جريزلدا.. جوهرة عبدالله الطيب قصة عشق عابر للقارات حط رحاله في السودان

– فارقت عالمنا صاحبة إحدى قصص العشق الأسطورية الحسناء التي تخلت عن وطن كامل يعج بالأنوار والحضارة والحلم فيه فسيحاً، متوجهة بقلبها إلى بلاد تموت الأزهار من شمسها، زادها ودافعها رجل سوداني أمنته على نفسها وأحلامها فخلدت قصتهما في التاريخ ..
ودعتنا الفنانة التشكيلية والإنسانة جريزيلدا الطيب زوجة العلامة بروف عبدالله الطيب صباح أمس الجمعة 20 مايو 2022
ولدت جريزلدا في لندن عام، 1925 والدها وليم إدوارد، ووالدتها هيلدا وينيفيد، وكانا مدرسين، توفي إخوتها ما عدا اثنان أحدهما مدرس للغة الفرنسية، والأخرى تدرس في المستشفيات الأشغال اليدوية. بعد ثلاث سنوات من ميلادها أرسلها والدها إلى المدرسة، تدرجت في الدراسة لتلتحق بمدرسة أخرى شمال لندن ومنها دخلت (شلسي آرت سكوول) كلية الرسم. حتى وصلت إلى جامعة لندن في كلية التربية مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
تعرفت جريزيلدا بعبدالله الطيب في وقت مبكر في إنجلترا عبر زمالته لها في كلية التربية في جامعة لندن واقتربت منه عبر زملائه من السودان عبدالرازق عبدالغفار والمرحوم أحمد الطيب أحمد.
اليوم التالي: محمد إسماعيل
التقى عبد الله الطيب بجريزيلدا في جامعة لندن التي نال منها شهادة الدكتوراة ومنذ ذلك الوقت أصبحت هذه الفتاة البريطانية الزوجة وحبيبة العمر التي ظلت تؤكد دائماً أحبت فيه دفاعه عن العرب
وتقول جزيزيلدا عن بداية تعرفها بالعلامة عبد الله الطيب كان ذلك في وقت باكر في إنجلترا عندما كنت في آخر سنوات دراستي بكلية التربية بجامعة لندن التي جمعتنا عبر محطات العمر..
تعرفت عليه عن طريق زميل الدراسة عبد الرازق عبد الغفار، وبقي عبد الله الطيب في لندن الذي اختير لعمل كورس للبكالوريوس وسجَّل للدكتوراة، وامتدت العلاقة بيننا بالرغم من أنه كان يشكو من الاستعمار الإنجليزي، كانت مفتونة بضحكته وشخصيته.. وأسنانه البيضاء ..وبأسنانه البيضاء اجتذب الطالب السوداني بجامعة لندن (عبد الله الطيب)، إعجاب واهتمام الفتاة الإنجليزية الحسناء (جريزيلدا)، وعند اقتراب إكماله دراسة الدكتوراة بادرت بطلب الزواج منه خوفاً من أن يعود إلى بلاده ويتزوج من سودانية، لكنه رفض متعللاً بأنه يعول أَخواته الثلاث بعد رحيل والديه، ونتيجة لإصرارها وعزيمتها نجحت في تتويج حبِّها له بالزواج، ليكتمل زواج في العام 1948م، بعدها أكمل رسالته في العام 1950م
تم تعيينه كمساعد محاضر في كلية غردون، ولم يقبل التعيين ليقدم استقالته، في نفس الوقت، عين محاضراً في جامعة لندن..
وأشارت جريزلدا إلى أن زيارتها للسودان لأول مرة في العام 1950م قالت كانت مهمة بالنسبة لها، والتي امتدت بالباخرة من ليفربول حتى ميناء بورتسودان، وشاهدت لأول مرة مجموعات الهدندوة الذين يعملون في الميناء فتملكتها الدهشة..
