مستودع الأزمات أم خزان الحلول؟.. مجانية الموت وانحسار الأعراف الخيرة.. الثقافة المحلية في دارفور بعيون مبدعيها
سحر للطبيعة ممتد وخير لا يحد، لكن الحرائق والقتل أول ما يقفز من مشاهد حينما تذكر دارفور، فالإقليم الواقع في الغرب السوداني، والذي ارتبط عند السودانيين بخلاوي القرآن، وبالمَحْمَل الشريف في الماضي صار قرين نزاعات قبلية، والتي تقع في الغالب بين قبائل رعوية وأخرى قاطنة مستقرة.
الجزيرة نت تحاول في هذا التقرير النظر لتلكم النزاعات ثقافيًّا بعيون مثقفين من دارفور.
خصوصية دارفور
يرى أهل دارفور أن إقليمهم ذو طبيعة خاصة، خصوصية تأخذ أكثر من وجه، ويرجع بنا الشاعر عالم عباس -الرئيس الأسبق لاتحاد الكُتاب السودانيين- للتاريخ مذكّرًا بأن دارفور كانت سلطنة قائمة بذاتها عندما كان أغلب السودان يتبع للسلطنة السنارية (1505-1821).
ويقول عباس في إفادة للجزيرة نت “بينما كان أغلب السودان الحالي يتبع لسلطنة سنار، كانت دارفور سلطنة منفصلة حتى دخول قوات محمد علي باشا، ولم تسقط دارفور إلا بعد أكثر من 50 سنة. وبعد الاحتلال الثنائي عام 1898، عادت دارفور مستقلة إلى أن قتل السلطان علي دينار عام 1916”.
ويرى عباس أن هذه الوضعية التاريخية جعلت للإقليم خصوصية في كثير من الأشياء، وإن تشابهت أو اتفقت أحيانًا مع السودان في عمومه. والثقافة المحلية من أهم أوجه تلكم الخصوصية.
الأرض قد تكون من أسباب النزاعات في العادة، مقسمة في دارفور إلى “حواكير” (مفردها حاكورة) والحاكورة منطقة من الأرض تتبع إداريًّا لقبيلة معينة، بحسب ما وضحه الباحث والأديب أحمد النور منزول في إفادة للجزيرة نت.
ويقول منزول إن “تبعية الأرض إداريًّا لقبيلة معينة لا تعني منع غيرها من العيش فيها، لكن على المواطنين في هذه الأرض مراعاة أعراف القبيلة والنزول على حكمها”.
ويوضح الباحث المهتم بالمسألة الدارفورية عبد النبي البشر أن الحواكير أسهمت في استقرار دارفور ووضوح طرق حكمها، شأنها شأن مسارات الرحل المعروفة. ويقول البِشر “كل شيء كان جيدًا قبل تدخل الساسة، الذين أفسدوا النظام الأهلي فيما أفسدوا”.
النظام الأهلي
ربما يكون الحديث عن النظام القبلي والقبيلة غريبًا بعض الشيء في هذا القرن الـ21، لكن المتتبع للأوضاع في دارفور يدرك أهميتها رغم مظاهر انحسار الهيبة والظلِّ، وهو ما يشرحه عبد النبي البشر، عنه قائلا “كانت القبيلة تختار أصلح من فيها للزعامة، وكان يتحلى بالحكمة وسداد الرأي، ولأنه خيار القبيلة كان أمره مطاعًا”.
ويشير إلى نقطة تحول في هذا النظام، فيقول “في الحكم التركي -على قصره- استُحدِثت أسماء جديدة مثل كلمة (ناظر) واختارت الحكومة الزعماء والذين كانوا يجمعون الضرائب والجبايات، كما أنها زادت سلطاتهم بالمقابل”.
ويرى البِشر أن بعض هذه الاختيارات كانت سببًا في تقليل احترام المجتمع لزعماء القبائل، لكنه ينظر لفترة الحكم الثنائي الإنجليزي-المصري على أنها أعادت شيئًا من المهابة للزعامات شريطة ولائهم لها، وأنها كانت تحترمهم، وتواصل نظام الإدارة الأهلية إلى أن حلَّه (الرئيس جعفر) النميري لأنه كان يريد بسط سطوة أعضاء الحزب الأوحد (الاتحاد الاشتراكي).
الفترة التي تلت النميري كانت الأسوأ، بحسب رأي عبد النبي البشر في إفادته المتصلة للجزيرة نت “كان أمر الاختيار مرتبطًا بالولاء الحزبي في الفترة الديمقراطية، وكانت الطامة في عهد الإنقاذ التي تدخلت في الاختيار واتخذت معايير جديدة في مقدمتها الولاء للإنقاذ”.
