ما أسرار حضارة “كوش” النوبية “أرض حفيف الأجنحة”؟
الغوص لاستكشاف أسرار حضارة مملكة “كوش” القديمة التي نشأت في منطقة النوبة شمال السودان في الألفية الأولى قبل الميلاد، وحتى القرن الرابع الميلادي، تجربة فريدة متنوعة المنابع، وإن كان منشأ الحضارات والأسرار المحيطة بتكوينها يغمرها نوع من السحر الخاص نابع من عدم إمكانية الإحاطة بكل تفاصيلها، خصوصاً مع وجود كثير من المظاهر التي تحتاج إلى تفسير، وإن كان الحديث عن الآثار ينطلق على الدوام من جانبه المادي والمحسوس باعتبار أن وسيلة ترجمته الأساسية هي البصر، فإن التبصر أيضاً ينقلنا إلى بعد معنوي آخر تثيره سببية قد تصل إلى وجهتها وقد تقودنا إلى مغارة أخرى من الأسرار. تتمدد حضارة “كوش” القديمة على سهل منبسط، خلال الحقبة التاريخية من عام 2500 قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، واحتوت تلك الفترة الزمنية صعود وزوال ثلاث ممالك هي “كرمة”، و”نبتة”، و”مروي”، كإطار معبر عن حضارة “كوش”. وبين المعابد الصخرية والسهلية، ينفتح مسرح الفضاء الاحتفالي مازجاً بين الطبيعة التي يجسدها جبل “البركل” وجبال أخرى، تتضح براعة ملوك “كوش” باستلهام مبان حضرية تعكس تقدمهم على زمانهم. نبوءة “كوش” وجمعت آثار مملكة “كوش” المكونة من أهراماتها ومعابدها بين المعنوي والمادي، وبين الحياة الأبدية والموت، فنجدها تارة توصف بأنها “أرض حفيف الأجنحة” كما جاء ذكرها في “الكتاب المقدس”، وتارة أخرى بأنها أرض الكنوز والذهب، فعلى تلك الأرض، جرت حروب وانتصارات وهزائم، ولتبيان عظمة تلك الحضارة، يذكر المؤرخون أن الحروب والتنافس على الملك كانت مع حضارات أخرى موازية، تفصل بينها صحار وبحار، لم يكشف كثير عنها بعد. وجاء في تفسير “الكتاب المقدس” (سفر إشعيا 18) عن نبوءة النبي “حزقيال”، في الفترة من 586 إلى 538 قبل الميلاد، نص عن إرسالية مملكة “كوش” بتوجيه واضح، “يا أرض حفيف الأجنحة التي في عبر أنهار كوش”، أنه “يقصد بكوش جنوب مصر، حالياً النوبة والسودان وإثيوبيا، وكان ملكها القدير طهارقة قد ملك على كوش ومصر، وبعث برسل على سفن صغيرة مصنوعة من البردي إلى يهوذا طالباً التحالف معه ضد ملك آشور”، ثم جاء وصفهم أيضاً بأنهم “أمة طويلة جرداء” أي ممتدة، ويرى البعض أن “حفيف الأجنحة” إشارة إلى السلطان الإمبراطوري الذي كان يبسط جناحيه على كل أرض “كوش” وما حولها. أسرار ويقول عبد الله النذير، خبير الآثار في الهيئة القومية للآثار بالخرطوم، إن “حضارة مملكة كوش التي تعرف أيضاً بمملكة مروي نسبة لمدينة مروي الرئيسة بالمنطقة، لفت الأنظار إليها مستكشف الآثار السويسري شارل بونيه وفريقه الذي بدأ التنقيب والاستكشاف منذ ما يقارب 60 عاماً، باكتشاف معالم مدينة كرمة، عاصمة المملكة النوبية، ووجود تماثيل سبعة من الفراعنة السود الذين حكموا السودان ومصر لأكثر من 100 عام، وعملت معه على ترميم الحفريات والمباني قبل 30 عاماً”، ويضيف النذير، “بعض مكنونات أسرار حضارة كوش تكمن في الخط المروي الذي قام بفكه البروفيسور السوداني عبد القادر محمود، ووجد أنه متأخر عن حضارة كرمة. وكشف عن التسلسل بين كوش النوبية من كرمة ثم نبتة، وبعد ذلك فترة مملكة مروي”، موضحاً أن “الملك بعنخي وصل إلى مصر لأنه قال، إن ملوكها أذلوا الخيل الذي يعد مقدساً عنده”، ويتابع، “في تلك الفترة كان نجم الدولة الآشورية ساطعاً، فأبحر الملك طهارقة خلفاً لوالده بعنخي إلى منطقة الهلال الخصيب لحماية