“فاغنر” الروسية وذهب السودان… امتياز تعدين أم “نهب”؟
سلطت وسائل إعلام سودانية ودولية عدة خلال الفترة الماضية، الأضواء على أنشطة “شركة فاغنر” الروسية في السودان بخاصة في مجال تعدين الذهب، وذهب البعض إلى اتهامها بنهب ثروة هذا البلد الهائلة من المعدن النفيس، باتباعها طرقاً غير قانونية، فضلاً عن ممارستها أنشطة تدريبية في مجال الأمن، وهو ما أثاره أيضاً سفراء “دول الترويكا” (المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج) في الخرطوم في وقت سابق من خلال بيان عاصف أثار غضب السلطات السودانية. فما حقيقة هذه الاتهامات ووضعية هذه الشركة الروسية وما تمارسه من أنشطة تعدينية وغيرها، وكيف دخلت إلى السودان؟
وضع شاذ
يقول وزير البترول والتعدين السوداني السابق، عادل إبراهيم، “في تقديري، أن شركتى ميرو غولد وكوش الروسيتين اللتين تعملان في مجال تعدين الذهب في السودان لم تمارسا حتى الآن أي عمل أو مجرد محاولة للتعدين الاحترافي، على الرغم من أن لديهما ترخيصاً للعمل في هذا النشاط، فالأولى (ميرو غولد) حصلت على ترخيص استثنائي خلال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير للعمل في مجال مخلفات التعدين ما يُعرف محلياً بـ”الكرتة”. وهي الشركة الأجنبية الوحيدة التي مُنحت هذا الامتياز ويجدد العقد سنوياً. ولا تبذل هذه الشركة جهداً كبيراً مقابل ما تحصل عليه من كميات كبيرة من الذهب، حيث توفر فقط الآليات والمعدات الخاصة باستخراج الذهب من الصخور والجبال في المناطق النائية للعمالة السودانية التي تتولى هذه المهمة مقابل نسبة متفق عليها بين الطرفين”.
وأضاف إبراهيم أنه “في ظل هذا الوضع الغريب والشاذ قمنا كوزارة للتعدين خلال فترة الحكومة الأولى لرئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بإخضاع كل الشركات التي تعمل في مجال معالجة مخلفات التعدين، بما فيها شركة ميرو غولد، إلى المراجعة من ناحية الترخيص والاتفاقيات المبرَمة، وتوصلنا إلى أن يكون نصيب حكومة السودان ثلث الإنتاج الذي يتم استخراجه من ذهب الكرتة. وقد وافقت الشركة الروسية ميرو غولد فوراً على هذا الاتفاق الجديد من دون تردد، فضلاً عن أن تكون مدة سريان الترخيص سنتين بدل سنة واحدة، لكن ما حدث بعد ذلك، كان ظهور أعداء كثر ينطلقون من مراكز قوة في الدولة لوقف تلك التوجهات والإصلاحات التي كنا ننوي القيام بها في مجال التعدين، ومن أهمها مراجعة كل الاتفاقيات والعقود والتراخيص التي أُبرمت في السابق مع الشركات المحلية والأجنبية التي تعمل في تعدين الذهب، وبالتالي لم تُمنح الحكومة آنذاك الفرصة الكافية لمراجعة تلك الاتفاقيات ووضع اتفاقيات نموذجية بديلاً منها”.
وتابع، “أما في جانب عمليات الرقابة على إنتاج الذهب منعاً لتهريبه فقد بدأنا في هذا الموضوع من أجل محاربته ومحاصرته، لكن فوجئنا بأيادٍ خفية تعمل ضد هذا التوجه، بل تم عزل وكيل الوزارة الذي كان يقود هذا العمل وتعيين آخر بديلاً منه، فضلاً عن تعيين مدير عام جديد للشركة السودانية للموارد المعدنية داعماً لهذا الخط. فلو أُتيح لنا الوقت الكافي لكنا راجعنا وضع الشركات الأجنبية بما فيها الروسية. ومن المؤسف أن قوة نظامية تشكل طرفاً في عمليات التهريب، ما يصعّب عمليات مكافحة ومحاربة هذه الظاهرة التي غالباً ما تتم عبر مطارات البلاد المعروفة”.
ونوّه، وزير البترول والتعدين السابق، بأن “الوضع في تعدين الذهب مؤلم جداً نظراً إلى أن هناك ثروة كبيرة مفقودة بسبب الفساد والتهريب، فضلاً عن وجود ثروة معطلة من خلال استيلاء شركات عدة على مربعات تحتوي على كميات ضخمة من الذهب من دون مباشرة العمل فيها. كما أن نصيب الحكومة وما يدور في مجال مخلفات التعدين أمر محزن، وهو ما يتطلب إخضاع كل الشركات العاملة في النشاط (الكرتة) إلى مراجعة فنية واقتصادية ومالية حتى تعود حقوق الدولة السودانية المنهوبة كاملةً”.
