الرصاص الطائش يصيب أفراح السودان في مقتل

ليست الفاجعة الأولى، وربما لن تكون الأخيرة التي يُردي فيها أصدقاء مبتهجون عريساً بالرصاص ليلة زفافه، وقد جاءوا ليشاركوه فرحته. غير أن دوي رصاص الأفراح الذي درج على اعتباره جزءاً من إشهار عقد القران، عادة ما تعقبه زغرودة نسائية جماعية تضخ المزيد من الزخم وفورة ضجيج الفرحة، لكنها كثيراً ما تتحول مأساة وفزع ونواح مفجع على العروسة وأهل العريس حين ينقلب حفل الزفاف إلى سرادق عزاء ومأتم.
ضحية جديدة
قبل ثلاثة أيام في حادثة مأساوية جديدة ضمن “مسلسل” حصد أرواح العرسان ليلة الزفاف وفي سيناريو مشابه، هزت “نيران صديقة” أرجاء محلة البيضا في ولاية غرب دارفور. فبينما كان العريس مبتهجاً وسط الأهل والأصدقاء والزملاء، إذ برصاصة طائشة ترديه قتيلاً في ليلة العمر حين كان يزف فيها إلى عروسه. تسبب رصاصات الفرح التي أطلقها أحد أصدقاء العريس بمقتله مباشرة قبل أن يصل إلى المستشفى، وأصيب ثلاثة آخرون من بينهم امرأتان من المشاركات في حفل الزفاف.
وروى شهود عيان وفق قناة تلفزيونية، أن أحد المشاركين في الحفل أصر على أن يعبر عن ابتهاجه ويشارك العريس فرحته بإطلاق زخات من الرصاص، بينما كان يحمل البندقية بيد واحدة وهو يطلق وابل الرصاص. وفي لحظة فقد السيطرة عليها فارتدت وسقطت منه لتردي العريس.
غير أن رصاصات الفرح القاتلة بدت في الآونة الأخيرة وكأنها تتصيد العرسان، من دون أن يتعظ الناس من تكرر المآسي نفسها في كل من الروصيرص ونهر النيل وغرب دارفور، ما يشير إلى شيوع هذه العادة الخطيرة التي باتت تهدد العرسان أنفسهم وترمل العروس قبل ليلة الدخلة.
تكرار لافت للمأساة
ومع صعوبة الحصول على إحصاءات رسمية، ظلت حوادث الموت الخطأ برصاص الأفراح في مناسبات مختلفة على رأسها الزواج، تتكرر بشكل لافت، منها الحادث الذي أبكى أهالي مدينة الروصيرص في إقليم النيل الأزرق، قبل نحو عام مضى، حين لقي العريس حتفه ليلة زفافه بطلق ناري طائش من صديق أطلق لإشهار عقد قرانه وسط أهله وأصدقائه لمباركة زواجه. وقتها قتل العريس بكامل حلة زفافه التقليدية وهو مخضب اليدين بالحناء السودانية، بينما تحول حلم العروسة التي تنتظر بدء حياتها الزوجية إلى كابوس وانهيار عصبي.
ظلت المأساة ذاتها تكرر على نحو تراجيدي، إذ أعادت حادثة البيضا الأخيرة في غرب دارفور إلى الأذهان أيضاً مقتل “عريس الدامر”، المصطلح الذي أطلق على العريس الزاكي حسن الزاكي، الذي سقط أيضاً بنيران صديقة طائشة، في مدينة الدامر في ولاية نهر النيل شمال السودان، بينما كان محمولاً على أكتاف أصدقائه فرحاً وابتهاجاً.
وفي كل مرة تنشط وسائل التواصل الاجتماعي لتوثق المأساة ببث اللحظات الأخيرة للعريس، وهو يتحول خلال دقائق من قمة الفرح إلى جنازة بكامل تحضيراتها. وإثر تلك الحوادث، انطلقت مبادرة أولى لمحاربة الظاهرة تحت شعار “كفاية”. ومع حادثة عريس الدامر تجددت حملات الناشطين المناهضين لرصاص الأفراح، وتوسعت على مواقع التواصل تحت شعار “أفراح بلا سلاح”، وقد حظيت هذه المبادرات باهتمام واسع، لإرغام السلطات على رفع مستوى حظر استخدام الرصاص في الأفراح والمناسبات العامة الذي لم يتقيد به الكثيرون، من قانون وأوامر محلية إلى تشريع يمنع السلاح في الأفراح نهائياً.
ممنوع ولكن
ووجدت حملة الناشطين الواسعة بعد مقتل العريس الزاكي، صداها في ولاية الخرطوم، وأصدر الوالي الأسبق أيمن نمر، مرسوماً ولائياً بحظر استخدام السلاح الناري في المناسبات، مع عقوبات رادعة للمخالفين تصل إلى السجن مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تزيد على السنتين للمدنيين، أو بغرامة مالية ضخمة، أو العقوبتين معاً، إلى جانب مصادرة السلاح الناري.
قضى مرسوم والي الخرطوم أيضاً بمعاقبة منسوبي القوات النظامية في حال إطلاقهم الأعيرة النارية في المناسبات، بالسجن مدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز خمس سنوات، أو بغرامة كبيرة، أو بكلتا العقوبتين معاً مع تسليم السلاح للوحدة المتخصصة، وأجاز المرسوم للمحكمة مصادرة الأسلحة.
