د. فضل الله أحمد عبدالله يكتب:وعوا الجيل الراكب راس هذه هي بضاعة الحزب الشيوعي
حتى نيقظ القلوب من رماد الغفوة …
في ذكرى حركة 19 يوليو 1971م التصحيحية ونبش ذكرى مقالنا عن :
جعفر نميري إنتقالا من حالة المشي على أنغام وجماليات اليسار السوداني .. إلى ساحات الإشتباك الأبدي ..
مقالنا هذا، هو متن في حداء أدباء اليسار وجمال أغنيات الفنانين التقدميين …
أي نعمل هنا بالتحديد على الإستذكار الموضوعي في حالة من حالات الإبداع السوداني ،،،
باشتراطاتها الأيدولوجية المنجزة في الفترة من 25 مايو 1969 م – 19 يوليو 1971 م .
وهي مرحلة من الزمان تمثل مقدار المسافة بين تحالف اليسار بكل مدارسهم الفكرية ومذاهبهم إبان تأيدهم المطلق ومناصرتهم لإنقلاب الضباط الأحرار بقيادة البكباشى جعفر محمد نميري والإلتفاف حوله …
وحتى تأريخ مفاصلتهم له في الحركة التصحيحية 19 يوليو 1971م التي قادها الرائد هاشم العطا ( عضو مجلس قيادة ثورة مايو ) الشيوعي الإنتماء في محاولته الإنقلابية التي لم يتمكن من السيطرة على مقاليد البلاد أكثر من ثلاثة أيام فقط .
والقراءة الموضوعية للإنقلاب أو ثورة 25 مايو ،،،
هي أنها جاءت تجليا من تجليات الصراع الحاد بين قوى تيار اليمين المتمثل في الأنصار والإتحاديين وجبهة الميثاق الإسلامي من جهة .
وفي الأخرى يقف اليسار ممثلا في الحزب الشيوعي والقوميين العرب .
إذ بلغ هذا الصراع ذروته في عام 1965 م بحل الحزب الشيوعي بقرار إتخذه البرلمان والذي قضى بطرد نوابه وأغلاق دوره وحظر نشاطه .
وقال الدكتور محمد سعيد القدال عن جردة الحزب ومؤكدا التداعيات السالبة لقرار حله وكيف أثرت على نشاطه السياسي العام وضعفه الداخلي :
( فقد ألجمت إندفاعه السياسي ، وأعادته لشبه السرية ،
وأغلقت صحيفته ، ودوره ، وفجرت أزمة داخله حول النظام البرلماني الليبرالي ) ..
وشكلت تلك الأزمة أحد أهم أسباب الفكر الإنقلابي داخل الحزب الشيوعي السوداني .
حيث أفضت إلى حالة من الأحباط ، ومراكمة السلبيات التي سادت في أواسط العناصر من البرجوازية الصغيرة – كما أورد ذلك حسن الجزولي في كتابه ( عنف البادية ) – والتي تأتي من بين صفوفها غالبية كادر الحزب الشيوعي المثقف .
جاءت مايو سانحة للثأر وتغليب كفة الشيوعيين وطلائع الأشتراكيين والقوميين العرب بتحالف يساري عريض …
وعليه وقف الخصوم التقليديين للحزب الشيوعي وهم اليمين بتياراته الثلاثة :
( الأنصار والختمية وجبهة الميثاق الإسلامي ) في معارضة إنقلاب مايو لا معارضة سياسية فحسب بل إلى معارضة مسلحة .
وذلك الطقس هو ما أنتج أدبا يساريا خاصا يتغنى بعهد التقدمية الإشتراكية الداحرة للرجعية ،،،
ومنظورا من أن الفنون ( ساحة قتال رمزية ) إتخذ الأدباء والفنانين اليساريين للتعبير عن الخلاف القوي المستوطن بينهم و اليمين .
والحزب الشيوعي السوداني في تقديري من أكثر الإتجاهات الفكرية إعتناءا بالآداب والفنون ورعاية له …
واتخاذها مطية لفلسفته ، بوصفها أداة من أدوات المواجهة والصراع …
والشيوعيون لا ينفكون عن الآداب والفنون ،،، فبها ينحتون مصطلحاتهم وآراءهم ،، ويؤطرونها للجماهير ..
فهي أداتهم باستمرار للتفكيك والتركيب والتأسيس والتأثيث في مدارات التوترات أو الصراعات والتناقضات التي تدور في واقع حياتنا .
