العميد ركن دكتور جمال الشهيد ” رفعت الأقلام حتى نعود لبرق وجهك في بدايات الصدام “
العميد ركن دكتور جمال الشهيد ” رفعت الأقلام حتى نعود لبرق وجهك في بدايات الصدام ”
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
أرأيتم رجلا ، في إهاب بسالته يتحدى الحياة ، ويكسر صولجان الموت ، يعدو في ساحات الفداء ، من وادي إلى جبل ، مبللا بالدمع والدم منذ صبى إحترافه العسكرية متخرجا في الكلية الحربية – مدخل سنوات التسعينيات – برتبة الملازم ، عاجما عوده ، في معارك الشرف حتى أرتوت شرايينه قلقا من خوفه على هذه البلاد ، وتلألأت الأنجم على كتفه مدرجا إلى رتبة العميد ركن .
هو ذاك ، بين ماضي زمانه ، وبين زمان الناس الٱن ، تنظر إلى صدره ، فلن تجد إلا قلبه الممتلأ بذرات تراب السودان ، وصور ملامح شعبه ، وتسمع إلى صوته ، فلن تجد فيه سوى حزنه على وطنه .
كل دروب العمليات الحربية التي مشى خطواتها – على تعدد إتجهات أمكنتها – له فيها مشهد وحكاية ومعجزة كأنها الأساطير القديمة .
أحصى له الرفاق قبورا في دروب القتال والمناضلة ، قالوا أنه كان ينبغي أن يقبر فيها ، قبرا إثر قبر ، من هول ما لفته بكعبها شرارات أتون معاركها .
فذاك قبر في سفح ” جبل الجاف ” وهذا قبر في ” جبل لادو ” ، وقبر ٱخر في ” تركاكا ” وأخرى في ” سندرو ” وفي إتجاهات ” نمولي ” ذلك الهدف الأصعب .
ثم لا ينسون في ظنهم أن يحفروا له قبرا ٱخر في ” ليريا ” بوابة الدخول إلى توريت . تلك المدينة التي قال عنها شاعرنا مصطفى سند في ” أحزان قديمة ” :
” توريت ” تفتح في مطار الليل صندوقا من اللحم الجريح
” توريت ” ترفع شارة البابا ولافتة المسيح
وتدق بالكفين شرفة غيمها الصيفي
تنبح والأسى
يلج الكهوف السود يرسم كل واجهة ضريح
مليون قلب في بحار الدمع طافية تصيح .
ومشاها صاحبنا هذا خطوة خطوة ، هطال العطا ، سمح النزول حتى وسم رفاقه في قسمات جبينه وسما جديدا له لتكون سيمياء دالة عليه وحده مختارين له أسم ” جمال الشهيد ” ووقتها لم يزل في رتبة النقيب ، بيد أنه كان ” نهرا من الفولاذ يهدر في سفوح الصيف يقتحم السهول ” متوجا بالشموخ والإباء ، قاعدا وقائما مشرق الجبين . ما اتعبت معارك القتال قلبه قط .. كأنه شمعة جيله المطل من أصالة السودان ومأثورات أهله .
إنه العميد دكتور ركن ” جمال الدين أحمد حمزة أحمد ” العسكري الفذ ، الذي خاض في حياته امعترك إثبات جدارة محتدم بكارزمية أخاذة ، لابسا أجمل أثواب التفكير الخلاق ، ممسكا بكلتا يديه على الثقة بالنفس والبساطة المهابة ، والمحببة في ٱن واحد .
الكتابة عنذ ” جمال الشهيد ” شاقة ، وورود لمواضع التعب .
فما اتعس قلمي الذي يحاول عبسا الٱن للدخول في دائرة مشاكسة الكلمات ليرسم ولو بعض ملامح وجه رجل زان نفسه بالأصالة والصدق والسماحة والتصالح مع الذات ، حتى إرتفع إلى أعلى مدارج الإيمان والولاء الراكز منتسبا إلى عصر المجد وأيام الغضب لوجه الله ولرسوله والمؤمنين .
