هكذا انهار اتفاق وقف العدائيات القبلي في النيل الأزرق بالسودان
قبل أن يكمل اتفاق وقف العدائيات الموقع بين أطراف النزاع الدموي بين المجموعات السكانية في ما يعرف بمجموعة (قبائل الفونج) وقبيلة “الهوسا”، في إقليم النيل الأزرق على الحدود السودانية الإثيوبية شهره الأول، بعد القتال القبلي الذي شهده الإقليم في يوليو (تموز) الماضي، تجددت الاشتباكات الدامية مرة أخرى نهاية الأسبوع الماضي يومي الخميس والجمعة، الأول والثاني من سبتمبر (أيلول) الحالي، في منطقة قنيص شرق مدينة الروصيرص ومحيط مجمع طيبة الإسلامي، بين المجموعات السكانية نفسها، مما أدى إلى مقتل 21 شخصاً وجرح وإصابة 40 آخرين.
شروخ الاتفاق
وقال ناشطون في العمل الإنساني إن تجدد الاشتباكات بين قبيلة “الهوسا” ومجتمعات النيل الأزرق، أسفر إضافة إلى القتلى والجرحى عن فرار ونزوح آلاف المواطنين، إثر الاشتباكات والعنف القبلي الذي استخدمت فيه الأسلحة النارية والتقليدية معاً.
وبحسب مصادر أهلية في الإقليم، وقعت الأحداث إثر محاولة عودة مئات الأسر النازحة من قبيلة “الهوسا” إلى مناطقهم ومنازلهم التي هربوا منها خلال الأحداث الدامية في يوليو الماضي، والتي خلفت عدداً كبيراً من الضحايا بلغ أكثر من 100 قتيل فضلاً عن الجرحى والمصابين، فيما نزح ما يقارب 30 ألف شخص باتجاه الولايات المجاورة في سنار والقضارف وأخرى.
وعزا الشرتاي آدم أبكر، مدير المكتب التنفيذي للمجلس الأعلى للإدارة الأهلية في السودان، تجدد الأحداث إلى عدم وجود الآليات اللازمة لمتابعة خروقات الاتفاق، مما جعله هشاً.
انتقد أبكر، في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، هشاشة الدولة وعدم تطبيق القانون، بمعنى أن تقوم السلطات بالقبض على المجرمين الذين تسببوا في المشكلة وتقدمهم إلى محاكمات فورية، مشيراً إلى أن الأمر قد لا يحتاج إلى تحقيق، لجهة أن من قاموا بعمليات القتل أو النهب ومن يبث ويروج لخطاب الكراهية معلومون لدى السلطات.
تفاقم النزوح
وعلى الصعيد نفسه، كشف رمضان يس حمد، مفوض العون الإنساني في إقليم النيل الأزرق، عن أن تجدد الاقتتال القبلي بين المكونات المتصارعة خلف نحو 21 قتيلاً و40 جريحاً في مناطق قنيص شرق والمدينة 7 جنوب الروصيرص غرب نيل الإقليم.
وأعلن حمد عن وجود 40 ألف نازح داخل الإقليم بسبب الأحداث، منهم 30 ألفاً جراء النزاع القديم، وعشرة آلاف بسبب تجدد الاشتباكات في اليومين الماضيين، وجميعهم في أمس الحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، مناشداً الحكومة الاتحادية توفير المساعدات الإنسانية لهؤلاء النازحين، كما أن المفوضية الإقليمية على اتصال يومي مع إدارة الطوارئ بمفوضية العون الإنساني الاتحادية.
وأضاف المفوض الإنساني أنه بخلاف ضحايا القتال القبلي فإن الإقليم تعرض لأمطار وسيول ضربت مناطق عدة منه منذ منتصف أغسطس (آب) الماضي، ومستمرة حتى اليوم.
وتسببت السيول في انهيار 8000 منزل بشكل كلي وعشرة آلاف بشكل جزئي، كما غمرت المياه أكثر من 20 ألف فدان زراعي، مبيناً أن لجاناً فنية أجرت المسوحات اللازمة للاحتياجات بتلك المناطق التي تعمل المفوضية على الوصول إليها لتوزيع المساعدات على المتضررين.
ما وراء الانهيار
من جهته، كشف المك الفاتح عدلان، مك عموم قبائل الفونج في الإقليم، عن أن الخروقات التي حدثت أخيراً وقعت نتيجة تسرع اللجنة التي كونها وزير الرعاية الاجتماعية المكلف بخصوص عودة النازحين بسبب الأحداث الأولى، والشروع في عمليات العودة من دون تنسيق مع المواطنين أو حتى الإدارة الأهلية، كما لم يتم إخطار أي من آليات اتفاق وقف العدائيات في ما يخص ترتيبات عودة النازحين، مشيراً إلى أن المواطنين في مناطق قنيص تفاجأوا، قبل أن تتم التهيئة المجتمعية والتمهيد اللازم بمحاولة عبور مجموعات من نازحين “الهوسا” في الطريق إلى مناطقهم السابقة بالإقليم، مما تسبب في ردة الفعل العنيفة التي أشعلت الاشتباكات الدامية من جديد.