شكا وزير البترول والتعدين السوداني السابق من مراكز قوة منعت مراجعة العقود مع الشركات الأجنبية (اندبندنت عربية – حسن حامد)
صلاحيات استثنائية
من جهة أخرى، أشار مصدر حكومي سوداني (رفض ذكر اسمه)، إلى أن الرئيس السوداني السابق عمر البشير هو مَن منح شركة فاغنر الروسية حق امتياز غير قانوني (صلاحيات استثنائية) لممارسة العمل في مجال مخلفات التعدين في الذهب (الكرتة) كمكافأة لرئيسها يفغيني بريغوزين نظير تدخله بإقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بزيارة البشير روسيا مرتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، ويوليو (تموز) 2018، نظراً إلى ما يربط بينهما من علاقات صداقة حميمية، إذ اعتذرت موسكو قبل ذلك مرات عدة، عن عدم استقبال البشير بطلب من الخرطوم.
وتابع المصدر، أن “صلاحيات شركة فاغنر في السودان شملت أن تكون حراساتها من مجموعات مرتزقة وليس من قبل شركات أمنية نظامية سودانية، إضافة إلى هبوط طائراتها بمقرها وإقلاعها من دون مراقبة وتفتيش من قبل السلطات السودانية. لكن بعد إطاحة نظام البشير وصلتنا مخاطبات ورسائل عدة من واشنطن تستهدف شركة فاغنر الروسية التي يمتد نشاطها إلى جانب تعدين الذهب، إلى العمل في مجال التدريب العسكري، فضلاً عن إرسال قائمة بأسماء الشركات الروسية المحظور التعامل معها وقياداتها، وجرت نقاشات بين جهات عدة ذات العلاقة بهذا الشأن، لكن نظراً إلى دخول المكونَين العسكري والمدني في خلافات عميقة أوصلت إلى انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)، ظل الوضع على ما هو عليه، لكن جُمدت حسابات شركة مروي غولد في المصارف السودانية بموجب تعليمات أميركية”.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقويض الحوكمة
وفي مايو (أيار) الماضي، نشر سفراء دول الترويكا في الخرطوم (النرويج، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) بياناً مشتركاً جاء فيه، أنه “مجموعة فاغنر المرتبطة ببوتين تعمل في السودان على نشر المعلومات المغلوطة على وسائل التواصل وتشارك في أنشطة غير قانونية مرتبطة بالتنقيب عن الذهب، ما يهدد حكم القانون الذي يكافح السودانيون من أجله”.
وأشار البيان إلى أن “أنشطة مجموعة فاغنر تقوّض الحوكمة الرشيدة واحترام سيادة القانون التي ظل الشعب السوداني يناضل من أجلها منذ اندلاع ثورة ديسمبر” (كانون الأول) 2018.
لكن الخارجية السودانية اتهمت سفراء الترويكا بالتدخل في شؤونها الداخلية ومخالفة التقاليد المنظمة للعمل الدبلوماسي في البلاد. ونفت ما أُثير بشأن أنشطة غير قانونية تقوم بها “فاغنر” في السودان.
وأبدت الخارجية في بيان استغرابها واستنكارها إقحام هؤلاء السفراء، السودان في الصراع الدائر بأوكرانيا بصورة وصفتها بـ”الاعتباطية والجزافية”، بما يمثل تدخلاً سافراً في شؤون السودان الداخلية و”مفارقة بيّنة أخرى للأعراف والممارسات الدبلوماسية المرعية”.
ونوّه البيان بأن السفراء مضوا إلى أكثر من ذلك بأن ادعوا معرفتهم “بوجود شركة فاغنر الأمنية الروسية في السودان واضطلاعها بمهمات تدريبية وتعدينية وأخرى مناهضة لسيادة القانون والحوكمة، على حد زعمهم، وهذا هو ما تود حكومة السودان نفيه جملةً وتفصيلاً”.
نشرت “نيويورك تايمز” تحقيقاً موسعاً حول نشاط مجموعة فاغنر في تعدين الذهب في السودان (اندبندنت عربية – حسن حامد)
سيطرة اقتصادية
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز”، كشفت في تحقيق صحافي نشرته هذا الأسبوع عن أن مصنعاً يقع في منطقة العبيدية الغنية بالذهب على بُعد 320 كيلومتراً شمال الخرطوم يخضع لحراسة مشددة محاط بأبراج لامعة، يسميه السكان المحليون “الشركة الروسية”، ويعمل في نشاط التعدين، لكنه في الحقيقة واجهة للمنظمة شبه العسكرية، “فاغنر”، وطيدة العلاقة بالكرملين، إذ يعالج المصنع أكوام الخام من سبائك الذهب، حيث حصلت “فاغنر” على امتيازات تعدين مربحة تنتج سيلاً متدفقاً من الذهب كما تظهر السجلات، ويعزز مخزون الكرملين من الذهب، البالغة قيمته 130 مليار دولار، الذي يخشى المسؤولون الأميركيون استخدامه للتخفيف من تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو بعد شن الحرب على أوكرانيا، من خلال دعم العملة الروسية المحلية “الروبل”.
