د حيدر معتصم يكتب : حوارات حول الأفكار…(113)   خطأ التوصيف و أثره..(3)

 

تحدثنا في المقال السابق عن أزمة التوصيف أو التعريف بالنسبة  للمشكلات المختلفة المتعلقة بتأسيس و بناء الدولة و قلنا أن توصيف الأزمة في السودان بأنها أزمة سياسية كان أحد الأسباب التي أدت إلى تعقيد المشهد بشكل غير مسبوق لما يسقطه ذلك التعريف من تشويش على ذهن المتلقي و بما يفرضه من إضطراب في الرؤى و التصورات و الأفكار، و تحدثنا أيضا عن ضرورة إيجاد توصيف جديد للأزمة، ولنبدأ رحلة البحث عن توصيف جديد للأزمة بالتأكيد على تحقيق هدفين رئيسيين هما توسيع مساحة الرؤى و التصورات و الأفكار من جهة و من جهة أخري توسيع دائرة الفئات الفاعلة و المؤثرة في مشهد الأحداث المؤدي بالطبع إلى رفع درجة حساسية الناس تجاه مسئولياتهم وقضاياهم الوطنية من خلال الأنشطة المختلفة المتعلقة ببناء الدولة بحيث تشمل فئات أخرى غير السياسيين،  و هنا تبرز حقيقة أن السياسة ليست هي الأزمة و إنما هى الوسيلة المستخدمة التي عقدت الأزمة و التي تعارف الناس على أنها هي  المسئولة عن تأسيس و بناء الدولة، و بناء على ماسبق تصبح الأزمة  الحقيقيةهي أزمة توصيف الأزمة نفسها و ليس الوسيلة المستخدمة في حل الأزمة و عليه و من أجل إيجاد توصيف أكثر دقة يساهم في تحقيق الهدفين السابقين هناك سؤال جوهري يفرض نفسه فإذا كنا خلال السبعة عقود الماضية نصر على توصيف الأزمة بأنها أزمة سياسية بإمتياز و عملنا لإيجاد حلول لها تحت المظلة السياسية و لم ننجح، إذن فما هو الهدف الذي كان مطلوبا من السياسيين تحقيقه و لم يستطيعوا إنجازه  خلال سبعة و ستون عاما من أجل معالجة الأزمة.؟، والهدف المطلوب قطعا هو بناء دولة مستقرة قادرة على تحقيق أشواق الناس و تطلعاتهم في الحرية و السلام و العدالة الإجتماعية و العيش الكريم ، و لم يستطع السياسيون تحقيق ذلك الهدف نتيجة لخطأ عناوين البدايات و خطأ توصيف الأزمة نفسها من خلال سقوف سياسية لا وطنية، و هذا هو الخطأ التاريخي الفادح ، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نسمي الأشياء مباشرة بمسمياتها و نستبدل  التوصيف القديم المبنى على الأجندةالسياسية بتوصيف أكثر دقة و منطقية مبنى على الأجندة المجتمعية بإعتبار أن المجتمع هو صاحب السلطة الأصلية في بناء الدولة و توصيف الأزمة بأنها .. أزمة بناء دولة.. و بإسقاط هذا التوصيف الجديد في ذهن المتلقي تتبدل تلقائيا الرؤى و التصورات و الأفكار الأساسية و تصبح مبنية على أن مسئولية المجتمع تجاه بناء الدولة هي الأعلى كعباً  فيتحول تلقائيا المجتمع كله إلى خلية بناء كل من زاويته فيستمر السياسيون و ينظرون بإصرار إلى أن الأزمة هي أزمة سياسية كما في السابق و يتحول بقية الناس من الهرولة خلف السياسيين  إلى إهتماماتهم كل حسب تخصصه فينظر لها الإقتصاديون بمنظار إقتصادي و يراها الأمنيون بمنظار أمني و كذا الحال بالنسبة للإجتماعيون و المهندسون و الزراعيون و الأطباء و العمل الطوعي و كذلك يراها الناس في  المدن و الأحياء و القري و الفرقان و غيرهم كل بمنظاره تجاه قضاياه المباشرة، و الشاهد أن كل هذه التوصيفات للأزمة تحوم حول حمى الهدف و لكنها لا تصيبه و الأزمة في حقيقتها هي كل تلك الأزمات مجتمعة و