ورغم أن رفيق دربها ينتمى إلى قارة تئن تحت وطأة الفقر، لم تتردد الفنانة التشكيلية جريزيلدا في ترك الترف والمستقبل المشرق في عاصمة الضباب والذهاب معه إلى قرية نائية في قلب أفريقيا!!
وحكت عن قصة تعرف أسرتها بعبد الله الطيب عندما حدثت والدها ووالدتها بالزواج إذ أصيبا بصدمة.. إلا أن وكيل السودان بلندن آنذاك المستر (هاردلي) أشار إلى أن الطلاب السودانيين يعتبرون من أحسن أبناء الطبقات السودانية، وأن الطالب عبد الله الطيب من أسرة محترمة. تربى في كنفها أحسن تربية وهي أسرة المجاذيب الشهيرة بمدينة الدامر شمال السودان.
الخرطوم بعيون الرسامين:
إن معرفتها بالسودان وثقافته تعمقت من خلال قراءتها لكل قصص الطيب صالح بالإنجليزية، واطلعت على المسرحيات التي ألفها عبد الله الطيب في مقدمتها (نكبة البرامكة)، و(زواج السمر).. ثم تأقلمت مع المجتمع السوداني بداية بمدينة الدامر، وقرية (التميراب) موطن عبد الله.. إن زيارتها للدامر ولأسرة المجاذيب في العام 1950م أتاحت لها دخول كل البيوت فلمست محافظتهم وانغلاق نسائهم المحافظات .
وبعد وصولها في مطلع الخمسينيات انبهرت بالزي والفلكلور السوداني
وتقول: منذ أن حضرت للسودان في أول مرة سنة 1950 إلى يومنا هذا.. وتعرفت على الكثير من العادات السودانية والملابس الوطنية التي لفتت انتباهي مثل (دق الشلوفة والشلوخ والمركوب والتوب السوداني)، وغيرها من الأشياء التي اختفت في هذا الزمان، وأصدرت باللغة العربية والإنجليزية كتاباً بعنوان (الخرطوم بعيون الرسامين)، ومنذ ذلك الوقت أصبح قلبي معلقاً بالسودان..
وعن بخت الرضا حكت
قالت إن بخت الرضا أتاحت لها جواً هادئاً، وفراغاً كبيراً، وكان عبدالله الطيب يحب القراءة جداً، ولم تكن هناك كهرباء وكان يبدأ قبل المغرب بتنظيف وإشعال لمبات الجاز أو الفوانيس المنتشرة بالبيت، والتي كنت أكرهها وأفضل عليها الأباجورات ذات الضوء الخافت الهادئ، والتي كان عبدالله لا يحبها ويرى أن لا فائدة منها، فالغرض كما يقول لي دائماً هو النور القوي فحسب للقراءة، وكان يمازحني كثيراً بشأن الأباجورات.. بخت الرضا مدينة أحببتها كثيراً بيوت العاملين منفصلة، والعائلات في ترابط عجيب، لا تشغلنا المجاملات الاجتماعية.. وأذكر أنه لم تكن هناك سيارات خاصة، بل حتى مدير المعهد لا يمتلك سيارة، وكنا نتنقل بالعجلات، كما كانت لكل أسرة مركب شراعية تننقل بها في نزهات نيلية، وكان عبدالله يجيد قيادة المراكب الشراعية، فعبدالله إذا ما ركز تفكيره على أى شيء أو أي عمل أجاده للغاية!
وهيأت لزوجها كل سبل الراحة من أجل التأليف والكتابة، وأشارت إليه بضرورة دراسة اللغة الفرنسية.. إن جريزيلدا هي من أشار على عبد الله الطيب بأن يتولى عميد الأدب العربي طه حسين كتابة مقدمة (المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها) بجانب أنها تولت تصميم مؤلفيه كتاب (الأحاجي السودانية) و(نافذة القطار) ومسرحياته، وهذا جزء من شراكتها وإحساسها بقيمة عبد الله الطيب.
