الفن والغناء السوداني ما بين العراقة والحداثة
بقلم: حسام الدين كرنديس
بدأ الغناء السوداني منذ التاريخ القديم لحضارات النوبة بممالكها المختلفة (كوش، مروي) وغيرها، ويستند الغناء في السودان على موروث ثر مستمد من الغناء الشعبي والديني الصوفي (المديح).
ومع مرور الزمن امتزجت الثقافة الأفريقية القديمة مع العربية المستحدثة حين ذاك، وكانت البداية لنشوء ما يُعرف الآن بثقافة الوسط وتكون الدولة السودانية الحديثة ليظهر الفن السوداني الخاص الذي يعبر عن وجدان شعبه ويعكس تنوع بيئاته.
فقد تم العثور على رسومات لآلة الطمبور (الربابة) في آثار حضارة النوبة ويؤكد عدد من المؤرخين ظهور الغناء السوداني في شكله الحالي إلى ما بعد الهجرات العربية إلى السودان وانتشار الدين الإسلامي في الممالك الكبرى.
مرَّ الفن السوداني بمراحل عديدة وكثيرة، كما شهدت الأغنية السودانية حراكاً ومحاولات للخروج من الأطوار الشعبية القديمة (الطمبارة) لتصل الى مرحلة (أغاني الحقيبة)، والتي يؤرخ لها ببداية عشرينيات القرن الماضي، وامتزجت بالتراث الموسيقي الأفريقي النوبي القديم من (طبول، الرق، المثلث)، فظهرت الآلات الموسيقية بشكل قوي وإدخال الإيقاعات والمزامير والآلات الوترية وتأثرت بثقافات موسيقية أجنبية وأبرز رواد مرحلة الحقيبة من المغنين الحاج محمد أحمد (سرور) وعبد الكريم عبد الله مختار (كرومة) اللذان عملا على تطوير الغناء السوداني في الموسيقى واللحن.
ويعتبر كرومة من المجددين في الألحان وشكل الإيقاع رغم أن سرور وضع سبقه في ذلك لكن الألحان التي أتى بها كرومة تعتبر فريدة في ذاك الزمان، وتبعه بعد ذلك سرور في طريقة الألحان والعديد من المغنين في تلك الحقبة.
فغنى كرومة (ما رأيت في الكون يا حبيبي أجمل منك) من كلمات الشاعر عبد الرحمن الريح
ما رأيت في الكون يا حبيبي أجمل منك
في جمالك وتيهك وفي جهالة سنك
من كمالك وظرفك ومن جمالك أظنك
يا حبيبي نساء الدنيا ما ولدنك
راجي عطفك ولطفك راجي حلمك وحنك
ديمة يا مريود تجدني سائل عنك
يا حبيب الأنفس ما بتوب من حبك
لو صليتني بنارك برضي برضى بحبك
مرة تايه في دلالك ومرة أرعى محبك
مرة خليك جاير مرة خاف من ربك
يا جميل المنظر كيف كيف أذمك
سيبني في آلامي وبالعلي ما يهمك
خالي عقلك وقلبك فاضي فكرك وهمك
المدام المسكر والعسل في فمك
قلبي ذاب من نارك وصبري ضاع من صدك
هل أداري حياتي أم أعالج ودك
نسمة الأسحار مزاجه نفحة ندك
وزهرة الأزهار بستانة صفحة خدك
السرور أوقاتك والمحاسن خمرك
الزمان خدامك ممتثل لي أمرك
لعب سرور دوراً مهماً في تغيير شكل الأوتار في منطقة وسط السودان وذلك عندما حاول التخلص من الطنابرة واستبدالهم بمجموعة الشيالين (الكورس) وهو أول من أدخل آلة الرق في السودان حيث أتى به من مصر في الثلاثينات، سرور أسطورة الغناء السوداني سنخصص له مساحة في الأيام القادمة..
وغنى الحاج محمد أحمد سرور (برضي ليك المولى الموالي) من كلمات شيخ الشعراء إبراهيم العبادي، هو أول مطرب سوداني تنشر أسطواناته خارج حدود البلاد، فبعد أن سجل أغنياته على حسابه الخاص وباع جزءاً منها في الخرطوم وأمدرمان كان يبيع الباقي في أديس أبابا وأسمرا.
وتغنى سرور برائعة الشاعر سيد عبد العزيز – (من حور الجنان) والتي وضع لها لحناً فريداً..
من حور الجنان
من حور الجنان أم أنت إنسان الكمال
هل أنت الملاك جيت توري الناس الجمال
سبحان من نشأك حسنه وفي غاية الكمال
يهواك الجنوب وإليك ينقاد الشمال
وما أظن يحصوا حسنك لو يحصوا عدد الرمال
بي إيه يقدروك يا ملك ملوك عصر الجمال
سلطان بهجتك محروس بجيوش الجلال
ويغار من صفا حسنك صفا ماء الزلال
في مراية خدودك أشوف تأكيد سحر الحلال
وأشوف في سما حسنك كل يوم يسطع هلال
الشاعر المرهف إدريس محمد جماع من مواليد مدينة حلفاية الملوك (1922م) وهو معلم، كتب العديد من القصائد الخالدة ومنها المغنى وغير المغنى، وأشهر قصائده التي تم التغني بها (رحلة النيل)، له ديوان شعر باسم “لحظات باقية”، تختلف قصائد إدريس من حيث النظم في اختيار مفردات بديعة في تشبيهاتها واستلاف الصور البلاغية، كما في قصيدته (أعلى الجمال) والتي تغنى بها الفنان الراحل سيد خليفة.
أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تنسي الوقار وتسعد الروح المعنّى
دنياي أنت وفرحتي ومني الفؤاد إذا تمنّى
أنتَ السماءُ بدتْ لـنا واستعصمتْ بالبعدِ عنا
هلاَّ رحـمتَ مـتيمـاً عصفت به الأشواق وهنا
وهفت به الذكرى فطاف مع الدجى مغنى فمغنى
هـزته مـنك مـحاسن غنى بها لـمّـَا تـغنَّى
يا شعلةً طافتْ خواطرنا حَوَالَيْها وطــفنــا
بهذه الروعة التي مزجت ضبط الكلمات وقوة المعاني وعذوبة الألحان وبهذا الجمال الذي عكس ذكاء الفطرة وسرعة البديهة وثقافة إنسان المنطقة التي تعكس القوة الاقتصادية للدولة والتعايش السلمي بين سكانها بمختلف قبائلهم وعقائدهم وأديانهم وألوانهم الذي جسدته أغنية (من الأسكلا) والتي نظم أبياتها الشاعر الفذ المجود الشيخ محمد ود الرضي، وعدد من الأغنيات الأخرى وضع أساس الفن والغناء السوداني.
أما الحداثة والأغنية الحديثة التي اختلفت معاييرها نسبة لعدة عوامل، مع تطور الزمن وانشغال الناس بلقمة العيش التي لم تكن يوماً هاجساً مثل اليوم وسرعة إيقاع الحياة أصبح الناس يعشقون الأغنية الخفيفة في كلماتها وألحانها وموسيقاها أيضاً، فإذا كان جيل العراقة إبراهيم العبادي وصالح عبد السيد أبو صلاح سيد عبد العزيز وود الرضي وكرومة وسرور وعمر البنا ومحمد أحمد عوض، وتبعهم من الجيل الذهبي حسن عطية وعثمان الشفيع والكاشف وإبراهيم عوض، ووردي ومحمد الأمين وغيرهم من فناني الزمن الجميل.
فجيل الحداثة الذي يمثله محمود عبد العزيز ونادر خضر وجمال فرفور وأحمد وحسين الصادق ومحمد النصري وطه سليمان وهيثم عباس وأمجد حمزة وأحمد البلال ومحمود الجيلي.
فغنى أسطورة الفن الحديث (الحوت، الجان) محمود عبد العزيز (لا تسأل جراحك وين)
حلمت عشمت يا قلبي بكرة تريدك وتصافي
تقاسم عمرك الأفراح تشيل من همك وتواسي
تسهر معاك في ليل أسى وتسير معاك درباً قسا
يعوضك الله روح بالفيك منو الغير الله عاد بجزيك
ولا تسأل هي راحت وين تروح إن شاء الله في ستين
تقول بس قدرك إنت كده ولا تسعد ولا ترتاح
لا حزنك يداخلو سرور ولا ليلك يعاقبو صباح
لو الريد عشم وحظوظ أكيد يا قلبي ما محظوظ
بتخلص تخجل الإخلاص وتوفي الريدة ريدتاً صاح
شجاع اخترت فيها البين ولا غافل ولا مسكين
لا أول غرام أو ريد ولا أول فراق اتنين
مسالم كنت ليها وديع أفنيت في هواها أحلى ربيع
محمود عبد العزيز حالة فريدة تحتاج دراسة مزجت بين الإنسانية والصفات النادرة يحتاج لباحثين ومتخصصين يحللوا تلك الشخصية قبل الفن والغناء، أما الإمبراطور كما يحلوا لعشاقه أو (الكجونكا) أحمد الصادق الذي ابتدأ مشواره الفني بأغنية الفنان إسماعيل حسب الدائم (يابا حرام) وأغنية الفنان عبد المنعم الخالدي (يا سلمى) وأبدع فيهما أيما إبداع وجذب الشباب والتفوا من حوله ليصدح بأغنيات من كلمات الشاعر يوسف البربري “أدمنت ريدك وخسارة ريد وأيضاً فارع القوام ومحطة شوق وأنا المهجور والناس ظروف” ويتبعها بأغنية “أنت الأول” التي سطر كلماتها الشاعر المرهف أحمد حمزة..
إنت الأول يا حبيبي أنا
وما بتتحول من قلبي هنا
لو جافيتني وبعادك طول
برضو الأول يا حبيبي أنا
أنت الأول وأنت التاني
أنت روحي والأماني
لو تنساني لو تسلاني
في طريقك حبك برضي بتجول
أنت الأول
يا سمايا يا قمري المضوي
يا مزاجي يا عدال جوي
مهما تسوي حبك قووي
حبك فيني اتغول
أنت الأول
من الآخر ما بسيبك
أنت حبي وأنا حبيبك
خف تعذيبك أنا نصيبك
أنت عندي الآخر والأول
أنت الأول .
بهذه الكلمات الرائعات التي تمثل جزءاً قليلاً من الموروث الثقافي لشعبنا حاولت أن اعكس شيئاً من هذه الإبداعات.. ولنا عودة عبر هذه المساحة للمواصلة في هذا الموضوع..