إن وقوفي ، في مقام جمال الشهيد ، هو أشبه بوقوف الواقف وقتها في مقام ” الحلاج ” متمتما بالقول :
” من ذا الرجل العالي ، ولست أرى ،
إلا بريق نجوم في أعاليه
يلقي على السهل ظلا من عباءته ،
فينبت العشب في أقصى حواشيه
يكاد يلمس قلب الماء مبسمه ،
ويهطل الغيث إن صل على التيه
يا قارئي .. حقا تتأبى سرائر سري ، أن أقول كل ما أعرفه عن جمال الشهيد ، وليس ذلك بسبب مشقة الكتابة عنه وحدها فحسب ، بل خوفا عليه من غلواء الحسد والحاسدين في زمن تسيد البلاد فيه عملاء السفارات ورواد الخمارات ، فامتلكوا مسرح مشهديات السودان ، وحذقوا في لعب أدوار الإجنبي في سعيهه الممنهج لطمس هوية البلاد ، بضرب رموز أولاد البلد الأصلاء الأنقياء الأفذاذ الذين تكمن قوتهم في وهج وصدق أقوالهم وأفعالهم
وجمال هو النموذج الأعلى في الشرف والصدق وبهاء الشخصية الحارسة الأمينة للفضيلة والنبل .
والكنز الحقيقي للسودان في تقديري ، يكمن في التعرف على مثل جمال الشهيد واستقطار المعاني الرانية من سيرته وأوجاع تجربته .
إذا ، فلا مفر من أن نسيل بعض المداد للقول ولو شذرات من معرفتنا به ، لنرد للرجل بعضا مما أعطى للسودان أرضا أولا ، وما أعطى للقوات المسلحة من نفسه وفكره وعواطفه القوية المتبصرة.
وما نقوله في هذا المقال ليس هو من باب ما يفعله الحكاء المجرد ، بقدرما هو محاولة لإستنبات أمكنة وأزمنة كنا فيها معه شاهدين له كيف أمتلك جمال أحمد حمزة ، زمام صناعة وقائعها ، وتشكيل أبنية صورها وتلوين فضائتها ..
فكثير من تلك الأحداث التي علقت في مستودع ذاكرتنا ، لا تكاد تنماز فيها الحدود أو تنمحي المسافات بين شخصية جمال الشهيد الفاعلة وبين الأحداث من جهة وبين مجموع الشخصيات المحورية ذات العلاقة بالأحداث نفسها .
وشهادتنا تبدأ منذ إستقبالنا له في رئاسة المنطقة العسكرية الإستوائية بمدينة جوبا – بداية عام 1992م – ووقتئذ نحن في مجموعة ” السائحون ” وهي الفترة السابقة لإلتحاقنا مباشرة بفريق المراسليين الحربيين للبرنامج التلفزيوني الشاهق السيرة ” في ساحات الفداء ” الذي كان في ريادة إبداعة الأخوة سيف الدين حسن ، وفتح العليم دفع الله ، وأسامه العيدروس ، وأبو عبيدة محمد فضل الله ، ومجدي أحمد علي وٱخرين . وفي الفترتين كنت شاهدا على ” جمال الشهيد ” وعوالم حياته العسكرية في جنوب السودان أبان مقاتلة القوات المسلحة للقوات المتمردة .
نعلم جميعا ، أن الناس أنماط في السلوك ، وأوجه متعددة ، وتباين في الأمزجة والمشاعر ، ولكن رسم ملامح أو تشخيص جمال الشهيد بالكلمات ، أوتصنيفه في إطار المألوف يبدو ذلك في تقديري أقرب للمستحيل .
جمال أحمد حمزة ، يتأبى على الحبس في الأطر والقواعد والنظريات الثابتة في مجال علم النفس ، فهو الرجل العسكري من الدرجة الأولى بامتياز ، والرجل المدني الرفيع الدرجة ، أخذ وبجدارة من العسكرية والمدنية معا أذكى سماتهما بذات المقدار والإقتدار ، وتجدهما في جميع حالته النفسية والوجدانية ، تسري في روحه بانسجامية متوازنة .
وليس لي من الوصف له أدق من قول ، أبو يزيد البسطامي عن العبودية في كتاب الشذرات :
” من لزم العبودية لزمه أثنان : يأخذه الخوف من ذنبه ، ويفارقه العحب من عمله ” .. وذاك هو نفسه جمال العرفاني الملامح والسمات ، صوفي الروح ، جميل التواضع والبساطة والقناعة ، شيخ صالح دون عمامة .
