مريود يكتب.. اسحاق فضل الله يرتدي قناعا برتقاليا

بدون زعل..
رجل يرتدي قناعا برتقاليا

الرجل النحيل الأشعث، يدخل إلى دار المايقوما. دار الأطفال فاقدي السند، بالخرطوم. حين ينهي إجراء المحادثة التي من أجلها دخل، يخرج قطعة قماش ويعصب عينيه.. يقتاده شخص إلى الفناء، وهو يخطو وسط الهرج والمرج، وصياح الصغار المنغمسين في لعبهم، شيئ ما يحرك أقداما صغيرة لتخطو تجاهه.. وذات الشيئ الما، هذا، القدري، يجعل الأصابع الصغيرة تمسك ببنطال الرجل.. يتوقف الرجل.. ينزع العصابة عن عينيه.. يمسك باليد الصغيرة ويرافقها الي المكتب.. يستكمل الإجراءات ويمضي بالصغير.. لا يهمه ان كان صبيا ام بنتا.. أبيض أم أسود… صحيحا أم عليلا.. سيتبني أول يد صغيرة تمسك ببنطاله..
في بداية عام ١٩٩٤م، اخذني يحي مصطفى الصديق إلى مكتب د. عمر أحمد فضل الله، مدير مركز المعلومات، بمركز الدراسات الاستراتيجية بالخرطوم، حيث تم توظيفي.. كان يحي يريد أن يجعل د. عمر يزكيني للدخول الي مجال النشر، لأنه يعتقد – وهو بعض لطفه الجم، وحسن ظنه – أنني كاتب قصة قصيرة مبشر.. لكن د. عمر قال إن الرجل الذي تطلبون وساطتي لديه، لا يحتاج إلى واسطة.. إن كنت لا تعرف كيفية كتابة القصة القصيرة، فإنه لن يجاملك… اذهب إليه، بلا واسطة…
فيما بعد، وبعد سنوات طويلة، زرت الرجل النحيل، العفيف في بيته.. ضمن مجموعة من الكرام.. ولأنني أدعي علاقات مجهولة بأهل الله، ولأنني أحبهم، قررنا أن نزور الشيخ إدريس ود الأرباب، والشيخ المقابلي..إعتذر الرجل عن مرافقتنا للزيارة.. قال إنه يزوره على طريقته الخاصة.. فإدريس ود الأرباب جده.. لكن لم أدخل في محنة او ضائقة حقيقية، إلا كان أول الخاطرين على بالي، ذلك الرجل النحيل.. في الرابعة فجرا او الثالثة، يفتح المكالمة ويستمع إليك… يقول حسنا… بتقدر تجيني أم أجيك..؟
في دروب القصة القصيرة، لا أستطيع أن أجزم ما إذا كان أحد ما، يلتقط التفاصيل الدقيقة مثله.. يطوع اللغة بمهارة عجيبة.. يرسم صورا نابضة بالحياة.. نشر عددا من المجموعات القصصية، وبعض الروايات.. يعد واحدا من القراء النادرين للاداب العالمية بكل ضروبها… شعرا، قصة ورواية، نقدا.. بل لا تكاد تذكر كتابا في ضروب المعرفة إلا وتجده قد قرأه.. يقرأ بنهم عجيب..
علاقاته ببعض الأشياء غامضة.. أدبا، لم يكن ليخطر ببالنا أن نسأله عنها.. لكنه يحيطك بأبوية غامرة.. تتلمذنا عليه – أحيانا دون أن يدري – المرحوم مهيد بخاري، عماد ابوشامة، عماد البليك وأنا.. لقد كان ودودا بشكل غاية في الجمال..
لم نقترب من بعض عوالمه الغامضة.. لأننا منغمسون في عالم الأدب والصحافة الثقافية، والفن، عموما.. نجده – فجأة – قد لبس الكاكي وذهب إلى الجنوب او النيل الأزرق او جبال النوبة.. حين يعود يكون قد عاد كاتب القصة الأديب الفنان، والانسان المفرط في إنسانيته.. نسمع عنه قصصا من عوالم الحرب والقتال… لكنه لا يخوض معنا، أو أي شخص، نعرفه فيها..يعرف أن لكل شأن أهله، فلا يعمد إلى إزجاء الحديث إلى غير أهله.. لكن منطقة ما، رمادية – على الأرجح – تدفعه ليبني مواقف متطرفة من الناس والأشياء… بالنسبة لي، هي طفولة لم يتم تطويرها والله أعلم. ذلك أن التطرف في كل شيئ هو فقدان للقسط العقلي، الذى هو ميزان الإيمان.. ولعل ذلك هو ما يدفعه ليكون منفردا، أغلب الأحيان، حتى وسط إخوانه.. ذلك التطرف الذي يجعله يقف موقفا متعنتا من الترابي..
سأل صحفي ذات يوم، صلاح قوش، مدير جهاز الامن والمخابرات، عن مصادر معلومات إسحق أحمد فضل الله، فرد بأنه يقرأها في مقال إسحق، كما يفعل الكثيرون، ولا يعرف مصادرها، شخصيا.
لم يسلم من سخرية، قبل وبعد سقوط نظام الإنقاذ.. من إخوانه ومن الآخرين، المخالفين له الرأي.. لكني أكاد أجزم أنه حمال للأذي، صبور مثل إبل في مسيرها إلى الكفرة.. لعل قلبه الذي يدخل به دار المايقوما، هو ذاته الذي يتلقى به الاستفزازات والسخرية والاستهزاء الذي لم يفتر، يوما. لا أجده يحمل ضغينة لاحد، أو يسعى للإنتقام من أحد… وهو الروائي والقصاص الفذ، المثقف الأصولي ( باستخدامها الصحيح، لا باستخدام الكتابات السياسية الفجة)، حين تتخطاه المحافل، تتجاهله، لا يسعى إليها ولا يذكر أحدا ما، لجنة، وزيرا، جهة، أنه يعرف في هذا الشأن أكثر من غيره من الأسماء التي تحفي وراءها قيادات الإنقاذ تجملا وتبييضا لوجهها..
أتحدث عن إسحق أحمد فضل الله، أستاذي وأرفع قبعتي له.. أو، كما يفعل أهلنا التجانية والمكاشفية، وأهل الطريق، أنزع عمامتي وطاقيتي له، وأخلع مركوبي.. احتراما وتوقيرا… إسحق الذي أعرف، ليس أحدا يمكنك أن تنساه، تتخطاه، كأنه غير موجود… أما إسحق الكاتب السياسي الذي يستدرج الساخرين، ويستهوي الناشطين، فلا أعرف عنه شيئا… لقد ذكر لي مرة أن سيد الخطيب، أستاذنا الأكبر هو من أقحمه مجال الكتابة السياسية.. ولأننا لا نستطيع أن نعتب على سيد الخطيب، للمحبة الزائدة، فأبو السيد رجل لا أكف – شخصيا – عن محبته.. فلن نقول “الله يجازي الكان السبب” ٠٠
هذا هذا… في محبة أستاذي إسحق أحمد فضل الله.
بعضا حقه على.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...