وأشارت الصحيفة إلى أن “شركة فاغنر، المعروفة بأنشطتها العسكرية، ومساعدتها الأنظمة الديكتاتورية للبقاء في الحكم، من خلال شبكتها الغامضة من المرتزقة، أصبحت أكثر من مجرد آلة حرب في أفريقيا، تتمدد وتتعزز قوتها من خلال سيطرة اقتصادية وعمليات التأثير السياسي”. وتابعت، “في عام 2017، توسعت فاغنر في أفريقيا، بتوجيه واضح من يفغيني بريغوزين، رجل الأعمال الروسي المعروف باسم (طاهي بوتين)، حيث بات المرتزقة التابعون لها عاملاً مهماً، بل محورياً في بعض الأحيان في سلسلة من البلدان المتضررة من الصراعات مثل ليبيا، وموزمبيق، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وأخيراً في مالي، بخاصة مع انسحاب القوات الفرنسية، حيث اتُّهمت فاغنر بارتكاب فظائع ضد المدنيين في هذه البلاد وغيرها”. وأضافت “نيويورك تايمز”، “إذا ألقيت نظرةً فاحصة على أنشطة هذه الشركة الروسية في السودان، ثالث أكبر منتِج للذهب في قارة أفريقيا يتكشف لك إلى أي مدى استطاعت هذه المنظمة التمدد والتوسع، ففي شرق السودان، تدعم فاغنر مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية، وفي غرب السودان، وجدت المجموعة في هذه المنطقة مصدراً محتملاً لليورانيوم، ومنصة لمرتزقتها للانطلاق في عمليات عسكرية في البلدان المجاورة”.
زيارة حميدتي
ومنذ استيلاء الجيش السوداني على السلطة في 25 أكتوبر 2021، وطدت “فاغنر” شراكتها مع قائد “قوات الدعم السريع”، الرجل الثاني في المجلس العسكري الذي نفذ الانقلاب، محمد حمدان دقلو، الذي تصفه الصحيفة بأنه “متعطش للسلطة”.
وزار دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، موسكو في 24 فبراير (شباط) الماضي، وهو اليوم الذي شنت فيه الحرب على أوكرانيا.
وفي سياق التحقيق، أشار مسؤولان غربيان كبيران للصحيفة، إلى أن “فاغنر” هي التي نظمت زيارة حميدتي إلى موسكو، وأنه على الرغم من أن الزيارة كانت ظاهرياً لمناقشة حزمة مساعدات اقتصادية، وصل قائد “قوات الدعم السريع” مع سبائك ذهبية على طائرته، وطلب من المسؤولين الروس المساعدة في الحصول على طائرات من دون طيار مسلحة. والتقى خلال هذه الزيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف.
ووصف تجار محليون خلال المقابلات التي أجرتها معهم “نيويورك تايمز”، كيف يأتي الروس إلى السوق لأخذ العينات وشراء الذهب الخام، حيث يدفعون ما يصل إلى 3600 دولار مقابل حمولة شاحنة تزن تسعة أطنان من الصخور، مؤكدين أن الروس في بعض الأحيان كانوا يأتون بحماية جنود من قوات الدعم السريع التابعة للفريق دقلو.
ويُعتبر معدن الذهب أحد ملاذات روسيا لتحصين اقتصادها ضد العقوبات الغربية التي تم فرضها بعد العملية العسكرية في أوكرانيا. كما يعوّل السودان على هذا المعدن كمورد رئيس للنقد الأجنبي بعد خسارته ثلاثة أرباع عائداته النفطية، إثر انفصال جنوب السودان في عام 2011، وفقدان 80 في المئة من موارد النقد الأجنبي.
ووفقاً لمصادر اقتصادية، فإن السودان لديه 140 شركة تعمل في مجال التنقيب عن الذهب، بينما يتراوح عدد الشركات المنتِجة، بين 12 و15 شركة وتمثل 20 في المئة من إنتاج السودان من الذهب، من بينها شركتا “كوش” و”ميرو غولد” الروسيتَين، في حين أن التعدين الأهلي أو التقليدي الذي يعمل فيه أكثر من مليون عامل سوداني يشكل 85 في المئة من حجم الإنتاج السوداني الذي يتم تهريب كميات كبيرة منه تصل إلى 70 في المئة من إجمالي الإنتاج.