د. حيدر معتصم يكتب : خطأ التوصيف و أثره .. خطاب الكراهية نموذجاً 1

حوارات حول الأفكار.

إن التوصيف أوالتعريف أو التشخيص الذي ظلت تقدمه النخب السودانية لمعالجة معضلة الإقتتال التاريخي بين مكونات المجتمع الأهلي في أطراف السودان المختلفة على أنه إقتتال بدوافع التمييز العنصري المدعوم بخطاب الكراهية لهو توصيف موغل في السطحية و عدم الإدراك لحقائق التاريخ و وقائعه الممتدة إلى الحاضر و التي تكذب ذلك التوصيف بالأدلة و البراهين بل و تلقمه حجراً ، و لذلك تظل أزمة التوصيف الخاطئ واحدة من أكبر التحديات التي تواجه النخب السودانية في بحثها الطويل عن مشروع سوداني للبناء و التعمير و صناعة الإستقرار  و إيجاد حلول مستدامة للمشكلات المختلفة، و لذلك يظل تحدي القدرة على التوصيف الدقيق لتلك المشكلات بالإعتماد على حالة الخمول الذهني و على  القوالب الجاهزة و التوصيفات القادمة من الخارج  لمشكلات تشابه تلك التي في السودان من حيث المظهر العام و تختلف عنها من حيث المحتوى و التصور، يمثل ذلك التحدي الأكبر الذي لايمكن أن ينصلح الحال من غيره مهما كانت التضحيات و ستظل ديمومة الحلول الكارثية  تنهك في جسد الوطن كنتيجة طبيعية لذلك التوصيف أو التشخيص الخاطئ تماما كما الطبيب الذي يعطي مريضه دواءً معاكساً تماما لتشخيص ذلك المريض فتأتي النتائج مزيداً من الإعتلال و المرض، و لذلك أمثلة و نماذج  كثيرة على مستوى التاريخ و على مستوى الحاضر… أحد النماذج الحية للتوصيف الخاطئ في الحياة السودانية قديما و حاضراً  و كما ذكرنا في مدخل المقال هي تشخيص و تصور الصراع و الإقتتال القبلي التاريخي في السودان على أنه نتاج طبيعي لما تشهده الحياة السودانية من تمييز  عنصري مدعوم بخطاب الكراهية على الرغم من أن الواقع المعاش بكلياته و تفاصيله يكذب ذلك التوصيف و ينفيه بشكل قاطع، و لكنها أزمة النقل الحرفي الناتجة عن العقل الرعوي والخمول الذهني و التخلف الفكري و التصوري والإعتماد علي الجاهز القادم من الخارج و محاولة إسقاطه بكل تفاصيله على الواقع المختلف دون إخضاعه لعمليات النقد الموضوعي المفترضة و مقارنته بتفاصيل ذلك الواقع المختلف التي يقتضيها النقل نفسه إعتباراً  لإختلاف البيئة و المكان و الزمان و الإنسان و غيرها من التفاصيل.
إنه من الخطأ الفادح توصيف الإقتتال القبلي و المناطقي في السودان بأنه إقتتال ناتج عن خطاب الكراهية المرتكز علي التمييز العنصري بسبب الدين أو اللون أو العرق كما هو الحال فيما شهدته جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري و ماشهدته أمريكا تاريخيا من تمييز عنصري بسبب العرق و اللون لاتزال إرتداداته تؤرق الأمن و الإستقرار حتى الآن في أعظم ديمقراطيات العالم، أو تشبيه مايحدث في السودان بما حدث في رواندا و بورندي وفلسطين من تمييز عنصري بسبب العرق و الدين .
إن النظر بعمق لما يحدث في السودان قديماً وحديثا نجد أنه صراع قائم بشكل قطعي لا لبس فيه على تضارب المصالح الإقتصادية و الأمنية (conflict of interest) و ما يترتب على تلك المصالح من مخاوف جمة.. الراعي و المزارع نموذجا.. بإعتبار أن القبيلة هي حائط الصد الحامي لحمي مصالح منتسبيها من الناس في غياب الدولة، و لذلك فمن الحكمة التمييز إصطلاحا بين التمايز القبلي من جهة والتمييز العنصري من جهة أخري من حيث التوصيف في بلد تشكل القبيلة فيه العنصر الأساسي للتكوين السكاني تاريخيا، و الوقائع و الأحداث على مستوى التعايش السلمي بين الناس و وجودهم في مكان واحدٍ جنبا إلى جنب تواصلاً إجتماعيا و تصاهراً و تواثقهم و توافقهم على قوانين و لوائح تنظم تضارب المصالح بينهم لمعالجة ذلك الإقتتال إن حدث، وكثير من الوقائع الأخرى التي في مجملها تدحض و تكذب فرية دمغ ما يحدث في السودان بأنه تمييز عنصري بدوافع الكراهية.