تلمس فيه الإنسانية في أسمى معانيها الصوفية ووداعة لا تخطئها العين ، لا يحدث الناس إلا على إستحياء .
تلك بعض شمائله التي جذبت إليه مشاعر الناس أينما حل فيهم ووطأت له أكناف الرضى والقبول في نفوسهم وبوأته منازل المحبة في قلوبهم مماثلا قول سيدنا محمد صل الله عليه وسلم ” أقاربكم مني مجالسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ” هكذا شهدنا جمال الشهيد مع أهلنا ” الباريا ” في بحر الجبل ، و ” التبوسا ” في كبويتا و ” المنداري ” في تركاكا وكذا كان حاله مع اللاتوكا في توريت والزاندى في ياي ..
ولم تغيره حالات الزمان في الجنينة ريحانة دار مساليت التي عمل فيها قائدا لإستخبارات المنطقة العسكرية أحبه الناس هناك بتعدد تكويناتهم الثقافية وتباينها ، شهدت له مدينة الجنينة أنه كان ٱية في سجاياه الفريدة ، وصفاته الخيرة التي حببته لكل من عرفه عن قرب أو بعد ، وذلك ما جعله أن يكون واسطة العقد بين أهل دار مساليت فعاش سنوات عمله فيها مريودا ومحبوبا .
ولم يقف جمال الشهيد بالخير في حدود السودان فقط ، وشهد الناس في دولة أفريقيا الوسطى الذي أوفد إليها ، كيف بسط يد الخير للمسلمين هناك ، وبذل لهم من طيب نفسه ما لا يبذله إلا مؤمن بار بأمته وصادق في ولاءه .
وفي ذلك ما أرى جمال الشهيد إلا في أروح جدوده الذين رفعوا لواء الدين واللغة سنين طوالا ، والذين جبلوا على المروءة والشجاعة والشهامة .
ولد العميد ركن دكتور جمال الدين أحمد حمزة أحمد في مدينة الخرطوم بحري في يوم 5/ 9/ 1970م ، أصل والده من دار جعل نواحي مدينة شندي على نهر النيل ياقوتة ” دار جعل ” ومنارة ” الجعليين” نضر الله وجوههم ، فهم من قبائل أهل السودان الذين عرفوا بمكارم الأخلاق والنبل والكرم وشهامة في أعلى درجات الإنسانية ، لنا من أبناءهم رفقة وإخاء قل أن يجود الزمان بمثلهم .
معهم كانت إطلالتنا على السودان الكبير ، وبرفقتهم وردنا منابع الحكمة والسير بالخير إلى كل الناس ..
” دار جعل ” أعطت السودان أوسم أبناءها خلقا وعلما ومعارف ومواهب واستقامة على الجادة .
وأصل والدته من ” حلفاية الملوك ” أرض ومستقر قبيلة ” العبدلاب ” نسبة إلى ” عبدالله جماع ” زعيم وشيخ العرب القواسمه قطب وقائد الحلف التاريخي بين العرب والفونج مع ملكهم ” عماره دنقس ” ذلك الحلف الثنائي العربي الإفريقي الذي أنشأ السلطنة الزرقاء ، عاصمتها سنار ، وهي الدولة الإسلامية الأولى في السودان وقامت علي أنقاض مملكة علوة المسيحية وعاصمتها سوبا .
و” سنار ” مولودة حلف العرب القواسمة والفونج هي رمز لمجد غبر ومنار لعز قديم ، هي اليوم بمثابة الفردوس المفقود أو هكذا إحتفى بها الشاعر محمد عبدالحي في ملحمته المطولة ” العودة إلى سنار ” مؤكدا أهميتها في الوجدان السوداني باعتبارها الأكثر حضورا في الذات السودانية ، فهي عاصمة مملكة الفونج ، أول دولة إسلامية في السودان ، ظلت ثلاثة قرون من الزمان تنشر العلم وترعى العلماء ، ولم يكن العلم وقتذاك إلا علم الدين الإسلامي واللغة العربية .
