عثمان جلال يكتب: الثورات السودانية مشاريع لم تكتمل
(1)
تنهض الثورات نتيجة الوعي بالظلم وسط قطاعات المجتمع المنوط بها صناعة التغيير، والوعي بالظلم يطرح أدوات المقاومة والمواجهة والبدائل، لأن الظلم لا يؤسس لثورة عميقة وبدائل مستمرة بل يؤدي الى هبات وانتفاضات تنتهي إلى مساومات ومحاصصات وربما إعادة إنتاج لنظام الاستبداد بعد ترقيعه وترميمه.
(2)
ورغم أن الظلم تشكل في كل شرائح المجتمع إبان الحكم التركي المصري ولكن ظل المجتمع السوداني عاجزا عن تفجير الثورة يمدد يده للسماء كما ذكر يوسف ميخائيل (الله يقطع دابر الحكام الظالمين)(الله يزيل الظلم الجائر)، أليس لنا مهدي؟ ، يا مهدي الله، بل أخذوا يستنشقون رائحة المهدي في الهواء الطلق كما ورد في قصة البدوي الذي زار زعيم الرزيقات،وكذلك في ممارسة رياضة كرة القدم حيث انقسم أطفال مدينة الأبيض بين فريقي المهدي والترك، وانتصر فريق المهدي حتى قال قائلهم (شيلوا فالكم من صغاركم)، ولكن من هو المنقذ أو القائد الذي يوجه هذه الطاقات الثورية إلى غاياتها وأهدافها النبيلة والتاريخ كما يقول لينين يصنعه نشاط القادة؟ وكما ذكر بروف القدال لم يتصدى لقيادة الثورة المهدية الزبير باشا رغم هزيمته للرزيقات وإسقاطه لمملكة الفور التي استقرت لثلاثة قرون، ورغم تشكيله لجيش شبه نظامي، لأن الزبير كان يتفاعل بذهنية التاجر الذي يتطلع لصيانة تجارته ومراكمة رأسماله، وهذا لا يتأتى الا في ظل دولة مستقرة، لذلك نزع للمساومة والمحاصصة مع الادارة التركية بمصر والسودان التي هادنته ثم ابتلعته.
(3)
كان محمد أحمد المهدي هو القائد الذي تمثلت فيه طموحات ووعي المجتمع السوداني وبقيادته الفذة والملهمة تمكن من حشد رجال الدين والصوفية والإدارة الأهلية، وقبائل دارفور، مع قبائل وسط وشمال السودان إلى بحر الغزال البعيدة(المهدي دينق)، فقاد كل هذه التناقضات حتى اكتمل مشروع التحرير. وغيبه الموت ومشروع الامة والدولة في صراع الرؤى والتكوين.
(4)
منذ وفاة الإمام المهدي لم يتوافق السودانيون حول مشروع ثورة أو فكرة ولم يحتشدوا كتلة صلبة وراء قائد، حيث كان التباين والثنائية والتضاد السمة المائزة للسياسة الوطنية منذ جمعية الاتحاد السوداني، وثورة اللواء الأبيض، ومؤتمر الخريجين، والمجلس الاستشاري لشمال السودان، والجمعية التشريعية، بل كانت الثنائية حتى في التعاطي مع مشروع التحرر الوطني (الوحدة تحت التاج المصري، السودان للسودانيين)، لكن ما ان إلتقى السيدان حول مشروع الاستقلال الوطني، حتى بدت التناقضات بين الطائفية، ومثقفي الحركة الوطنية الذين قبلوا بالتسوية التاريخية مع الطائفية في السفور، فتداعى السيدان لإسقاط اول حكومة وطنية بقيادة الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري، ولما اشتد التنافس حول القيادة الحزبية والتناقض داخل حكومة السيدين، توافقا على تسليم الحكم لقيادة القوات المسلحة
(5)
انتظمت دورة من التحالف والتكتل وسط القوى السياسية الوطنية لاستعادة الديمقراطية وتوجت بانتفاضة أكتوبر 1964، وبدلا من استمرار التحالف لقيادة مهام الانتقال الثوري ، وصناعة التحول الديمقراطي المستدام، انفض التحالف واستحال إلى تناحر واستقطاب ايديولوجي تبدت تمظهراته في حكومة جبهة الهيئات الأولى والثانية ومؤتمر المائدة المستديرة، والانقسام العميق حول الانتخابات المؤسسة للديمقراطية الثانية، وبلغ التناقض قمته في قضية حل الحزب الشيوعي السوداني عام 1965، ومشروع الدستور الإسلامي عام 1968، وانتهى الصراع بالانقضاض اليساري على الديمقراطية الثانية عام 1969،وتشكلت دورة من التحالفات وسط القوى السياسية لإسقاط نظام الاستبداد وبعد منازلات شعبية انتفاضة 1973، وانقلابات عسكرية 1971، 1975، 1976، ومحاولة تغيير من داخل بنية النظام تبدت في المصالحة الوطنية 1977،ادت الى خلخلة وإسقاط النظام عام 1985.