ويتفق أحمد النور منزول مع رأي عبد النبي، ويضيف “الإنقاذ كانت تبحث عن مصلحتها لا مصلحة دارفور، وحاولت تفتيت بعض الحواكير وبناء كيانات قبلية في مناطق قبائل أخرى معروفة، إنفاذًا لمخطط رسم بعناية”، بحسب قوله.
الشاعر والباحث السوداني أحمد النور منزول: من أسباب النزاعات تقسيم دارفور إلى “حواكير” (الجزيرة)
أعراف وتقاليد
يطل سؤال لماذا هذا الاهتمام بالإدارة الأهلية من قِبَل الحكومات والساسة بشكل عام؟ التاريخ يجيب بأن هؤلاء الزعماء كانوا قادرين على حل المشاكل، ولهم أعراف متبعة سلمًا وحربًا، وأنهم في الغالب متميزون بالحكمة.
ويشير البِشر إلى أعراف تمارسها هذه الإدارات أسهمت في تكوين النسيج الدارفوري من أهمها (التهادي والزواج) ويتابع أن “زعماء القبائل في دارفور يهتمون بالهدايا وإرسالها للزعماء الآخرين في مناسباتهم وحضور تلك المناسبات. وكانوا أكثر حرصًا على الزواج من بنات وأخوات زعماء آخرين، حتى تتصاهر القبائل ويكون للزعيم خؤولة في قبيلة أخرى والعكس بالعكس”.
والناظر في مجتمع دارفور يلحظ هذه المصاهرات التي قادت إلى علائق قوية بين هذه القبائل. ولا يعني هذا قصر الزيجات بين القبائل على الزعامات فقط وإنما ذكرت لتأثيرها الممتد.
ومن الممارسات الدارفورية الحَلف أو (الكتاب) ويعنون بالكتاب المصحف (كتاب الله عزَّ وجل) ويفصل عبد النبي البشر قائلا “يكون تتويجًا لعلاقة صداقة ويقسم فيها اثنان على التآخي في الله، وأن يكون لكل واحد منهما ما للأخ من أخيه، مودة وحماية وجوارًا”، وهكذا تعلم القبيلتان بأن فلانًا أخ لفلان.
يضاف كل ذلك لأعراف الجودية (الصلح بين المتخاصمين في اللهجة السودانية) ومجالس الصلح، والتي تدفن الفتنة في مهدها، ويعلق منزول “كان ذلك أيام هيبة الزعماء وحكمتهم، وكانوا يدفعون الديات في الغالب من مالهم” ويستطرد منزول “لكن في هذه الأيام ربما عد بعضهم من أسباب الفتنة”.
الحَكّامة والهَدَّاي
للشعر الشعبي سطوة كبيرة في دارفور، وتسمى الشاعرة الشعبية في دارفور بالحَكَّامَة والشاعر بالهَدَّاي، على أنه لا يهدي في كل الأحوال، كما لا تنطق الحكامة بالحكمة دائمًا.
ويرى الشاعر متوكل زروق في إفادة للجزيرة نت، أن للشعراء الشعبيين الأثر الكبير في التأثير على سلوك المجتمعات في هذه المنطقة، ويضيف “غناء الحكّامات في ظروف الحرب يعد أهم من خطاب السلطان ذاته”.
ويضيف زروق أن “رأي السلاطين في حُكّام الأقاليم وحتى سلاطين السلطنات المجاورة تؤثر عليه الصورة الذهنية التي يرسمها الهدايون عنهم، كما أن غناء حكامة أو شعر هداي كفيل بإشعال الحرب أو إخماد نارها”.
ويرى منزول خطورة هذا الشعر لسيرورته بين الناس وانتشاره، خاصة أنه ينشد في المحافل والمناسبات الكبيرة، ويضيف أن “وصفًا بالجبن أو البخل أو أي خصلة قبيحة قد يدفع الموصوف لمغادرة القرية”.
وفيما يحتفظ الشاعر أنس عبد الصمد للحكامات بقدرتهن على الدعوة للخير أو الفتنة، يؤمن عبد الصمد بالفرق بين القول والفعل “قد يشعلن حربًا لأتفه الأسباب ولا يستطعن إخمادها”، وكثيرًا ما يتحول الفخر عند شعراء القبيلة المعينة لحالة استعلائية وتقليل من شأن الآخر، وربما استرخصت روحه.
الأمية والتعليم
في المجتمعات المتعلمة لا يمكن أن يبلغ تأثير شخص على آخر التأثير الذي يبلغه في المجتمعات الأقل حظًّا في التعليم.
