الزبير نايل يكتب: بعيدا عن السياسة.. ليلة ماطرة وسيل هادر

 

النيل الذي اعتاد أن يثور كل عام في هذا الميقات يرتفع صدره ويهبط كأنه ينذر ساكني الضفاف.. أمواجه تلاطم الشط وتعزف لحنا خالدا.. النخيل الباسق والسامق له وشوشة تغازلها أصوات القماري والعصافير.. البساتين تعطر بأنفاسها أجواء القُرى وتمنحها إشراقة الحياة. المشهد كأنه كرنفال، فعندما تعود الطيور إلى وكناتها بعد أن عادت بِطانا، يعود الزُراعُ والرعاة مع المغيرب إلى ديارهم مصحوبين بضجيج أنعامهم، والحُداة ُ يُرسلون أنغامهم بالدوبيت.. كلُ شيء يمضي وفق نواميس معلومة لساكني تلك السهوب والبطاح والقرى والنجوع وهي تتوسد الأمل وتنام وفي جفونها ترقد الأحلام .

هجع الناس.. القمر مصباحُ معظم ِ تلك القرى، يختفي خلف سحب عابرة ليمنح الأمكنة ظلالا ناعمة، وفجأة يسفر عن وجهه كأنما انفجر ضاحكا بعد سماع بعضٍ من حكاياتها. أنسام الخريف القادمة من جهة الصعيد تدغدغ الوجدان وتداعب الخيالات الناعسة ومعها تسكن القرى وتتدثر بليلها الساكن بالألفة والأمان..

بدأ البعض النوم تداعبه أحلامه في فيضان يغمر الأرض اليباب وخريف ماطر يخضر به السهل ويتكاثر الضرع بشارةً بموسم حصاد وفير تعقبه ليالي أفراح الزواج مع طقوسها التي لم تبدلها الأيام والسنين وظلت متوارثة جيلا بعد جيل.. آخرون يتقلبون من شدة رهق النهار وأثقال الحياة التي تضاعفت وباتت في حاجة لبصيرة وصبر الصالحين لعبور فيافيها الوعرة..

فجأة نهض الحالمون والمرهقون معا على صوت رعد هادر احتجب معه حتى القمر، وباتت تلك القرى تتبين معالم أزقتها المتداخلة على ضوء لمع البروق، تداخلَ صوتُ الناس والأنعام، حتى الديوك بدأت الصياح في غير ميقاته.. اختلط الحابل بالنابل وبدأ البعض قرع الأواني اعتقادا أنها تخفف عنهم وطأة زمجرة تلك الليلة..

انهمرت السماء باكية بمطر هتون غطى كل الساحات وارتجفت منه المنازل ، واخترقت أصواتٌ ملهوفة حبات المطر الكثيفة تطلب النجدة، خوفا من تصدع بعض المنازل على رؤوس ساكنيها..
توقف المطر وبدأ الناس في لملمة أطرافهم وتفقد أطفالهم وأمتعتهم.. وهم في هذه (الجلبة) صاح فيهم منذر أن سيلا لا قبل لهم به في طريقه إليهم.. سيل يثير غبارا من الأرض المبتلة، تقطعت بالناس السبل ولا حيلة لهم لمقاومته.. انتظروه عُزلا بلا سلاح ٍ سوي يقين ٍ مركوز ٍ في نفوسهم ودعوات ٍ ملحاحة من نفوس طيبة صالحة وأكفٍ متضرعة بأن يخفف الله الضرر..

أطبق السيل على تلك القرى، وعمل فيها هدما وتجريفا ولم يستثن ِ حتى قبور الأحباب، فطمس معالمها ونزع شواهدها، وأشرقت الشمس وكأنما حربٌ دارت في تلك القرى فقد أصبح معظمها أثرا بعد عين…

مشاهد الأهل في ولاية نهر النيل وقد فقدوا بعض أحبتهم نتيجة الأمطار والسيول تفجر ينبوعا من الحزن.. مشاهد البيوت المتهدمة تثير لواعج الأسى مع مشاهد الأطفال وقد فقدوا أسرة نومهم، والرجال والنساء تأكلهم الحيرة بعد أن ابيضت أعينهم من الحزن وهربت منهم السكينة، فلا دولة تكفكف دمعهم وتلم شملهم ـ وعشمهم من بعد الله في أهل الخير والمروءة لتخفيف أوجاعهم وإسكات أناتهم ..

إلى تلك الديار وساكنيها، إلى دواوين كرمها المبذول، وبساتينها المعطاءة، إلى قراها الممتدة على الضفاف كالعقد المنظوم، إلى تلك الجباه المعروقة وعرقها المسكوب على تلك الأرض الخيرة.. تحية محبة، وقلب متضامن، وأكف متضرعة أن يكشف الله الغمة ويجبر الضرر ..

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...