وفي هذا الخصوص، تحدث الناشط في محاربة ظاهرة رصاص الأفراح، معاوية محسن، عن تجاربه الشخصية التي دفعت به إلى مناهضة هذا السلوك. وقال إنه عايش منذ صغره حادثة مماثلة أفزعته نتج عنها مقتل خمسة أشخاص بينهم شباب من أسرته في إحدى قرى الجزيرة وسط السودان، برصاص بندقية جدهم أحمد في مناسبة ختان حفيده.
ويقول محسن، “سكنت الواقعة وجداني مثل الكابوس، وما زلت أذكر عندما اصطدمت البندقية بأحد أسلاك نشر الغسيل العرضية لترتد لحظة خروج الرصاص إلى الوضع الأفقي، فتطيح في ثوانٍ باثنين من الفرقة الغنائية والمشاركين ما تسبب أيضاً بجرح ما لا يقل عن ثمانية أشخاص، كان مشهداً مفجعاً ومفزعاً أصابني حتى اليوم بفوبيا من رصاص الأفراح”.
ويستطرد، “وكعادة أهالي القرى، تنازل أولياء الدم في الليلة ذاتها وتم العفو عن الجد أحمد، لكن ما أزعجني فعلاً أن الحادث انتهى ومر بمنتهى البساطة كجزء من أقدار الله المحتومة من دون مساءلة أو عقاب، سوى سحب السلطات لرخصة السلاح. أما الجد أحمد، فقد عاش حتى وفاته يسأل الله المغفرة، وحج أكثر من خمس مرات ابتغاء ذلك”.
النظاميون أيضاً
ويضيف الناشط في محاربة رصاص الأفراح، “ساقتني الأقدار الأسبوع الماضي لحضور عقد قران أحد الأصدقاء، وهو ضابط أمني في وسط مدينة أم درمان، ولما كانت المناسبة على مرمى حجر من قسم كبير للشرطة، تيقنت أنه لا مجال للرصاص هنا، لكن كانت المفاجأة أنه بعد إتمام مراسم العقد، وبينما الناس يتناولون وليمة العُرس، إذ بالرصاص يلعلع بكثافة من بندقية خرطوش متعددة الطلقات، بصورة أشاعت التوتر والفزع بين الحضور، إنهم أصدقاء العريس النظاميون، يطلقون الرصاص بكثافة احتفاء بزواج زميلهم، لذلك ما من شرطي تحرك أو سأل من القسم المجاور”.
وأوضح محسن أن الكثيرين من الحضور استنكروا إطلاق الرصاص، ولملم بعض منهم أطراف خوفه وانسحب من المناسبة، بينما انتحت مجموعة أخرى مكاناً بعيداً من وجهة السلاح، وذلك على الرغم من وجود قانون وأمر صادر عن والي الخرطوم يمنع منعاً باتاً مثل هذه التصرفات في العاصمة الخرطوم، ولكن يبدو أن العادات عندنا على خطورتها تتحدى القانون جهاراً نهاراً حتى لمن هم من منتسبي الشرطة أنفسهم عند مشاركتهم أفراح زملائهم.
وعلى الرغم من القيود القانونية، لم تتوقف ظاهرة إطلاق النار في المناسبات الاجتماعية كالأفراح والختان. ويؤكد المحامي علي حسن الأمين، أن القوانين السودانية كافة تمنع استخدام السلاح في المناسبات العامة أو الخاصة، على رأسها القانون الجنائي قانون الأسلحة والذخائر وجميع قوانين القوات النظامية، فضلاً عن الأوامر التي تصدرها السلطات المحلية، لكن تظل المشكلة دائماً في التساهل وعدم تفعيل القوانين ومتابعة تنفيذها من جانب المعنيين، فضلاً عن تجذُّر تلك العادة كموروث تقليدي بكل ما تحمله من مخاطر ومواجع من جانب آخر.
التوعية المفقودة
ويرى الأمين أن الأمر يحتاج بالفعل إلى حملات توعية كبيرة وسط المواطنين والأهالي لإقناعهم بنبذ ذلك السلوك المميت، للحد من سلسلة الأحزان والفواجع التي خلفها، مشيراً إلى أن ما يزيد من خطورة الظاهرة هو دخول استخدام أنواع خطيرة من الأسلحة الآلية مثل الكلاشنيكوف وبعض البنادق الرشاشة التي باتت تستخدم أيضاً في الأفراح.
ونظراً إلى تاريخ وجود الظاهرة في المجتمع السوداني، فقد صادق البرلمان قبل أربع سنوات في عهد حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير على تعديلات في قانون الأسلحة والذخائر، بتشديد عقوبة السجن إلى مدة تصل إلى 5 سنوات، أو الغرامة، على كل من يطلق الرصاص في المناسبات الاجتماعية، ونص التعديل أيضاً على منع استخدام الأسلحة المطاطية أو الصوتية المشابهة للنارية.
ولم يعفِ البرلمان وقتها القوات النظامية من المسؤولية باعتبارهم الأكثر استخداماً للسلاح في المناسبات العامة، مشدداً على المحاكمة الجنائية والإدارية لكل من يتورط في ذلك.
وتظل ظاهرة إطلاق الرصاص في الهواء في المناسبات الاجتماعية منتشرة في كل أنحاء السودان، في ظل عدم تفعيل وتطبيق القوانين، بخاصة أن الكثيرين من مطلقي الرصاص في الأفراح من قوات أمنية ما يصعب ملاحقتهم أو مساءلتهم، مع غياب الوعي اللازم تجاه خطورتها التي أحالت الكثير من الأفراح إلى مآتم وأحزان.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...