الإقليم الذي خرَّج النوابغ والمبدعين تقل فيه نسبة التعليم بشكل كبير، ويرى عالم عباس تقصير المركز في نشر التعليم في دارفور، مشيرًا إلى أن بعض الحكومات كانت ترى في تفشي الجهل مصدرًا لصناديق انتخابية مغلقة، مضيفًا “ربما لو انتشر التعليم أكثر لعرفت قيمة الإنسان والحياة، ولقل الغبن على المركز”. ومن المعلوم أن المجتمعات الرعوية أقل حظًّا من التعليم، ذلك أنها تنتقل من مكان لآخر بالشهور الطوال.
البِشر يصف مدرسة تعليم الرحل التي كان من روادها بحسب إفادته، فيقول “مدارس الرحل هي في الواقع ذات معلم واحد، يتنقل معهم على دوابهم، وكل معلم معه 10 أطفال يعلمهم كل المواد”.
لكن مع اندلاع النزاعات والحروب تعثر تعليم الرحل، كما أثرت الحروب على قرى مستقرة دمرت وصار أهلها لاجئين.
وتعثر حتى نظام التعليم التقليدي المرتكز على دراسة القرآن الكريم والعلوم الشرعية الإسلامية من خلال الخلاوي، اهتزاز كل ذلك أوجد صعوبات تعليمية أثرت في سلوك المجتمعات.
ويرى الشاعر أنس عبد الصمد أن التعليم جزءٌ من كلٍّ متكامل و”لن نتخلص من أزماتنا وحروبنا إلا بإعادة النظر في موروثنا الثقافي وغربلته، هذا الموروث الذي تشوه نتيجة لمخطط مع سبق الإصرار، رغم أهمية وجود مشروع ثقافي لبناء أمة متسامحة معافاة من أمراض العنصرية وداء الكراهية، وبالتشجيع على التعليم وزيادة رقعة الوعي سنحقق كل ما نصبو إليه”.
المبدعون والمعركة
“قال لي قاتلٌ
والردى كأسُه دائرةْ
يدُه للزنادِ وعيناه مغرورتانِ
ماذا ترى؟
قلتُ نازلتانِ عليكَ
الجهالةُ
والرعشةُ الواضحةْ
(حاقدٌ يتمشى على دمك البعضُه) من دمي
وجبانٌ يُقيمُ على مِقْصلةْ”
الأبيات من قصيدة شعبية لمتوكل زروق يحاول فيها -مثل كثير من المبدعين- معالجة ما يجري على الأرض، تسليطًا للضوء ومناقشة للأفكار وكل ما من شأنه إيقاف نزيف الدم. زروق وكثيرون يرون أن المشكلة ثقافية بامتياز، لكن هذا لا يعني عدم وجود وجوه أخرى للمسألة.
وهذا ما قاله عباس من أن “الأسباب كثيرة وكبيرة بعضها دارفوري صرف، وأكثرها في العلاقة بين المركز ودارفور، الثقافة وجه لهذا النزاع، والذين أوقدوا نار الحرب كانوا على دراية بالثقافة المحلية ووظفوها لأغراضهم”.
الشاعر عالم عباس -الرئيس الأسبق لاتحاد الكتاب السودانيين
الشاعر السوداني عالم عباس: الثقافة أحد أوجه النزاع في دارفور (الجزيرة)
القصيدة التي تحدث عنها عباس يؤمن بها منزول أحد شعراء دارفور ومثقفيها، الذي يرى أن كل شيء رسم بعناية، لكنه لا يفقد الأمل في إشاعة العلم والمعرفة وتوظيف الإبداع لدرء هذه الفتن.
سألنا عباس عن دور المثقفين والمبدعين فأجاب “من المثقفين من باع نفسه للسلطة وشيطانها، وكان دوره سالبًا، ومنهم من أدرك النار قبل وقوعها بحساسية المبدع وحاله حال دريد بن الصمة، إذ يقول:
“بذلتُ لهم نُصحي بِمُنعرَجِ اللِّوَى .. فلم يَستبينوا النصحَ إلا ضُحى الغَدِ”
ويستأنف حديثه بألم كبير: “والخوف أن تكتمل قصيدة دريد”، إذ يقول في أبياتها اللاحقة:
فلما عَصَوْني كنتُ منهم وقد أرَى .. غَـــــــوَايتَــهم أَو أنَّــنِي غيرُ مهتدِي
وهـل أنَا إلا من غُزَيَّةَ إِنْ غَوتْ .. غَــــويْتُ وإِن تَـــرشُدْ غُــزَيَّــةُ أرْشُدِ.