وعلى هذا الأساس ظل الحزب الشيوعي يستدعي طاقات أفراده الإبداعية في أكثر من إتجاه يتناسق والسياق السوداني .
وبهذا المعنى نفسه دخلوا بالآداب والفنون ساحة الصراع السوداني وبأكبر مجمع للمبدعين وهو ( تجمع الكتاب والفنانين التقدميين _ أباداماك ) .. وقالوا في إحدى بياناتهم يصفون أنفسهم :
( علينا هذا الشعب الذي نبدع بأدوات الفن من أجله ، ونمجد خطوه اللهيف بالإشتراكية ، ونتغزل في أشواقه وتطلعاته ، ويأكل أكتافنا حديد المسئوليات الجمة لتصعيد نضاله وانتصاراته ) …
وبهذا أشتغل الفنانين التقدميين بالفنون في المشاعر والأحاسيس التي تشكل الأيدولوجيا والعواطف ..
وعند فجر إنقلاب 25 مايو ،،
كان مولد حقبة جديدة من الأغنيات والأناشيد والنصوص الأدبية التي تشحذ التطلعات والطموحات الظاهرة والخفية لقوى اليسار والقوميين الأشتراكيين ،،،
وأول من ألقى بالدلاء في فوهة بئر التغني لمايو هو المغفور له بإذن الله شاعر الشعب ( محجوب شريف ) الذي ابدع نصا شعريا غنائيا وسيما :
جيتنا وفيك ملامحنا
عاد يا مايو ما يأسنا
بنرجع ليك توصينا
بنسمع ليك تحدثنا
بيك يا مايو يا سيف الفدا المسلول
نشق أعداءانا عرض طول
حلفنا نقيف نتحزم
ونشد الساعد المفتول
عشان نبني إشتراكية
ونرفع رايه هم خلوها فوق الساريه متكيه
ودقت ساعه كانت نجمه في أعماقنا منسيه )
وفي هذا النص إلتقى عملاق الغناء السوداني الفنان محمد وردي – طيب الله ثراه ورحمه رحمة واسعة – الذي قام بالتلحين والأداء المائز الذي منحها بعدا أكثر عمقا :
( عشان نبني اشتراكيه
كانت ليلة الميلاد
كانت عودة الأمجاد
وكانت حسرة الجلاد
حباب الإشتراكية ،،، حباب الإشتراكية ،،، حباب الإشتراكية …
يا حارسنا وفارسنا
يا جيشنا ومدارسنا ) …
هكذا قدم محجوب شريف نصا بكلمات مقتصدة ..
بيد أنه يجعل للكلمة دلالات محسوسه ومجردة في آن واحد ،،،
ويعمق المعنى ويشحذ ذهن المتلقي وتتوالد المشاهد :
( حبابك ما غريب الدار
وماك لحقنا الودار … حبابك
كنا زمن نفتش ليك وجيتنا الليلة .. يا فارسنا ) ،،،
ويعرج محجوب شريف بالجماهير في نص آخر متغنيا بمايو راحلا في كل الفجاج ،،،
ويتهدج بالنص عملاقنا محمد وردي في غنائية وسيمة :
( في حكاياتنا مايو
في شعاراتنا مايو
ورسم شاراتنا مايو
أنت يا مايو الخلاص
وجدارا من رصاص
يا حبالا للقصاص من عدو الشعب في كل مكان
من عدو الشعب في كل زمان )
بهذا تصبح مايو الثورة مركز حس الشاعر ومحجته الكبرى :
( لم تكن حلما ولكن كنت للشعب انتظارا
يا شموسا في دروب الليل أشعلت النهارا
نحن شلناك وساما وكتبناك شعارا
نحن صرنا بك يا مايو كبارا
واتخذناك حبيبا وصديقا وديارا )
النص يسبح في ملكوت السمو ، عاشق يتماهى في المعشوق ويكثف الشاعر كلمات موغلة في الحالة المخملية ويصعب على الناقد غير القول بأن ( مايو الثورة ) تتحول بهذا النص إلى حالة من الشغف في حس الشاعر ورهافته :
( أنت يا مايو ستبقى بين أيدينا وفينا
وسنحميك جهارا مايو
وسنحميك اقتدارا مايو ) …
والنص برغم أن محجوب شريف أنجزه في بواكير عمره الإبداعي إلا أنه أظهره ،،،
شاعر متدفق فائق الحيوية ذو حماس متقد ،،،
جعل من نصوصه الغنائية تلك صراطا مخمليا يمشي جعفر محمد نميري على شرف معانيه ويمتطي جزالة ألفاظه ليبرق في التاريخ السوداني بحوادثه الجسام ،،،
ومن النصوص الشعرية أيضا التي ذهبت في ذات الإتجاه هي ( بطاقة حب لمايو ) للشاعر الأديب كمال الجزولي والذي من كلماتها قوله :
( ها أنت جئت يا سيدنا
حسنا ..