وحمل عدلان اللجنة المتخصصة مسؤولية الاستعجال في إجراءات عودة النازحين من “الهوسا”، في وقت لم تبرأ فيه النفوس من الغبن والاحتقان، في حين ما زال التشاحن موجوداً، مبيناً أن المواطنين أغلقوا مشرع (مرفأ محلي) للعبور في منطقة أم درفة أمام العائدين من نازحي “الهوسا”.
مقاضاة “الهوسا”
وأشار مك قبائل النيل الأزرق إلى أن الإدارة الأهلية في الإقليم قامت بفتح بلاغات ضد محمد نور الدين، بعد أن نصب نفسه أميراً لـ”الهوسا” ووزع مستنداً بـ”قيام الإمارة”، الأمر الذي يخالف قانون الإدارة الأهلية في الإقليم الساري حتى الآن، فضلاً عن أنه لا يتسق مع الهيكل الإداري الأهلي المتوارث منذ مئات السنين في المنطقة.
ودعا عدلان قبيلة “الهوسا” إلى الاكتفاء بمشيخة الجماعة تحت مظلة المكوكية التي تشكل إرثاً منذ زمن بعيد، ولا يمكن تجاوزه بأي حال، معتبراً محاولات ابتداع نظم خارج هيكل الإدارة الأهلية الموروث أمراً غير قانوني، بالتالي فإن حل المشكلة يظل في يد حكومة الإقليم، وإذا عجزت فعلى المركز التدخل لحسمها في أسرع وقت حتى لا تتطور الأمور مرة أخرى نحو الأسوأ، وقد كان بالإمكان حسمها منذ ظهورها.
وعبر مك النيل الأزرق عن عدم الرضاء عن النهج والطريقة اللتين تتبعهما حكومة الإقليم في التعامل مع المشكلة وأسلوب حلها، قائلاً، “لا نريد الدخول في صراعات مع الحاكم، لكننا نرى أن الحل في يده وهو من يتحمل المسؤولية”، إذ إن كل المطلوب من السلطات الإقليمية إصدار بيان تؤكد فيه أن “لا مكان لإمارة في هيكل الولاية للإدارة الأهلية”.
قانون وإرث
وعن نظرتهم إلى حل الأزمة القبلية المتفاقمة في الإقليم، قال عدلان، “رؤيتنا واضحة وهي أن هناك قانوناً إقليمياً للإدارة الأهلية لا يزال ساري المفعول، بالتالي يجب تفعيله، لأنه يحسم مسألة هيكلها في ما يلي ثوابت النظم الأهلية في المنطقة، والتي لا تتضمن في الأصل مسمى (إمارة)، فهو يقوم على الإرث وحاكورة الأرض، ويتدرج من أعلى إلى أسفل من المكوكية (المك)، ثم العمد والنظار، وأخيراً مشيخات الجماعات حتى بالنسبة إلى القبائل الأصيلة في الإقليم نفسها”.
وأكد عدلان أن الترتيبات ما زالت مستمرة لعقد مؤتمر للصلح حدد له شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ضمن مقررات اتفاق وقف العدائيات، ومن المنتظر أن يكون جامعاً لكل قبائل الإقليم. مبيناً أنه وبعد إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال، شهدت مدن الدمازين والروصيرص انتشاراً لتشكيلات أمنية عدة لمنع انتقال النزاع إليها كما حدث في السابق.
إجراءات أمنية
وعقب الأحداث أصدرت لجنة أمن الإقليم بياناً جاء فيه، “تجددت عصر الخميس الموافق الأول من سبتمبر 2022، تجددت الأحداث القبلية المؤسفة في منطقة قنيص شرقاً ومجمع طيبة الإسلامي في مدينة الروصيرص من دون أسباب واضحة حتى الآن، على الرغم من المساعي الحثيثة التي بذلتها حكومة الإقليم من خلال التوقيع على اتفاقية وقف العدائيات، والعمل الدؤوب الذي قامت به آلية تنفيذ وقف العدائيات على أرض الواقع”.
وأشار بيان لجنة الأمن إلى أن الأحداث راح ضحيتها سبعة أشخاص وأصيب نحو 23 شخصاً.
وعقدت اللجنة اجتماعاً طارئاً بكامل عضويتها برئاسة حاكم الإقليم المكلف، خرج بعدد من القرارات تهدف إلى إعادة الأوضاع الأمنية إلى طبيعتها.