من الشواهد التاريخية التي يقف و يشهد عليها الناس أن الجنوبيين طوال سنيين حربهم مع الشمال ظلوا يلجأون إلى الشمال حين إشتداد القتال حتى بعد إنفصال الجنوب و إقتتال الجنوبيين مع بعضهم البعض و لا يعقل منطقيا أن شخص يبحث عن الأمان عند من يبغضه و يكرهه و يتعامل معه بتمييز عنصري، وهناك كثير من الوقائع الأخرى الكثيرة فلو أخذنا مثلاً مايحدث في منطقة الفونج هذه الأيام من فتنة مصنوعة فإن التعايش السلمي بين قبائل الفونج أصحاب الحواكير مع الهوسا و مع بقية قبائل السودان الأخرى من كل الإتجاهات ظل نموذجا يحتذى و يدرس على المستوى الدولي و الإقليمي و حينما حدث الإقتتال الآن لم يحدث إطلاقاً لأسباب عنصرية أو بسبب خطاب متبادل للكراهية وإنما بسبب ظهور بعض الافكار التي تهدد المصالح و الإستحقاقات التاريخية للفونج في منطقتهم و حواكيرهم و محاولات فرض معادلات جديدة على الأرض تخالف ثوابت التاريخ.
إن فكرة دحض عدم وجود تمييز عنصري في السودان لاتعني الإرتخاء و عدم الإنتباه لما يحدث في السودان الآن من مساعي حثيثة و مدعومة لتحويل الإقتتال في السودان من مربع التمايز القبلي المرتبط بالمصالح إلى مربع التمييز العنصري المرتبط بخطاب الكراهية و أنا هنا للتأكيد على عدم وجود تمييز عنصري و لا خطاب كراهية في السودان تاريخيا و لكن هذا لا ينفي أن هناك بوادر لبذر و زرع بذور الكراهية التي لم و لن تأتي من  المجتمع و مؤسساته الأهلية و إنما تأتي دائما من باب السياسة التي ظلت لعقود طويلة تستخدم مكونات المجتمع الأهلي ضد بعضها البعض لتحقيق مصالح حزبية و أيدلوجية بصورة تعبر عن قمة العجز  السياسي و مدي تخلف السياسيين بعد أن إستشرت بينهم الكراهية و باضت وأفرخت و لم يبقى لهم إلا العمل بجد علي إلحاق قطار المجتمع الأهلي بقطار الفتنة السياسية و التمييز الأيديولوجي الذي أصبح سمة بارزة من سمات الممارسة السياسية حتى أصبحت ظاهرة  تعيير وإحتقار الآخر بسبب إنتمائه الفكري و الأيديولوجي و السياسي ظاهرة لاتخطئها العين، و حينما يصبح الإنتماء الفكري و الأيديولوجي وصمة يسب بها المختلفين في مكان ما فتأكد أنك في دولة متخلفة سياسياً و هذه الظاهرة أصبحت تنتشر في السودان في الآونة الأخيرة كما النار في الهشيم و هي أحد بكل تأكيد أحد إفرازات العقل القبلي الرعوي الذي يسيطر على السياسة و السياسيين و هي أيضا الظاهرة الداعمة و المغذية الأساسية لبوادر الفتنة و التمييز العنصري و خطاب الكراهية في المجتمع الأهلي و القبلي، ولا حلول لتلك المعضلة إلا بإعادة بناء المجتمع المدني و الأهلي و مؤسساتهما على أساس الهوية الوطنية المشتركة و تحريرهما من قبضة الهيمنة السياسية و إستعادة دورهما في عمليات تأسيس و بناء الدولة السودانية من أجل تحقيق شعارات الثورة في الحرية و السلام و العدالة الإجتماعية على أجندة أمنية و تنموية لا على أجندة  سياسية كما هو سائد في السودان منذ الإستقلال.
ختاما يظل ملف التوصيف الخاطئ للمشكلات المختلفة  من الملفات الهامة و الخطيرة التي تستحق و تستوجب إهتماما خاصا و محوريا من السلطة و المجتمع بإعتبار  تأثيراتها المباشرة علي  مجمل الأوضاع الأمنية و المجتمعية و الإقتصادية و السياسية و لا سبيل لمعالجة تلك المعضلة إلا بإخراجها من مربع التجاذب السياسي و تسجيل النقاط و الكسب الرخيص  و التعامل معها و معالجتها  بإحترافية و مهنية منضبطة من خلال مراكز بحثية متخصصة يتولى أمرها مجموعة متفردة من أبناء الوطن الصادقين والمخلصين و المتفردين بولاءهم الوطني على ما سواه من ولاءات أيدلوجية متطرفة لن يؤدي الإعتماد عليها في النهاية إلا إلى طريق الفتنة و خراب الوطن.                                         … نواصل.

حيدر معتصم

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...