سيناريوهات 30 يونيو السوداني
هناك قناعة لدى كثير من المراقبين على الساحة السياسية السودانية، ولدى كثير من السودانيين بأن يوم 30 يونيو (حزيران) لن يكون يوماً كما قبله من الأيام، كونه اليوم الذي تأتي ذكراه متزامنة مع أوضاع مشابهة تماماً للأسباب التي حولت هذا اليوم من عام 2019 من يوم يعكس ذكرى العار الانقلابي لنظام البشير في 30 يونيو 1989، إلى يوم قيام الثورة السودانية الثانية، حيث إن خروج الشعب السوداني بالملايين في 30 يونيو 2019، كان مؤشراً للقرار الثوري الحازم الذي اتخذه هذا الشعب رداً على الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد “الدعم السريع” محمد حمدان حميدتي بعد “مجزرة فض اعتصام القيادة العامة” بالخرطوم في 3 يونيو 2019 التي أرادوها مجزرة على قياس سيناريو آخر في المنطقة العربية، ففاجأهم الشعب السوداني في يوم 30 يونيو 2019 أي من الشهر ذاته بقيامة ثورية خرج فيها أكثر من 5 ملايين سوداني مما اضطر الانقلابيين اضطراراً إلى الخضوع لإرادة الشعب التي أفضت بعد ذلك إلى توقيع اتفاق 17 أغسطس (آب) من العام ذاته، حيث تم بموجبه إقرار الإعلان الدستوري والسياسي الذي حكم المرحلة الانتقالية منذ ذلك اليوم حتى انقلب عليها قائد الجيش مرة أخرى في يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في محاولة من العسكر لإنهاء المرحلة الانتقالية والغدر بها.
هكذا سيخرج السودانيون في 30 يونيو 2022، لكنهم هذه المرة ليس لمجرد الاحتفال به كيوم من أيامهم المجيدة– على ما كان الحال في العامين الماضيين (2020- 2021)- بل بوصفه يوم استعادة المهمة التي حققها في عام 2019 بإسقاط انقلاب العسكر، الذي تجدد في 25 أكتوبر بنفس الوجوه التي قادت الانقلاب السابق في 3 يونيو 2019، لكن حين يخرج الشعب السوداني هذه المرة لن يكون هدفه خلق أوضاع تفضي إلى المشاركة مع العسكر في أي سلطة أو حكومة مقبلة، بل فقط لإخراج العسكر من العملية السياسية مرة وإلى الأبد، لذلك فإن السيناريوهات المحتملة لهذا اليوم وما يليه– وربما ما قبله- هي في تقديرنا ثلاثة سيناريوهات.
الأول أن يفاجئ العسكر و”قوى الحرية والتغيير” الشعب السوداني بإعلان اتفاق يتم إخراجه من الغرف المغلقة إلى وسائل الإعلام بما يفيد شروعاً في صفقة جديدة بين الطرفين تتضمن خروج البرهان وحميدتي من المشهد السياسي برعاية قوى إقليمية ودولية، وبحيث يكون إعلان هذا الاتفاق قبل يوم 30 يونيو.
أما السيناريو الثاني، فيتمثل في الضغوط التي سيصنعها يوم 30 يونيو عبر “الكتلة الحرجة” التي قد تختبر فيها “لجان المقاومة” والحركة الجماهيرية طرق مبتكرة لشل حركة الحياة العامة في الخرطوم، باستراتيجية قد تفضي إلى تداعيات متسارعة يكون من ضمنها حركة داخل الجيش تعيد إنتاج سيناريو يوم 11 أبريل (نيسان) 2019 الذي سقط بموجبه البشير، حين قررت اللجنة الأمنية بقيادة البرهان، آنذاك التحرك. وربما تضمن هذا السيناريو صفقة داخل الجيش وبعض القوى الدولية والإقليمية يخرج بموجبها البرهان وحميدتي عن المشهد السياسي.
السيناريو الثالث، وهو استمرار الحالة التي آل إليها الوضع الانقلابي منذ 25 أكتوبر 2021، لكن مع تداعيات قد تفضي إلى حدوث فوضى بوتائر متسارعة وقد تكون غير متوقعة نظراً إلى توافر كل مبررات فشل الدولة وخطورة هذا السيناريو أنه سيكون نتاجاً طبيعياً للتفكيك الذي ضرب بنية الدولة خلال 30 عاماً من سلطة النظام الانقلابي للبشير. هذه السيناريوهات الثلاثة التي نتصورها عبر تقديرات احتمالية من معطيات الأوضاع في الواقع السياسي الراهن هي مجرد رؤية قد تختلف عنها المصائر التي ستحدث بعد يوم 30 يونيو 2022 لكن ما هو واضح تماماً أن انقلاب 25 أكتوبر سقط موضوعياً، بفقدانه المبررات والأوهام التي توهم الانقلابيون تحقيقها حين أجهضوا المرحلة الانتقالية.