وقررت اللجنة فرض حظر التجوال بكل من مدينتي الدمازين والروصيرص من الساعة الثامنة مساءً وحتى الساعة الخامسة صباحاً، كما منعت التجمعات غير الضرورية، على أن تستمر هذه الإجراءات إلى حين استتباب الأمن والاستقرار.
وناشدت لجنة الأمن في بيانها المواطنين الالتزام والتعاون مع الأجهزة الأمنية في سبيل حفظ الأمن وضبط المتفلتين والجناة وتقديمهم إلى العدالة. وأوضحت أن كل من يخالف قراراتها سيعرض نفسه للمساءلة القانونية، مؤكدة بذل قصارى جهدها في الحفاظ على الأمن والسلامة والطمأنينة للعامة، وتقديم الدعم الكامل لأجهزة إنفاذ القانون للاضطلاع بواجباتها القانونية.
تحقيق وتحر
وعقب تجدد الأحداث، أصدر عباس عبد الله كارا وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، حاكم إقليم النيل الأزرق المكلف، قراراً بتكوين لجنة تحقيق في أحداث قنيص شرق من ممثلين من القوات المسلحة، والشرطة، وجهاز الأمن والاستخبارات، وقوات الدعم السريع، والإدارة القانونية في الإقليم والنيابة العامة، للتحقيق في الأحداث لمعرفة الملابسات والوقائع بصورة دقيقة.تتولى اللجنة بموجب القرار مهام التحقيق والتحري في أحداث قنيص شرق ومجمع طيبة الإسلامي في الروصيرص والعربة، التي تم ضبطها بواسطة الشرطة، لمعرفة أسباب وتداعيات تجدد المشكلة.
وفي الثالث من أغسطس الماضي تم توقيع اتفاق بوقف العدائيات بين المجموعات المتقاتلة تضمن 13 بنداً للتهدئة ووقف الاقتتال بين الطرفين، لكن الاتفاق سرعان ما انهار مع أول محاولة عودة للنازحين من الهوسا إلى مناطقهم.
توعد بالملاحقة
وكان أحمد العمدة، حاكم الإقليم، قد شدد خلال التوقيع على أن الحكومة ستلاحق كل من أسهم في هذه الفتنة القبلية، ومروجي الإشاعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وأن كل من يثبت تورطه في الأحداث سيدخل السجن تطبيقاً لسياسة عدم الإفلات من العقاب.
وأعلن العمدة اعتزام حكومة الولاية سن قانون يجرم العنصرية والكراهية في الإقليم، كأول منطقة في السودان يصدر فيها مثل هذا القانون الذي يجرم العنصرية ويعاقب عليها بأشد العقاب.
وشهد الإقليم في يوليو عنفاً ومواجهات دامية في المنطقة بين قبيلة “الهوسا” وقبائل “الفونج”، أو ما يعرف بقبائل مملكة الفونج السكان الأصليين في المنطقة، أدى إلى مقتل نحو 105 أشخاص وإصابة العشرات، ونزوح ما يقارب 30 ألف شخص.
ويعاني الإقليم، المتمتع بالحكم الذاتي تحت إدارة “الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال” برئاسة مالك عقار عضو مجلس السيادة الانتقالي، تعقيدات إنسانية بسبب الأمطار والفيضانات وموجات العودة الطوعية لأبناء الإقليم من دول الجوار.
الصدمة والشرخ
وبسبب الصدمة الوجدانية والشرخ الاجتماعي الذي خلفته الأحداث الدامية والاقتتال القبلي بين قبائل “الفونج” وقبيلة “الهوسا” في يوليو، بات الإقليم على صفيح ساخن، يعيش هدوءاً حذراً ينذر بتجدد الاشتباكات في أي لحظة.
ويعتبر باحثون في التاريخ قبيلة “الهوسا” ضمن مكونات النيل الأزرق التي تمتهن الزراعة بصورة أساسية، وتمكنت من تعزيز تأثيرها ونفوذها في الحركة الاجتماعية والاقتصادية في الإقليم، لكنها ظلت تطمح أن تكون لها “إمارة” قبلية، الأمر الذي تتحفظ عليه مكونات الإقليم الأخرى التي تعتبر نفسها قبائل مملكة “الفونج” الأصيلة في المنطقة، مثل “البرتا” و”القمز” و”البرون” و”الوطاويط” و”الأنقسنا” وأخرى.
واندلعت تلك الاشتباكات بعد أن أعلنت قبيلة “الهوسا” قيام “إمارة” تخصها وترعى شؤون أفرادها، الأمر الذي رفضته واعتبرته القبائل الأخرى وسيلة للاستحواذ على أراضيها. وطالت تداعيات تلك الأحداث معظم مدن السودان في شكل احتجاجات غاضبة من منتسبي قبيلة “الهوسا” تطالب بالعدالة والقصاص.