أ.د.هشام عباس زكريا يكتب : للمكان عطر … انسنة المدن
شكلت المدن في التاريخ الحديث مصدر الإلهام للمبدعين والأدباء والشعراء في التعبير عن مشاعرهم ففي السودان ظلت العاصمة الوطنية التاريخية أم درمان محط التلاقي الأثني والقبلي منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً ،جاء السودانيون من جميع أنحاء القطر ومن خارجه، هجرات مصرية وشامية وحجازية وأفريقية وتركية وشنقيطية وغيرها شكلت مجتمعاً جديداً متفرداً في خصائصه وسماته أنتج ما يمكن أن نسميه(الحضارة السودانية) ،فالشاعر السوداني سيف الدين الدسوقي حين رحل عن مدينته أمدرمان أنشد يقول:-
هذى العاصمة الأنثى
أهواها مذ كنت غراماً فى عينى أمى وأبي
وحملت الحب معى بدمي
فى رحلة هذا العمر
وأحمله حتى ألقى ربي
كلماتي يا زمن الأفراح الوردية
عبرت موج البحر لتصل إليك
لتقول أنا مشتاق
لتطل قليلاً فى عينيك
ولتحمل عذري فى سفري
فأنا يا سمراء الصحراء
هذا قدري
أن أعشق أنثى عاصمة
تلك المحبوبة أم درمان
إن هذا التأثير الكبير بالبيئة وعلاقة الحب العميقة التي تربط الإنسان بمدينته شىء ينمو مع الفرد منذ الصغر ،فاللبيت عطر ،والمدرسة شذى،والأمكنة رائحة عبقة تبقى مع الإنسان طوال حياته،فمن منًا لا يحن لسنوات الطفولة وأصدقاء الصبا والأماسي القديمة،من هذه الصور جاء المعنى الحقيقي لأنسنة المدن وهو مصطلح جديد نسبياً برز استخدامه خلال العشرين عاماً الماضية وذلك بعد التحولات الكبيرة وبروز ثورة المعلومات الرقمية وسيطرة الآلة الرقمية على حياة الإنسان،لذا كان الحديث عن كيفية تطويع هذه المنتجات الرقمية الجديدة في إستدعاء بيئة أكثر ملاءمة لحياة الإنسان،فيتسع معنى أنسنة المدن ليعني ترقية الحياة في كافة تفاصيلها التعليمية والصحية والخدمية من طرق ومرافق وغيرها ،إلا أن القاعدة الأساسية لأنسنة المدن من وجهة نظري تبدأ بالتحولات الثقافية من خلال تعميق القيم التي تعمل على بذر الأخلاق الحميدة والسلوك الراقي والانسجام المجتمعي والتعايش السلمي وقبول الآخر ،هذا العمل يبدأ بالفكرة المرتكزة على الدراسة الحقيقية لواقع المدن والاهتمام بالمراكز الثقافية والمهرجانات الأدبية وتشجيع الفن الراقي وإعلاء وضع النخب الثقافية في المجتمع وتفعيل مبادرات اكتشاف المواهب الأدبية والفنية في المدارس والجامعات والاهتمام بها ورعايتها وعدم جعل هذه المبادرات موسمية وإنما مشروع كبير يختتم ببناء نجوم ثقافية وأدبية وفنية .
إن الاهتمام بهذه الشريحة هو القاعدة الأولى في إنجاح مشاريع أنسنة المدن،فالمهندسون والفنيون الذين يعملون في إنشاء الطرق هم هذه النخبة التي عرفت قيمة العمل الثقافي والانساني،وبالتالي فإن الأفكار التي سينتجونها ستكون مبنية على هذه القيم فيحاولون بناء طقس جميل يتيح فرصة للاجتماع والتعايش وتبادل الأفكار في جو من الحب والود ومراعاة أصحاب الهمم،ويظل التخطيط لأي مشروع معماري دون استصحاب البعد الإنساني والثقافي كالشجر دون ظلال والماء الذي لا يروي الظمأ.