إن عبد الله الطيب له تأثير كبير على زوجته في توسيع معرفتها باللغة العربية والثقافة السودانية، وهو ما قادها إلى الإسلام العام 1976
رحلة الإسلام:
أما الرحلة الأخرى التي تعتبرها جريزيلدا الأهم في حياتها فهي رحلتها إلى الإسلام، وتقول عنها: عبدالله الطيب لم يضغط علي لاعتناق الإسلام، بل كان يناقشني، ويشرح لي بعض المفاهيم الإسلامية بطريقة علمية مبسطة ولذلك كونت فكرة جيدة عن الإسلام.. وبصراحة عند ذهابنا إلى شمال نيجيريا تحمست للإسلام هناك وأعجبني حماسهم الدافق له.. كان والدي ووالدتي توفيا ولم يكن هناك أحد لينزعج من دخولي الإسلام.
مساهمتها في الثقافة السودانية :
وظلت مساهمة في الحركة الثقافية السودانية عبر التشكيل والمحاضرة وحضور الفعاليات المختلفة. سعت إلى الحصول على الماجستير من جامعة الخرطوم في الأزياء السودانية في معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية.
وعن ذكرياتها عن الفن التشكيلي وتروي: دراستي للفن جاءت بعد الثانوية في كلية الفنون الجميلة (شلسي آرت سكوول)، في لندن. وتخرجت أستاذة فنون للمدارس الثانوية، وبعد أن جئت للخرطوم عملت في كلية المعلمات في أم درمان وأسست قسم الفن فيها، كما أسست برنامجاً في المدارس الأولية للبنات، وكنت في الوقت نفسه أستاذة، ومفتشة.. أقوم مع الزملاء بجولات في الأقاليم، ثم أدرّس مرتين في الأسبوع في مدرسة أم درمان الثانوية، ومن تلميذاتي الأستاذة وصال المهدي زوجة الدكتور حسن الترابي، والخنساء عمر أرملة بابكر النور الذي أعدمه نميري.

رحلة المغرب :
قالت: في المغرب وجدنا الاحترام والتقدير، ووصلنا إليها في ديسمبر 1977 وكان العقد يقضي بأن يكون البروفيسور أستاذ كرسي في جامعة محمد بن عبدالله في فاس وكان قبلها بشهرين اختير أستاذاً في اسيكوتوب في نيجيريا إلا أن حماسي كان نحو المغرب.. والشعب المغربي يحترم الأساتذة والمعلمين احتراماً كبيراً.
وفي محاضراته في المغرب كان الملك يجلس على بلاطه وبجانبه كل وزرائه جالسين على الأرض بجانب العلماء المدعوين وكل سفراء دول العالم الإسلامي يستمعون اليه .
الحياة بين إنجلترا والسودان:
بعد هذه الرحلة تتذكر جريزيلدا أنها غابت كثيراً عن موطنها الأصلي، ويمكنها عقد مقارنة لأساليب الحياة بين إنجلترا والسودان.
تقول صلتي بالحياة في بريطانيا انقطعت لما يقرب عن خمسين عاماً إلا من خلال الإجازات السنوية، لكن الحياة الاجتماعية في إنجلترا تغيرت وفي السودان الحياة أيضاً تغيرت..
عبد الله الطيب يُنصف :
حكت بكل أسى عن تجاهل السلطات المعنية لإرث عبد الله الطيب الفكري والأدبي الضخم، وتقول جريزيلدا وهي تقلب نسختين (أصلية ومقلدة) من كتاب (المرشد إلى فهم أشعار العرب) في حديثها إن البروفيسور عبد الله الطيب لم يُنصف من قبل السلطات السودانية وحتى المثقفين السودانيين لم يعطوه حقه من الإنصاف، وتضيف: ما تزال هناك مؤلفات للبروفيسور عبد الله الطيب لم ترَ النور بعد من بينها ديوانان من الشعر وتشير إلى أن أمنيتها أن ترى كل مؤلفات عبدالله الطيب غير المطبوعة ويستفيد منها طالبو العلم.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...