هذا في ما يخص السيناريوهات، أما بما يتصل بإصرار الشعب السوداني على مواصلة التحرك الثوري ضد الانقلاب فإن يوم 30 يونيو بالنسبة للشعب السوداني يمثل– هذه المرة- يوماً لأداء مهمة محددة ومجربة هي إسقاط الانقلاب كما تم إسقاطه في مثل هذا اليوم قبل 3 سنوات. وإذا جاز لنا أن نقارن بين وضع القوى الثورية غداة 30 يونيو 2019 ووضعها اليوم، سنجد هناك فرقاً واضحاً، بين قوى ثورية كانت في ذلك اليوم على قلب رجل واحد ويقودها تحالف واحد هو تحالف “قوى الحرية والتغيير”، بينما نجد وضع القوى الثورية والسياسية اليوم منقسماً على نفسه (على الرغم من وحدة الهدف التي هي إسقاط انقلاب 25 أكتوبر) الأمر الذي سيعني لنا من وجهة نظر استراتيجية أن ثمة عطباً يكتنف العقل الحزبي والسياسي سيكون- وفق الحالة التي يعبر عنها هذا العقل اليوم على خلفية الانقسام الثوري- واعداً بمشكلات كثيرة غداً.
بطبيعة الحال سيستغل المكون العسكري حادثة قتل 7 جنود سودانيين من قبل ميليشيات إثيوبية، الأحد الماضي، عبر استنفار الشعور الوطني، ولن يخلو تفكير العسكر بطبيعة الحال- وفقاً لبروباغندا موجهة- من بث رسائل دعائية ستعكس مأزقه أكثر مما تعكس مصداقيته، وفق ما رأينا في التصريح الصحافي للمستشار الإعلامي لسلطة الانقلاب العميد الطاهر أبو هاجة الذي قال فيه، “إن التآمر الذي يحدث ضمن حدودنا وما يخطط له هنا خلال الأيام المقبلة، يخرج من مشكاة واحدة، وما يخطط هناك يرتبط بمخططات هنا مصدرها واحد”، في اتهام واضح لقوى الثورة واستعداداتها ليوم 30 يونيو بوضعها في مصاف واحدة مع أعداء السودان، هذا التصريح الذي يعكس طبيعة تفكير المكون العسكري لم يمر مرور الكرام على قوى الثورة، حيث تمت مواجهته بردود مزلزلة كالرد الذي كتبه رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير. وفي تقديرنا أن هذا التصريح للعميد أبو هاجة سيصب في مصلحة الثورة لأنه يكشف عن طبيعة تفكير الانقلابيين.
الجميع يدرك أن العميد أبو هاجة يرسل رسائل خبيثة ويستغل مأساة وطنية لكي يمرر عبرها ما يظنه خطاباً مؤثراً على الآخرين، لكن ما لم يدركه هذا الشخص أن الشعب اليوم بدا أكثر وعياً في الفرز بين تقدير واجب القوات المسلحة، والخلط الذي يتوهمه أمثال أبو هاجة حين يحاولون تجيير فعل الواجب لكسب استعطاف البسطاء، وتوظيفه في بروباغندا سياسية للجيش.
في كل الأحوال، سيأتي يوم 30 يونيو ليكون تاريخاً مفصلياً في مصير الوضع السياسي في السودان.
وفي كل الأحوال كذلك، بات الشعب السوداني اليوم مدركاً لحقيقة يعرفها تماماً، أي أصبح عارفاً تماماً بما لا يرضى به أبداً وسيقاومه إلى ما لا نهاية، وهو العودة إلى مربع ما قبل 11 أبريل (نيسان) 2019، لأنه شعب يعرف أن وضعاً كذلك الذي سمم حياته لـ30 سنة على يد نظام “الإخوان المسلمين”، ليس فقط وضعاً غير قابل اليوم للاستعادة بل هو المستحيل بعينه.
أمام وعي كهذا الوعي الذي يتحرك به الشعب السوداني في تظاهرات 30 يونيو وما بعدها، لا يتعين علينا أن نستشف ما الذي يمكن أن يقدم عليه هذا الشعب في ذلك اليوم المجيد- حيث فعل المهمة ذاتها قبل 3 سنوات – بل يمكن القول إنه سيتعين علينا أن نقتنع بأن الشعب السوداني أصبح مبصراً بوضوح لمصيره السياسي الذي يليق به، وما سيخرج من أجله في يوم 30 يونيو والأيام التي بعده هو محاولات مستميتة للإمساك بذلك المصير.