(6)
بدلا من قيادة المشروع الديمقراطي ببناء كتلة تاريخية وطنية تضم كل القوى السياسية تحصنه من الردة والانقلابات، طفقت ذات القوى السياسية في التنافر والتناحر حول قضايا السلام والبناء الوطني الديمقراطي وهوية الحكم،ونظم تحالفات الحكم وبدلا من إدارة هذه القضايا بالحوار من ذات المؤسسات الدستورية لتطوير التجربة الديمقراطية لجأت الحركة الإسلامية لحسم الخلاف بزاوية انقلابية حادة في يونيو 1989، وأيضا انتظمت دورة من التحالفات وسط القوى السياسية الوطنية لإسقاط النظام، ويكاد يكون نظام الإنقاذ هو النظام الوحيد الذي شاركت فيه معظم القوى السياسية المدنية والمسلحة وانتهت ذات القوى السياسية ومعها كل تيارات الاسلاميين التي خرجت من رحم النظام إلى القناعة بضرورة التغيير حتى تكلل ذلك في أبريل 2019.
(7)
تنم هذه التجارب على عدم تماثل سلوك القوى السياسية الوطنية مع قيم الديمقراطية، واستقواءها بالمؤسسة العسكرية لتصفية الخلافات مع شركاءها وفرض ايديولوجيتها،وكذلك وقوعها ضحية للنخبة العسكرية المتحالفة معها بعد تشظيها، وايلولة الحكم إلى نظام الفرد المطلق، وبالمقابل فقد باتت القوى السياسية الوطنية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين على قناعة راسخة أن الديمقراطية هي الشكل الأمثل لنظام الحكم في السودان، وان ايديولوجيا قضايا البناء الوطني أسمى من أي ايديولوجيا حزبية وكذلك أدركت أن النظام الديمقراطي لن ينضج ويتمأسس في بنية الحكم إلا بالحوار الصبور والمستمر والنأي عن حرق المراحل عبر الانقلابات العسكرية بعد أن رسخ في الذاكرة الجمعية أن أنظمة الاستبداد عطلت مشروع البناء الوطني(تلازم نمو الأمة والدولة) ، وكادت أن تفكك الدولة السودانية إلى كانتونات نتيجة تأجيجها لصراع الهويات القاتلة، كما أكدت تجربة الصراع السياسي في السودان أن وحدة القوى السياسية هي النواة الصلبة لإسقاط الأنظمة الاستبدادية التاريخية وان تشظيها بعد إنجاز مهام التغيير هو المدخل الاستراتيجي لإعادة دورة نظام الاستبداد من جديد،كما أكدت التجارب أن التماهي مع الأجندة الخارجية، والتمترس خلف الايديولوجيات العابرة للحدود من دواعي استمرار الدورة الشريرة في الحكم ورسخت هذه التجارب في وجدان المجتمع السودان أن الديمقراطية المستدامة هي القاعدة الصلبة لوحدة السودان(بناء الأمة والدولة والهوية السودانوية) وصناعة التنمية والنهضة الحضارية.
(8)
إن من إيجابيات تراكم الأزمة السياسية الوطنية غدا الإطار النظري للحل مدركا لكل قطاعات المجتمع ولكن تنقصنا الإرادة والعزيمة والحكمة الوطنية التي تلهمنا التحرر من الأجندة الذاتية والحزبية والايديولوجية والاثنية والخارجية، واستكناه أن وحدة القوى السياسية الوطنية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين والتي كانت العامل الحاسم لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، هي ذات المدخل الاستراتيجي لقيادة مشروع الثورة السودانية الحالية، وإدارة مهام المرحلة الانتقالية، والتوافق حول التجربة الديمقراطية الرابعة، بل إن هذا التحالف الاستراتيجي والمستمر هو المدخل لترسيخ الديمقراطية المستدامة وإنهاء الدورة الخبيثة في الحكم، والا فإن الاستبداد عائد وراجح.