا أنقاد لك، وما دعوت لفضيلة إلا فاق تجاوبه توقعك، وهو فوق ذلك صنو التجرد لفكرته وقضيته وذلك مسار حياته خرج مجاهداً من ساحة لأخرى ومن موقع لآخر، مترفعاً عن مظان التكالب و حظوظ النفس، وقصده ورود الحوض نقياً وصافياً كما زمرة الصادقين الذين أحبوه كما احبهم.. وسبقوه وهو من خلفهم على ذات الصدق والوعد، مضوا خفافاً، وهو على طريقهم وإن كثرت الإبتلاءات فذاك شأن الأخيار..
(2)
ارتفعت حدة النقاش بيننا في تلك الأمسية، بعد إنصراف الطلاب من دار إتحاد طلاب جامعة ام درمان الإسلامية بالعرضة أمدرمان ، فقد أبدى الأخ محمد حاتم سليمان ملاحظات على (الميكروفون) في الندوة الأكاديمية، ومع ان الأمر لم يكن موجهاً لنا ولكنني والأخ د. حسن محمد صالح قلنا له (البحث عن التفاصيل الدقيقة والسعي للكمال غير ممكن).. وسادت لحظة صمت وتسللت حينها لفوال قريب وجئت بالعشاء، ودعوتهما، ولم يجبني احد، ولم احفل بهما، وبعد دقيقة قام د. حسن وهو يردد (والله الواحد لو ما جائع ما كان يأكل)، فأنفجرنا بالضحك.. كانت القلوب صافية والنوايا خيرة والنفوس طيبة والغرس أخضر..
وتلك سمة الأخ حاتم في بحثه عن المثال المتخيل في ذهنه، ويسعى لذلك بدأب وهمة دون كلل وتؤرقه التفاصيل الدقيقة، ولعل ذلك سبب سعيه لتقريب المتميزين في الأداء والعطاء، وكان له السبق..
(3)
في أكتوبر ١٩٨٢م، ألتقينا لأول مرة في عربة تاكسي في طريقنا لاستديو فارتي بالخرطوم ، كنا مرشحين لإنتخابات إتحاد طلاب جامعة ام درمان الإسلامية، كنت في ايامي الأولى بكلية الدراسات الاجتماعية (شعبة الإقتصاد) ، وكان في عامه الثاني بكلية الآداب (شعبة الإعلام) ، شاب لطيف السيرة و نقي السريرة، وصاحب حكايات وأنس..
وبعد ٤٠ عاماً من المعرفة، اتفقنا فيها وإختلفنا، تباعدت بنا الأيام أو قصرت منا الهمة حيناً، فإن الأخ محمد حاتم / سليمان / يوسف بذات الهمة وذات الإندفاع المثابر لقناعاته ومواقفه..
(ذات مرة حدثني أحدهم عن اخ محمد، وقال لي انت لا تعرف محمد بن حاتم، قلت لي راجع معلوماتك وأبدأ بالإسم)..
.. خصلتان لا تنفك عن شخصيته :
– هو دائمآ، يحمل فكرة ما، وحين ينشغل بها، لا يتراجع عنها لأي سبب دون تحقيقها، وهنا تتجسد قيم العزيمة والإصرار وصلابة موقف، وفوق ذلك الطبيعة العملية في تجربته، فهو لا يكتفى بالتنظير، بل يمضي للتنفيذ والممارسة، فقد تجده في الاستديو أو في عربة التلفزة أو في ميدان العمل..
وحين تم تكليفه ، اول مرة في محافظة جبل أولياء عام ١٩٩٨م ، كانت إجتماعاته تبدأ في السادسة صباحاً، وذلك لكسر روتين العمل الإداري وتحريك الأداء في شريان المحافظة وهذا دأبة..
والخصلة الثانية، تمام الإستقامة، في كل شيء، وكما يحب أن تكون الأعمال في غاية التجويد، فهو حريص ان تكون وفق القواعد المعاييرية السليمة، ولهذا جانب آخر، ففي أشد حالات الأخ محمد حاتم إندفاعاً قد يتوقف (إلتزاماً) براي جماعة أو نزولاً على رجاء شخص كريم..
(4)
لأول مرة فاز السودان بجائزة الأفلام الوثائقية من خلال فيلم الشلك، من إنتاج شركة أمواج، وكوكبة من المتميزين من إخراج ونص وتصوير،( أكرم الله الأخ المبدع سيف الدين حسن وفتح العليم دفع الله ويوسف إبراهيم ود. فضل الله احمد عبدالله ود. عمر عبدالعزيز و سيف الدولة الملثم واسامة كنه والأرقم الجيلاني والرشيد عبداللطيف وخالد سعد وآخرين) وبإشراف شخصية ذات رهانات كبيرة وقد نجحت.. تلك مسيرة عامرة بالتميز والبحث عن الفرص والافضلية، وبعد ذلك بستة أعوام أصبح السودان رائداً في هذا المجال، هنا قدرات إبداعية، مساحات بكر للإنتاج، وبناء صورة ذهنية جديدة للسودان والموارد والبيئة والموروث الثقافي.. وعلى ذلك قس..