وذلك أيضا ، ما أعاد إنتاجه إبداعيا الكاتب المسرحي الطاهر شبيكة في إبداعيته ” سنار المحروسة ” مستنطقا التاريخ من ” كتاب طبقات ود ضيف الله ” مخاطبا الحس الوطني ، إذ يبدأ شبيكة النص بلقاء ملك الفونج ، وشيخ العرب وبعد أن يسأل أحدهم عن أحوال الٱخر :
” الملك : العوين
الشيخ : مستورات ومكجورات ومحجوزات
الملك : العلماء والأولياء والصالحين كيف حالن ؟
الشيخ : حالن زين .. البعلم منهم بعلم .. والبمسك الطريق بمسكه والحيران جميع جالسين ومتأدبين لي حضرتن وطابقين الورك على الورك في جلستن .
الملك : والدين والشريعة
الشيخ : الدين منصور بيك وبالعلماء والأولياء والشرفا حتي ناسنا ناس السافل ومنهن النجع للحجاز وجاور ومنهن الرجعو ومنهم النجعو في مصر وجابو العلم في الأزهر الشريف ومن مكة وسووا الخلاوي والمساجد والزوايا .
الملك : ” في انشراح ” بالحيل الدين منصور .. فليش ما ينتصر نحن في سابق الزمن اتحالفنا على نصرته .. جدي وجدودك الفونج ، بني أمية والعبدلاب قواسمة من جهينه .
الشيخ : بالحيل يا ملك الملوك .. يحكو لينا أهلنا القدام الله يرحمن قالوا نحن ناس قبيل جينا من الجزيرة العربية بلد الشريف السمحة وفي زمن عمارة دنقس اللمه الصعيد ، جماع اللمه جميع السافل .
الملك : ” مكملا ” وحاربو الفنج النصارى في سوبا ، وخربوها خرابا بضرب به المثل .
الملك : إيه ناس علوه الما بعرفوا شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله .. ومن داك الزمن انطلق الإسلام الطلقه اللي يوم الليلة ” ..
وهكذا ، كل سوداني أصيل أن يجالد في الحياة بأن تظل شخصيتنا الثقافية كما أرساها أجدادنا ..
ومثلما خرج الشاعر محمد عبدالحي في تلك المواقيت داعيا ” العودة إلى سنار ” ذلك الماضي السوداني الأصيل ، الماضي الذي تختلط فيه العربية بافريقيا ، المزيج الغريب الذي يتكون منه الشعب السوداني .
وكذا خرج الكاتب المسرحي الطاهر شبيكة في حواريته ” سنار المحروسة ” تناول الرمح ولم يؤثر السلامة ، كما قرأنا منها سابقا .
وما جمال الشهيد الشهيد إلا من ذلك المنبت الأصيل ، مترعا بالصبابة والعشق ووله بقيم الأسلاف . وهو أن تبدأ بجذرك العقدي والتاريخي
وأن تنسل من أخبار البطولات والملاحم والثورة ضد الدخيل والضيم إلى الروح السودانية في صلفها وإبائها ونعلها على جبين الشمس .
لذلك فجمال الشهيد بتكوينه الثقافي الإجتماعي فاض مثل” نهر النيل ” بكينونة حضارية متقدمة ارتبطت بمغذى التاريخ السوداني …
وهذا ما جعله أن يمد يده بيضاء حاميا ومدافعا للسودان وقيم أهله ، فيده مثل كل يد تلونت بلون العمار ، وتحولت إلى نغم ندي بالذكر الحكيم ، فنبع منها نور الحكمة والدواء والسعي في طرق جلب الخير للناس .
فسيرة جمال الدين أحمد حمزة ، فيها نذر من سيرة أسلافه في دار جعل وحلفاية ملوك العبدلاب وأشياء من سيرة جده الأكبر عبدالله جماع وملامح أهل السودان الكبير .
فالكتابة عن العميد ركن دكتور جمال الدين أحمد حمزة أحمد ذلك العسكري الفذ هو إكتشاف لمنابع الأصالة ، بريق ٱخر يلوح أيضا ..
فجمال الشهيد ، حافظ أمين لودائع الأسلاف .
وودائع الأسلاف هو الدين واللغة والنخل والأبنوس وحبر النيل وإنسان الوطن .
بهذا أكتفي ..
” على القمح عند الحصاد التحية “