لكن نستعيض عنها و نجملها جميعا إصطلاحا بأنها أزمة بناء دولة و بمجرد إعادة التوصيف قطعاً تختلف التصورات التي تؤدي لإيجاد الحلول في ذهن المتلقي و لنضرب مثالاً بالسياسة بإعتبار أن السياسة هي المسيطرة على عقلية المشهد فحينما ينسد الأفق السياسي يتحدث الناس عن غياب الإرادة السياسية بإعتبار أن غياب الإرادة السياسية هو المخرج من جميع الأزمات لنقع مرة أخرى في فخ التوصيف الخاطئ لأن الإرادة السياسية هي إستشعار المسئولية تجاه الأجندة السياسية فقط، و طالما أن العملية السياسية كلها رهينة لتوصيات خاطئة مرتبطة بالأهداف و المصالح الأيدلوجية فحينها يصبح الوصول للسلطة و إسقاط السلطة الموجودة عسكرية كانت أو مدنية أو أيا كان نوعها  هو هدف دائم الحضور في العقلية السياسية بصورة تشكل قلقاً مستمراً مسيطراً على العقل الرعوي الأيديولوجي داخل السلطة و خارجها و هو الأولوية القصوى و هكذا تضيع الأجندة التنموية و تصبح رهنا لتحقيق إنتصار لهذا الطرف أو ذاك و هكذا تدور الدوائر بلا توقف و بلا نهايات وهكذا ظللنا نسير على الطريق الخطأ إلى ما لا نهاية ، و بالمقابل حينما نعبر عن الأزمة بأنها أزمة بناء دولة فإن الحلول تأتي تباعا متسقة مع التصورات فيتحول تلقائيا توصيف المصطلح من.. الإرادة سياسية.. إلى مصطلح.. الإرادة الوطنية.. و الإرادة الوطنية بعكس السياسية هي إستشعار المسئولية تجاه مشاكل الناس و همومهم المختلفة  من منظور وطني و تصبح تبعا لذلك مسئولية إيجاد حلول لأزمة بناء الدولة مسئولية مجتمعية يحل فيها التوافق الوطني الإيجابي الشامل بين فئات المجتمع المختلفة محل الصراع الأيديولوجي السالب و المتطرف، و حينها سيتحدث السياسيون عن حلول للأزمة السياسية في إطار وطني بدلاً عن الإطار الأيديولوجي و يتحول تبعا لذلك الصراع القائم على الهدم إلى حوار قائم على البناء فتدب في المجتمع طاقة إيجابية و يتحول المجتمع كله إلى خلايا نشطة كل في مجاله بمعزل عن السياسة فينمو الإقتصاد في حواضن إقتصادية متناغمة لا سياسية متشاكسة وكذلك التربية و الصحة الزراعة و العمل الطوعي و غيرها من مؤسسات المجتمع  وتتحول البلاد كلها إلى خلية جماعية تبحث عن حلول في إطار وطني شامل و تحل الحلول الإستراتيجية المبنية على التخطيط الشامل مكان الحلول التجزيئية و حينها تظهر للناس الأزمة على حقيقتها و تصبح الأزمة السياسية ليست هي  الأزمة الوحيدة التي تسيطر على عقول الناس و إهتمامهم و يترتب على ذلك إعادة ترتيب أولويات البناء من خلال مسارات مستقلة و مرتبطة ببعضها عبر سلطات و تشريعات و مؤسسات مجتمعية و سيادية تشكل دولة الحرية و السلام و العدالة الإجتماعية.
تعد أزمة التوصيف المنضبط إصطلاحيا و الملتزم بالمعايير العلمية هي واحدة من أكبر التحديات التي تواجه النخب السودانية في بحثها الطويل عن حلول مستدامة للمشكلات المختلفة وحينما نتحدث عن إعادة التوصيف على أسس وطنية فإننا نعني إعادة تعريفها وفقا لرؤية تمثل أرضية مشتركة بين جميع الفرقاء من خلال مؤسسات وطنية تشمل المجالات المختلفة وليست حزبية تعني  بالمصطلحات السياسية و التشريعية الضرورية في طريق البحث عن بناء دستور سوداني متوافق عليه.

..نواصل.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...