أورشليم من الآشوريين، واشتبك مع الملك آشوربانيبال الذي هزمه في منطقة نوري، وتبعه إلى حدود مملكته، ودخل جبل البركل”، وأرجع المؤرخون هزيمة طهارقة إلى أن الكوشيين كانوا يستخدمون سيوف البرونز القصيرة، ولم يكونوا قد اكتشفوا الحديد الذي سبقهم إلى استخدامه الآشوريون المتأثرون بالحضارة الحيثية. عمليات الترميم ويستعرض النذير أن “أهم آثار تلك الفترة هي تمثال أبادماك (الإله الأسد) الموجود في منطقة النقعة، وهو إله الكوشيين، ثم هناك معبد الكشك الروماني، ويوجد أقدم كهف يعود لفترة العصر الحجري، نقبتُ فيه عام 1983 مع بعثة استكشاف أميركية بإشراف جامعة الخرطوم هو “كهف شق الدود” شرق النقعة، أقيم قبل 10 آلاف سنة ما يدل إلى استيطان بشري في تلك المنطقة”، ويواصل، “هناك موقع البجرواية المكون من ثلاث مجموعات أهرامات، شمالية وجنوبية وغربية، ومجموعة أخرى في جبل البركل، وكذلك مجموعة في منطقة نوري، ومنطقة الكرو، ويحاكي الهرم المدرّج والهرمي أشعة الشمس في إشارة إلى الرحلة الأبدية، أما غرف الدفن في منطقة الكرو فهي مصممة على شكل سماء ترصعها النجوم”، ويفسر خبير الآثار مظهر بعض الأهرامات التي تعرضت أجزاء منها للتهشيم أنه “مع دخول الحكم التركي- المصري إلى السودان، كان هناك طبيب إيطالي ضمن الحملة التركية، وكان يعتقد أن غرف الدفن موجودة في جسم الهرم مثلما هي في أهرامات الجيزة، فاستأجر عمالاً ودمر أجزاء كبيرة من بعض الأهرامات، ولم يصل إلى المدافن التي كانت تحوي كنوزاً كان الفراعنة السود يخزنونها أملاً في استخدامها في الحياة الأبدية ما بعد الموت. وبعد ذلك اكتشف أن غرف الدفن تقع في منطقة جبلية تربطها بالأهرامات ممرات في أسفلها، ويتم النزول إليها عبر 33 درجة صخرية، فكان أن نُهبت تلك الآثار، ويوجد الآن منها عدد كبير في المتاحف العالمية”. ويتابع النذير، “ومن أكبر عمليات الترميم قادها مستكشف الآثار الأميركي جورج أندرو ريزنر الذي نقّب في مقابر ملوك الأسرة الـ25، والمعبد في مملكة نبتة، وكُلف بالإشراف على المسح الأثري لمنطقة النوبة في ثلاثينيات القرن الماضي”، و”في الستينيات، أعاد ترميم أهرامات البجراوية المستكشف الألماني فردريك هنكل، الذي انتُدب من قبل يونيسكو لمساعدة السودان في ترميم المعابد والآثار المهددة بتمدد بحيرة السد العالي وترحيلها إلى موقع يحميها من الغرق، وقاد حملة إنقاذ آثار النوبة ونقل بعض الآثار للمتحف القومي بالخرطوم”. الفراعنة السود يقول طارق شريف ساتي، رئيس تحرير مجلة “حواس”، إن “حضارة كوش هي حضارة وادي النيل النوبية القديمة، والتي سُميت بعد ذلك باسم الفراعنة السود، وقامت في منطقة جنوب الشلال الأول قبل عام 2500 قبل الميلاد، أي في القرن الثامن قبل الميلاد في بلاد السودان، واتخذت من نبتة في منطقة جبل البركل عاصمة لها، ثم انتقل مقر الملك بعد ذلك إلى مدينة مروي. واستطاعت حضارة كوش احتلال مصر، وحكموا كفراعنة الأسرة 25 لأكثر من قرن، وامتدت إمبراطوريتهم الشاسعة من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى أعماق أفريقيا”، ويضيف، ” تعد حضارة كوش من أقدم الحضارات التي استوطنت شمال السودان بين عامي 1500 و2500 قبل الميلاد، كانت حضارة كوش أقوى ولاية في وادي النيل، وكان ذلك حوالى عام 1700 قبل الميلاد. وعندما غزت القوات الآشورية مصر بين عامي 674 و663 قبل الميلاد، انتهت سيطرة كوش، ودُفن حكامها في مروي في منطقة عشبية خصبة شمال شرقي المنطقة”، ويضيف