قسم الأطباء..
د. وائل أحمد خليل الكردي
لعل قسم الحكيم الاغريقي (أبقراط) بما تضمنه من قيم أخلاقية في صون الحياة وحفظ كرامة الناس وعدم التمييز بينهم إنسانياً في المعاملة الطبية، لم يكن فقط نموذجاً للأخلاقيات الإنسانية المتجذرة التي يجدها كل انسان سوي في نفسه بحكم الفطرة بغض النظر عن معتقده الديني.. وإنما أيضاً هو قطعة أدبية فريدة بقوة تعابيرها وجمال تراكيبها.. فهكذا ربط (ابقراط) الحكيم بين الواجب الأخلاقي والنفاذ الأدبي ليصير قسمه دستوراً في الآداب الخلقية التي يتحلى بها كل طبيب كما ينبغي.. فمسوغ هذا القسم عند الناس أن الإنسان يصون كرامة الآخرين صوناً لكرامته هو ويحافظ على حياتهم لحفاظه على حياته هو ولا يميز بينهم لغرض أن لا يميزونه إنسانياً، وهذه ليست أنانية لأن الأنانية تعني أن تعطي الخير لنفسك فقط ولا تعطيه لغيرك. وإنما أراد (أبقراط) أن يجعل هذه الآداب الخلقية قسماً حتى يحرص بها كل طبيب أن لا ينحرف عنها بحرية إرادته فيكون غير إنسان سوي فلا يحق له حينها أن يلامس حياة الناس وقت حاجتهم إليه (إذ كيف يعطي الناس الحياة السليمة من يفقدها هو في نفسه) ولأجل هذا قال الله تعالى على قتل أحد ابني (آدم) أخاه بدافع الغيرة غير السوية (ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً – المائدة 33).
فغذا كانت الأخلاق على العموم هي منظومة القيم التي تدفع الإنسان بوازع من داخله الى السلوك والتصرف نحو الأخرين بمعاملة إيجابية خيرة، فيمكن إذاً القول أن هناك اخلاق متجذرة فطرية في الإنسان وهناك آداب أخلاقية مكتسبة متممة لتلك الفطرية. فلما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي رواية مكارم – الأخلاق). فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم مشاع عند كل الناس بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية، ومن ذلك صلاح المهن والأعمال، وهي تلك الأخلاقيات المضافة التي اقتضتها تعقيدات الحياة الاجتماعية الانسانية واختلف الناس في أخذها وردها، فهي من دلالة قول الله تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا – يونس19)، لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ومن هذا القبيل فإن الحد الأدنى البسيط من الآداب الأخلاقية المتممة للطبيب قد تكون بنحو ما يلي:
عدم المباهاة بالعالمية:
فمن تأخذه العزة الزائدة بنفسه وما كسب وحقق فقد وقع في عهد الكبر كما هو لدى (قارون) (قال إنما أوتيته على علم عندي – القصص 78) ووقع من قبله في عهد الغرور لدى (ابليس) بقوله (أنا خير منه – ص 76)، ولعل الأطباء هم أكثر الناس عرضة للوقوع في عهود الكبر والغرور بأنفسهم وما يملكون من علم إلا من جاهد نفسه وقاوم هواها، وهذا أمر وارد تماماً فالطبيب يرى عجز وضعف الناس بين يديه ويرى نفسه يهبهم أسباب الصحة بما يمنحهم إياه من دواء قد علمه بعد درس عميق وتعلم شاق ومعرفة غزيرة تكسبها دون غيره من الناس عن الحياة والصحة. ولكن الوقوع في المباهاة هذه بالعالمية والتعالي بالعلم على الآخرين ربما ينذر بصدمة كارثية شديدة تحيق بالطبيب إذا تمادى إذ الله تعالى يستدرج مثل ذاك ويمد له في الطغيان حتى إذا عماه الكبر أخذه فلم يفلته فالكبر والغرور ظلم. وكذلك يورثه كراهية الناس على حاجتهم إليه (فما بال طبيب يأخذ الناس عنه وهم كارهون ناقمون ولا يدعون له، وآخر يأخذ الناس عنه وهم راضون محبون شاكرون.. هل يستويان).
تقليل الأخطاء:
إن كل ابن (آدم) خطاء.. هكذا قال النبي. ولكن الواجب اللازم على الطبيب أن يحرص ويسعى بكل ما لديه من عقل وفن إلى تقليل احتمالية وقوعه في الخطأ الطبي فالخطأ الطبي حتى لو بدى بسيطاً قد يكلف الإنسان حياته أو يجعله معاقاً باقي عمره. ولذلك لا يجدر بالطبيب خوض المغامرات والمجازفة في علاج مريضه إلا إذا كانت تلك هي الضرورة القصوى وعندما تصبح نسبة احتمال موت المريض في حال العلاج أو عدم العلاج على السواء هي الأغلب، والله تعالى بذلك أعلم.