(5)
لأَول مرة حظي تلفزيون السودان بمراسلين في ١٥ محطة، منها القاهرة ورام الله ونيويورك والجزائر ولبنان في أعوام ٢٠٠٢م وحتى ٢٠٠٥م، ولأول مرة يتم تدريب ١٧ مراسلاً لولايات السودان مع كامل معدات التصوير والنقل المباشر عام ٢٠٠٧م، وقبل ذلك لأول مرة يتواصل البث التلفزيوني ٢٤ ساعة (حيث كان يتوقف ما بين ١٢ – ٦ ص)..
– لأول مرة تحظى وكالة السودان للأنباء بمبني جديد، وخدمة اخبارية مصورة وعربة تلفزة و٤٠٠ شاشة كمبيوتر في صالة تحرير مهيأة ونظام أرشفة متكامل)
– تنظيم أول مؤتمر صحفي للرئيس(Video Conference) بمشاركة صحفيين من مختلف عواصم العالم.
– لأول مرة تتضمن جدول الزيارات المهمة للرئيس، زيارة التلفزيون والإذاعة للإشادة بالأداء بعد صد عدوان حركة العدل والمساواة على ام درمان عام ٢٠٠٨م..
– لأول مرة تم تنظيم أيام مفتوحة لولايات السودان المختلفة، عن المجتمع وتطلعاته وعن التاريخ وعن الوحدة والتنوع..
– لأول مرة يتم الإهتمام بالإرشيف التلفزيوني، وهو ذاكرة تاريخية مهمة، وبناء مكتبة جديدة وتوقيع إتفاق للأرشفة..
(6)
ومع كثرة المشاغل، فإن منهج التطوير لم يتوقف عند الأخ محمد، وأتسع من الذات للمعنيين بالأمر، وللجيل القادم، فقد غادر الأستاذ محمد مدرسة السوكي الثانوية للبنات إلى رحاب جامعة ام درمان لزيادة التحصيل، وذهب في كورسات وندوات، وعمل متعاوناً بالتلفزيون بعد تخرجه، وحصل على المعارف والتجارب من د. بشير محمد صالح والاستاذ حمدي بدرالدين واستاذ منير محجوب ود. عمر الجزولي وغيرهم، وكلما شهد مؤتمراً اقتبس فكرة وزيادة في التقنية والتعامل معها بأفق مفتوح، ولذلك كان السودان من اول الدول في الإشتراك في نظام المينوس MENOS:
Multi Exchange Network Over Satellite
وذلك بدلاً لمنظومات النقل المباشر SNG:
Satellite News Gathering، بتكاليفه العالية وصعوبة تشغيله، وأحدث ذلك نقلة في نقل الأحداث المباشر، كما جري في ابوكرشولا وإصلاح خط الأنابيب وفي الإنتخابات وفي نقل الدوري الممتاز، وفى الصورة التلفزيونية عموماً، و للحقيقة فقد واكب ذلك طفرة هندسية كبيرة في عهد الأخ المهندس محمد عبدالماجد رئيس قطاع الهندسة وبإهتمام د. أمين حسن عمر المدير العام..
(7)
المبادرات الكبيرة دائماً في مجتمعاتنا تصطدم بالهواجس والتشكيك، وهناك من يبدد جهده في صنع العراقيل، لإن أصحاب النظرة القصيرة يصنعون تاريخهم من خلال بعثرة جهد الآخرين، ولهذا لاقت الأخ محمد مواقف كثيرة قابلها بالصبر والإنصراف عنها، وهو يردد دوماً (الحركة و السكون بيد الله)، لا يعرف قلبه الحسد او الغل ، وهو كما قال محمود البارودي :
ألا إن أخلاق الرجال وإن نمت فأربعة منها تفوق على الكل..
وقار بلا كبر وصفح بلا أذى وجود بلا منٍ وحلم بلا ذل..
و لهذا وغيره يتم حبس الأخ محمد حاتم سليمان، منذ أبريل ٢٠١٩م، لم يجدوا عنده قطعة أرض أو دار أو منزل فخيم يأوي أسرته، ولا ودائع مصرفية أو صكوك، مجرد فتى أفرغ جهده لخدمة وطنه..
في ٦٠ صفحة دون، الأخ محمد ملامح تجربة تحت عنوان (تجربتي في العمل الإعلامي)، لم يتحدث فيها عن الإستوائية وهم على مشارف نمولي وشظية تختطف الشهيد عبدالقادر على وتلك الأيام، ولم يذكر خور القنا بالنيل الأزرق بعد فقدانهم ثلاثة أيام مع الأخ أسامة كنه، ولم يتحدث عن (ملكن) بأعالي النيل وتلك قصة يمكن أن يرويها الأخ أبوبكر محمد يوسف ولم يذكر حكايات كسلا والقرقف وجبل موسى ، ودونكم الأخ محمد عبدالله شيخ إدريس و الأخ حاتم محمد يوسف وجلي محمد إدريس ، فهذا مدخور لمقامات أخرى.. حين يجتمع الخصوم، تقبل الله منه ومن إخوانه.
تلك أطراف حديث من وقائع رجل من (أهل الله)..
حفظه الله ورعاه وفك أسره وإخوانه، وبارك فى أهله..
وحفظ الله الوطن وأهله..
المصدر : الرواية الأولى

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...