إن أنسنة المدن تجارب لا يمكن استنساخها فلكل مدينة إرث تأريخي وموقع جغرافي ومكونات تراثية تنطلق منها،لذا فإن دراسة النماذج ومحاولة إستدعائها بكل تفاصيلها في مجتمع آخر خطأ أنتج في بعض التجارب وجود مدن تغلب عليها صناعة الأنسنة،فالأنسنة مثل الزراعة تنمو في التربة المناسبة وليست مصنع يُورد له المواد الخام.وفي تقديري أن أنسنة المدن تبدأ من الأحياء الصغيرة بحيث تتيح المرافق الثقافية الموجودة في الحي فرصة تنمية القدرات الأدبية والفنية وتعميق ثقافة العمل الجماعي فتنشأ علاقة بين الجيران أقوى من علاقة القرابة وذلك بفضل التلاقي اليومي في الأنشطة الثفافية والفنية والأدبية وبروز مجتمع الهوايات حيث تتعمق العلاقات بين أصحابها لتصبح صداقات ،وهي بدورها تساهم بشكل كبير في التنمية من خلال التفكير الجماعي ثم بعد ذلك الإسهام الحقيقي في تطور الدولة،فالحكومات تأخذ الأفكار من المجتمع وتطورها ،ومثل هذه التلاقي الثقافي من شأنه أن يكون مضخاً لكثير من الأفكار التي تساهم في تكوين مدينة متعايشة ايجابياً مع احتياجات الإنسان،بحيث تكون مشاريع التعمير قائمة على الاحتياجات الحقيقية ،ويصبح كل حي بيئة متكاملة الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والخدمية بكافة أشكالها .
إن الدور الذي يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام العربية في الفترة القادمة يتعاظم في ظل غموض مصطلح أنسنة المدن واتساعه ،فعليها تقديم هذا المصطلح في صورة مبسطة ليكون ثقافة مجتمعية ،وهو دور جديدة للآلة الثقافية والتي هي مدخل الوصول لأنسنة المدن ،وهذا الأمر يتطلب من الحكومات بناء قائمين بالاتصال وتدريبهم على استيعاب شمولية المصطلح وكيفية التعبير عنه في أشكال إعلامية متنوعة في وسائل مختلفة حتى الوصول إلى عقل جماعي بشأن التواضع على مفهوم أن أنسنة المدن هي الوسيلة الأنجح ليعيش الإنسان في سعادة لا ترهقهه مشكلات الحياة اليومية من صعوبات تنقل وتلوث في البيئة وإشكالات في التعايش مع المجتمع وذيادة القلق والتوتر مما ينعكس في قلة كفاء العمل والتوتر العام وربما الاحباط.
إن أكثر المجتمعات المندمجة في مشاريع تنمية بلدانها هي الأكثر إنتماءً له ،وجسر الرباط بين الانتماء والإنسان هي الأبعاد الإنسانية والثقافية التي تعمل على الإشباع العاطفي والإحساس بالمكان ،فالمدينة القائمة على قيم الانسانية تتيح الحياة الكريمة للإنسان وتغرق سوح فضاءاتها بالروعة والجمال وتتدفق على حوضها الخير والحق فيرتبط الانسان بشخصيات مثلت قدوة له في منابر الثقافة والأدب وتعلق بذاكرته شخصيات أخرى كانت مبعث الظرف والفكاهة أنتجت قصصاَ وحكايات ،ومنافسات رياضية في دور الرياضة المختلفة،تبرز مشجعين بلباس يظل بالذاكرة ونمط من التشجيع فيه الطرفة ولفت الإنتباه،في مثل هذه المجتمعات يحدث الانصهار الحقيقي وتبادل المعارف والخبرات دون دورات تدريبية ومحاضرات،أناس من أجيال مختلفة ،ومشارب متنوعة،جمعهم حب التشجيع لنادي رياضي معين ،الإنسان في مثل هذه البيئات متوازن إلى حد كبير فهو متدين من غير إدعاء يذهب إلى المسجد والنادي والإستاد الرياضي ويمارس رياضة المشي ويرتاد المنتديات الثقافية ويمارس هواية القراءة ويشترك في مشاريع التعمير في الحي الذي يسكن فيه،فإلانسان المتوازن هو أساس لأنسنة المدن ،والمدينة القائمة على البعد الإنساني هي التي تستوعب حاجات الأنسان المتوازن الموضوعي القائمة على العبادة والترفيه والتواصل وفق القيم الأخلاقية الإيجابية النابعة من سمات الإنسانية الحقيقية .
إن موضوع أنسنة المدن يتطلب مساحة كبير من التجوال،وقدراً أكبر من التعمق،ورؤية مشتركة يساهم فيها اصحاب التخصصات المختلفة،فلا يمكن الوصل إلى المقصد ما لم تترسخ المفاهيم الصحيحة لأنسنة المدن في عقلية كل مهني أياً كان مجاله وتخصصه،وهي فرصة لتوجيه نداء للمهتمين بالمنتج الثقافي والإعلامي أن يكون موضوع أنسنة المدن واحد من المواضيع المدرجة في قائمة الأولويات الانتاجية على مستوى الانتاج المرئي والمسموع،وبهذا النداء نختم هذا المقال على أمل أن نلتقي في موضوع آخر
*عميد كلية الاتصال-الجامعة القاسمية -الشارقة