أدب المقابلة الطبية:
الإنسان كائن انطباعي.. واللحظة الأولى عادة هي اللحظة الحاسمة عنده. واللحظة الأولى في مقابلة المريض لطبيبه تحدد عنده إما الارتياح والقبول وإما الانقباض والرفض. ولذلك فإن المقابلة الطبية هي من أبرز المواطن التي يتجلى فيها خلق الطبيب. وهي تشتمل على عدد من المبادئ:
أ- التعاطف/ فإذا كان قادة أجهزة المخابرات العسكرية في العالم يعلمون عناصرهم أول ما يعلمونهم أنه (لا دخل للعواطف في العمل) فإن القاعدة الأخلاقية في الطب تكون عكس ذلك تماماً (فينبغي إدخال العواطف في العمل) وهو نوع التعاطف السلوكي الإيجابي تجاه الأخرين (المرضى) وليس نوع العواطف الناجمة عن الأحوال الذاتية والمزاجية جراء الظروف الشخصية التي يمر بها الطبيب. ولعل أبرز صور التعاطف التي قررها النبي صل الله عليه وسلم في معاملة الناس قوله (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق) وقوله (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) وخير دلالة لهذا القول ما فسره به (ابن عيينة) حيث قال (البشاشة مصيدة المودة، والبر شيء هين، وجه طليق، وكلام لين) وبخاصة لما يكون الإنسان مريضاً ضعيفاً لاجئاً لطبيبه بالعشم ورجاء الشفاء بإذن الله.
ب- الصراحة مع اللين/ وذلك سواء في التصريح بوضع الحالة أو في أخذ الموافقة بالعلم على العلاج من لدن المريض.. فإن ربنا قد قضى أنه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك – آل عمران 159)، وأقر رسوله (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه). والصراحة مع المريض عن حقيقة مرضه وطبيعة علاجه لا تنافي اللين والرفق، بل إن الصراحة برفق ولين مما يعطي الأمل للمريض ويريحه نفسياً ويجعله متهيئا برحابة صدر لقبول أمر الله بغير جزع، فمن أدب الرفق أن يبث الطبيب في روع مريضه أنه يتخذ كل ما يمكن من أسباب للعلاج وإنما الشفاء من عند الله، وإن دس الحقيقة عن المريض قد يجعله يواجه الواقع بالتجربة المباشرة بغير تهيئة وهو ما قد يصيبه بحالة يأس واكتئاب بأن الطبيب يقول شيئاً وما يجري على الواقع شيء آخر فهذا هو التطمين الكاذب.. ولكن أيضاً قول الصراحة بنحو صادم جاف قد يضر المريض بما يصيب نفسيته بضرر بالغ ربما إلى الدرجة التي تحول بينه وبين الاستجابة للعلاج. فلا مناص إذاً من قول الصراحة مع اللين والهون والرحمة والرأفة والطرق المستمر على منح الأمل بالله. وبطبيعة الحال أن لكل قاعدة استثناء، فهناك أحوال يقدرها الطبيب قد لا ينفع فيها كثيراً قول الصراحة الكاملة حتى ولو كانت بلين، فهذا يتحدد بحسب دراسة وفهم البناء النفسي للمريض.
الإدارة الطبية الناجحة:
أنه كما أمر الله تعالى نبيه (يحيى) أن يأخذ الكتاب بقوة، فكذلك الطبيب إذا صار مديراً على مرفق طبي أن يأخذ هذه الإدارة بقوة أي بحقها وهذا أخذ أخلاقي في المقام الأول، إذ عليه أن يتبين القدرة على الإدارة هذه في نفسه فهي أمانة تخذي حاملها إلا من أداها بحقها، فإن لم يجد فلا يأخذ التكليف بالمنصب وكل إنسان على نفسه بصيرة. والقاعدة الذهبية في الإدارة الطبية هي قول الرسول صل الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فرعاية الطبيب المدير في إدارته أن يعامل كل من يليه بالعدل بحسب ما يستحق، وأن لا يولي بالتكاليف إلا من هو أهل له ويشرف عليه اشراف مباشر، وأن يتخذ البطانة الصالحة لنفسه، والأهم أن يعين في إدارته الكادر الطبي الكفء ذا الخلق النبيل الذين يقومون بالأعمال الحيوية، وفي الأخير أن يكون كما كان الراشدين العظماء من قبل لا يغلقون بابهم دون أحد أياً من كان. هذا والله تعالى أعلم.