كل شيء ميسور والظروف سااااامحة
لم يعد الحال كما كان في زمن هذه الأغنية ولم تعد الظروف (سمحة) ولم يعد كل شيء موفوراً وميسوراً وطفا على السطح كل مغمور وسادت الفوضى ومنطق البندقية
هكذا كانت أغاني الزمن الجميل تشابه زمانها في اليسر والسهولة والحياة الخالية من الهموم.. أغنية مصطفى بطران الرائعة (اترك الأحلام يا جميل واصحى) والمصنفة في الغناء السوداني ضمن أغاني (الحقيبة) جعلتني أستغرق في نقاش مع أحد الأصدقاء حول جملة وردت بهذا النص الغنائي وهل الجملة (المفيدة جداً) والتي تقول: (كل شيء ميسور والظروف سمحة) أم إنها كانت تحكي عن (الظروف سااامحة) وانتفاء العوائق والتثبيط، وأجد نفسي مع الأخيرة إلا أن كلا المعنيين يسوقنا إلى المراد وسهولة الحياة وسلاستها وسياستها في بلادنا الحبيبة (المليون ميل مربع) الذي كان قبل أن ينتقصه من انتقصه واقتنصه!!
قطعاً هي أغنية جميلة وموضوعها في الغزل ووصف الطبيعة في معية المحبوب في أمسية من أمسيات بلادنا الرائعة
والعجيب في أمر أغنية مصطفى بطران أن كثيراً من أبياتها يجعلنا نضع المقارنات مع الراهن أو إسقاطه على واقعنا الحالي و(نترك الأحلام ونصحى).. وفي ظل انتفاء الجمال الروحي والفيزيائي ونجد أنفسنا قيد موضع معاكس ومضاد لكلمات الأغنية تماماً.. فعلى سبيل المثال يقول الشاعر:
النسايم لو غادية أو رايحة
بي ندى الأزهار والعبير فايحة
فالنسائم التي تهب من النهر الخالد هذه الأيام لا تحمل سوى روائح الغازات المسيلة للدموع (البمبان) وفي أحسن الأحوال روائح حرائق الكمائن الكريهة أو حرائق اللساتك بأمر المغلوب على أمرهم (الثوار) وانتفاء الجمال تماماً في سودان اليوم
أما وصفه لصوت الساقية بألحان النائحة
والسواقي تئن بي نغمة ألحان صوتا كالنائحة
فنحن الآن في زمن النواح الحقيقي على شواطئ النهر الخالد الذي ابتلع بفعل فاعل جثث الشباب اليافع في ليلة (فض الاعتصام)، أما أصوات أنين السواقي فقد حل محله أنين أمهات يبكين بحزن عميق أولادهن وبناتهن وأدمت عيونهن في زمن القتل والسحل والإغراق لمحو آثار الجرائم الإنسانية وصوت الرصاص لا يتوقف فوق رؤوسهن ولم نعد نسمع
(البلبل ولهجتو الفصحى)!
فقد أصبحت سماء بلادنا تحلق فيها طيور جارحة لم نعرفها من قبل واختلطت (اللهجات)، بل أصبحنا نسمع (لغات) لا ندري من أين أتت، فقد ولت ليالي الحب والجمال وانتفت الأخلاق السمحة التي كانت تميز أهل السودان وامتازوا بها
ولا يوجد من يعير كلام العقل والمحبة اهتماماً، فالحديث أصبح للبندقية ذات الصوت المسموع فقد راح زمن:
عير كلامي معاك يا جميل لمحة
قوم معاي وميل قامتك السمحة
لا يوجد من يعير الآخر أقل اهتمام الكل يريد أن (يبتلع) الكل ولا صوت يعلو على صوت الرصاص والبندقية هي صاحبة القرار في بلادي الجميلة!
ليالينا لم تعد كما كانت.. بيوتنا تعلوها الأسلاك الشائكة، ونومنا أصبح نوم (الديك في الحبل)، ونتوقع كل ما هو سيئ ولم يعد الليل هو ليل بطران وقصيده أو بذاك الجمال:
شوف جمال الليل يا جميل اصحى
واسمع البلبل ولهجتو الفصحى
وأصبحنا في (عز الليل) ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش وننوم (مساهرين) نحن والأسلاك والأشواك!! وحالنا حال المغني مع التعديل (أنا والأشواك في بعدك بقينا أكتر من قرايب)، ونعني هنا نحكي عن (بُعد) الأمن والأمان عن بلادنا الحبيبة !!
وأحسب أن لسان حال كل أهل السودان يقول عن الليل ما قاله امرؤ القيس:
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي
بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
أم إننا أمام ذات اللوحة مع بطران (مُعدل بنقطتين فقط)
منظر (الثوار) يغني عن أنوار ولى الظلام يمحى
ونظل نتعلق بالأمل وإن بعُد وأن بلادنا إن شاء الله ستشهد قريباً وعاجلاً.. كل شيء (موفور) والظروف سمحة وساااامحة بالأمن والأمان والتعليم والصحة وفوق ذلك الأخلاااااااق
سلام
محمد طلب