ساتي، “كثيرون يستغربون وجود أهرامات في السودان مثلما هي موجودة بمصر، حتى إن المخرج السوداني سيف الدين حسن عندما عرض بعض أعماله الوثائقية التي توثق الأهرامات في السودان في مهرجانات عربية، ارتفع حاجب الدهشة للجان التحكيم والجمهور، وكانت النتيجة أن فازت أعماله بجوائز عدة، لأنها عبرت عن اكتشاف أعمال جديدة لم تكن معلومة لدى الناس من قبل”. ويذكر رئيس تحرير “حواس” أن “أهرامات مروي التي يتجاوز عددها حوالى 200 هرم بُنيت في الفترة بين 720 و300 قبل الميلاد، وتميزت بقممٍ مُدبّبة، كما صممت بزاوية شديدة الانحدار من الأعلى إلى الأسفل، وتتراوح أطوالها بين ستة إلى 30 متراً، إضافة إلى صغر حجمها، وهي ما زالت باقية وشامخة ترمز لعراقة الحضارة الكوشية التي حكمت السودان”. بوابات العالم السرمدي وعن الفنون والعمارة في مملكة “كوش” يورد ساتي، “أقدم المباني الموجودة في حضارة كوش يؤرّخ لفترة حكم الملك شباكو، وتم تجديدها في حكم الملك طهارقة خلال بنائه معبداً كبيراً بالقرب من معبد توت عنخ آمون. والناظر إلى المدينة الكوشية يستجلي اكتظاظها بالمنازل الفخمة، والمعابد المنتشرة على مساحة كبيرة وصل طولها حوالى 1.22 كيلومتر، وعرضها حوالى 300 متر. وكان ذلك في الألف الأول قبل الميلاد”، ويضيف، “تميزت حضارة كوش بالفنون المعمارية، فقد وجدت آثار مجموعة واسعة من الأشكال المعمارية من أهمها، الأهرامات، والمعابد، والقصور، والمناطق الصناعية، التي شكلت المشهد الديني، والسياسي، والاجتماعي، والفني، والتكنولوجي للوسط والشمال، كما تميزت بصناعة الحديد والسيراميك، ومن أهم ما تميز به الكوشيون هو فن صناعة الخزف، وكان الخزافون قادرين على إنتاج أوان دقيقة باليد بشكل لا يصدق ومن دون الحاجة لاستخدام العجلة، كما تميز الفخار الكلاسيكي بسطحٍ أسود، وقاعدة بُنية حمراء غنية، ومفصولة بشريط رمادي أرجواني غير منتظم، والأجزاء العلوية والداخلية للفخار سوداء رفيعة للغاية، ولها مظهر معدني لامع مميز”. ويتناول تفاصيل عمارة مملكة “كوش”، هاشم خليفة محجوب البروفيسور في مجال المعمار قائلاً، “الخريطة الدائرية تتسيد مشهد مملكة كوش بدءاً بالقبور الصغيرة مروراً بالمساكن وانتهاء بالمعابد الكبيرة”، ومن الملاحظات التي دونها المعماري خليفة محجوب أن “اكتظاظ المعابد بالأعمدة التي تبدو كأنها تعتصر المتعبدين داخلها، تشبه عمارة كنائس من طراز العصر الرومانتيكي، وتشير إلى الحميمية الجارفة النابعة من الأعمدة بالغة الضخامة التي تبدو كأنها تأخذ المصلين في أحضانها بدفء دافق يؤجج المشاعر الروحانية”، ويشير أيضاً إلى أحد أسرار تلك العمارة المسماة “الديفوفة” الغربية أو الكبرى، وهي تعني باللغة النوبية “الجبل الشاهق الأحمر”، وترتفع “الديفوفة” إلى حوالى 25 متراً، وبني بالقرب منها مجمع “قصر الملك”، وارتبط بها بممر شق مجرى مائياً على الجانب الآخر من عاصمتهم، في منطقة المدافن، التي يعدونها بوابات ولوجهم للعالم السرمدي الأبدي، وتحرس مدافنهم “الديفوفة” الشرقية”. سر الدرجات الـ33 وتبقى حضارة “كوش” من أكبر الأسرار التي لا تزال تغطي سطح آثارها رمال صحراء الشمال، بينما تغمر مغاراتها، خصوصاً مدافن ملوكها السود، عيون مياه جعل بُناتها الوصول إليها عبر 33 درجة صخرية، في رمزية واضحة للرقم المقدس للبناء وهو 33 المعروف منذ آلاف السنين، والذي يعني “الإبداع والإضاءة الروحية، وحياة الوفرة والكاريزما القائمة على المساعدة الإلهية”. إندبندنت