وها نحن ..
أن نبتر
أن نقطع ،
أن نشنق ،
أن نطلق في الرأس رصاصة ،،،
أن نجعل حد السيف بحد اللحية …
أصبح أسهل من إلقاء تحية ..
أهتف يا خرطومي
حتى ينشرخ حلقومي
مايو ،،،
مايو ،،،
مايو )
وإبان المحاولة الإنقلابية التي قادها الرائد هاشم العطا والتي عرفت عند الحزب الشيوعي بالحركة التصحيحية .
والتي لم تفلح في النجاح أكثر من ثلاثة ايام وعاد النميري لتكون المفاصلة الكبرى والإشتباك الأبدي بينهما .
كتب كمال الجزولي إحتفاءا بتلك الحركة التصحيحية نصا متدفقا بالحماسة وفي ملحمة تسجيلية باسم :
( طبلان واحدى وعشرون طلقة ل 19 يوليو )
قال :
الشعر الليلة مطر الدم ،
رعاف يهدر في الفم ،
صخاب ظهر أبي
وخصيب ظهر الأم ،
فالنشعل نار الدوبيت إذن ،
ونوقد جمر النم
والنفرد أجنحة التمتم
والنعرض ببنادقنا وسط الأخوات ..
ويقول :
من هذا القادم ؟
من هذا الفارع كالنخلة …
الأسمر ..
حقل الكاكاو القاتم
السيف المصقول الصارم ،
والأدهم .. مثل الدرع الفاحم
ذلك هاشم !
ذلك هاشم !
مرحب مرحب
ألف حبابك عبدالخالق
الليلة أطفال السودان على طول الطرقات ،
ينتظرون قدومك بالحلوى ،
بالرايات الحمر
وبالباقات ،
أطفال السودان المجروحو الحدقات
يا عبدالخالق
ذلك النص هو النموذج الأعلى لطقوس إحتفال الحزب الشيوعي بإنقلاب 19 يوليو ضد نميري ونظامه …
وتلك الحركة الفاصلة بين مايو والحزب والذي كان بمثابة الخاتمة التراجيدية لتلك الحالة المخملية بينهما والذي أفضى إلى تنفيذ أحكام الإعدام لعدد من قيادات الصف الأول من الشيوعيين وفي مقدمتهم السكرتير العام الأستاذ عبدالخالق محجوب رحمه الله وغفر له ،،،
وعند إعدامه كتب الشاعر المجيد ( جيلي عبدالرحمن ) قائلا :
نصبو للشمس أعواد المشانق
يا حبيبي
تدلف الفرحة من سجن الشرانق
ورأيت القتلة
مثل فئران الخنادق وهدير المقصلة
مثل أفراح البيارق
كانت الخرطوم شعرا
يشعل الليل حرائق ،،،
وقال جيلي عبدالرحمن :
كنت تزهو في ذراع الثائر المهدي سيفا
يحتسي المحروم منه قطرات الشهيد صيفا
كان سيفا أحمر الحد صقيلا …
وفي دفاعات الأدباء والفنانين عن عبدالخالق محجوب وهو في معتقله قبل تنفيذ الإعدام كتب ( تجمع الكتاب والفنانين التقدميين _ أباداماك ) بيانا قالوا في متنه :
( إذ نجهر دفاعا عن الرفيق عبدالخالق فإننا إنما ندافع عن ظاهرة وضيئة ، منسجمة الأجزاء ، بالغة التكامل في حقلنا الثقافي .
لقد توصل الرفيق عبدالخالق إلى الماركسية في مسعى الشباب الحميم إلى ما ينسق العاطفة والعقل في إطار السقطة السياسية الباهظة التي آلت اليها القيادات الوطنية في بلادنا عام 1964م .
ولقد وقف على قدمين من الصمود والصحو ، ولمدة ربع قرن كامل ، على أرضية النضال العملي والفكري في بلادنا ، لقد تحمل المسغبة والأذى والشراسة والضغينة والتشهير والإرهاب ، وتوارثت اسمه أجهزة المخابرات جيلا عن جيل .
ونحن جيل من الإمتنان المفعم بالحب والتقدير لشخص وفكر وخبرات الرفيق عبدالخالق محجوب ) …