السودانيون يسخرون من احتساب تعرفة المواصلات بالكيلومتر
من بين تفاصيل الواقع المادي والمعنوي المرهق وهدر سكان الخرطوم وقتاً طويلاً من الزمن في الانتظار ومعاناتهم اليومية في مطاردة حافلات المواصلات العامة وسط ارتفاع مطرد للتعرفة قابل السودانيون إعلان احتساب تعرفة المواصلات بالكيلومتر بكثير من السخرية والتندر بأن تكون الكلفة 25 جنيهاً لكل كيلومتر داخل العاصمة بمبرر مراعاة حقوق المواطنين.
دهشة وتندر
وأبدى مواطنون كثر، بخاصة ممن يسكنون أطراف العاصمة دهشتهم تجاه هذا الإعلان، لأن حساب التعرفة الجديدة بالكيلومتر يعني في حقيقته بالنسبة إليهم ضرباً من الالتفاف ستترتب عليه زيادات جديدة على تذاكر النقل العام.
وكتب كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي أن المناطق التي تبعد من الخرطوم حوالى 30 كيلومتراً سترتفع تعرفتها بنسبة تقارب الضعف حال تطبيق النظام الجديد للتعرفة، فبدلاً من كلفة تبلغ حوالى 500 جنيه حالياً ستصبح 800 جنيه، مما يتناقض مع المبررات التي تربط الأمر بمراعاة مصلحة المواطنين.
وتساءل هؤلاء في غمرة تندرهم عن كيفية احتساب الكلفة وفقاً للكيلومتر، “كيف يتسنى للركاب حساب طول المسافة وبأي أجهزة؟ أم أن الأمر سيكون تقديراً جزافياً من قبل أصحاب المركبات، وهل يسألون الكمساري (معاون السائق للتحصيل) عن مسافة كل محطة بالكيلومتر؟، نظراً إلى أن باصات وحافلات المواصلات ليست بها عدادات تعمل.
وعبر قسم كبير من السودانيين عن معاناتهم من المواصلات التي تزداد يومياً، مشيرين إلى الوضع المزري لمواقف المواصلات وفوضى التعرفة بالنسبة إلى كل أنواع المركبات الصغيرة والكبيرة وبات كل واحد منهم يضع السعر الذي يراه مناسباً من دون أي رقابة لدرجة لم يعد راتب الموظف يكفي لتغطية كلفة التنقل، مطالبين بتدخل رسمي ينهي الأزمة ويحسم فوضى الأسعار.
نظام مستحيل
على صعيد أصحاب المركبات يرى عوض عبدالرحيم مختار “استحالة تطبيق نظام الكيلومتر في ظل الواقع المتردي الحالي لمعظم الحافلات العاملة التي تعود سنوات صنع كثير منها إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فضلاً عن التدهور المريع في البنية التحتية والطرق التي تدمر الحافلات الكبيرة إلى جانب تكدس المواقف والمحطات والجسور بصورة تطيل أمد المشاوير وتؤثر بدورها في عدد الرحلات اليومية لينعكس كل ذلك على تدني الدخل اليومي للمركبة، فبدلاً من عمل 10 رحلات يومية تنخفض بسبب الطرق والزحام إلى ست رحلات فقط”.
من جانبه يعتبر المستثمر في مجال النقل وصاحب مجموعة مركبات عصام الأمين أبو البشر أن “الحل الحقيقي لهذه المشكلة المزمنة يقوم على مدى قدرة الحكومة على امتلاك أسطول كبير من المركبات ذات السعة الكبيرة تستوعب حجم حركة النقل في ولاية الخرطوم وتشكل من جانب آخر منافساً للقطاع الخاص بما يجبره على خفض التعرفة”، وطالب بخفض رسوم الاستيراد لمركبات النقل العام الكبيرة مع تقليل حجم استيراد العربات الصغيرة للحد من الازدحام والتكدس اللذين تشهدهما العاصمة، منتقداً استمرار دخول قطع غيار غير مطابقة للمواصفات إلى البلاد، مما يرفع كلفة الصيانة ويتسبب في تكرار الأعطال وخروج عدد كبير من المركبات من الخدمة.
وقال “من الصعب إيجاد حلول جذرية لمشكلة التعرفة التي يجب أن تغطي كلفة التشغيل في ظل ارتفاع مطرد في أسعار المستهلكات وقطع الغيار، مما جعل المحليات عاجزة عن دورها في تنظيم المواقف المكدسة بالباعة العشوائيين وضعف الضبط المروري”.
يقدر متخصصون بأن حوالى 2.5 مليون شخص يتحركون يومياً بالمواصلات في ولاية الخرطوم (اندبندنت عربية – حسن حامد)
غياب الرؤية
بدوره انتقد الباحث في اقتصادات النقل محمد النعيم المحسي “غياب خطة أو رؤية رسمية واضحة لحل مشكلة المواصلات المتفاقمة بشكل يومي، مما يصعب وضع تعرفة محددة وملزمة لأصحاب المركبات في ظل الظروف الاقتصادية الحالية” وقال إن “القفزات الكبيرة التي تشهدها التعرفة من وقت لآخر سببها سياسة التحرير ورفع الدعم التي صدرت عن دراسة دفع ثمنها وتحمل وزرها الأكبر المواطن العادي”، واتهم السلطات “بعدم الجدية في حل معضلة المواصلات وما يواجهه المواطن من عناء ومشقة في تنقلاته اليومية وعدم دعم شركة المواصلات العامة لصيانة الباصات وتجهيزها وتهيئة ورش الصيانة الميكانيكية وتوفير قطع الغيار وابتكار نظم ووسائل مراقبة فاعلة ودقيقة لحركة المركبات مع الاستفادة من مواعين سكة الحديد والنقل النهري كوسيلة حركة داخل العاصمة وبين الولايات”.
على صعيد متصل يعتقد أبو راحل يوسف الشوبلي، المتخصص في مجال النقل الحضري والمدير السابق لشركة الترام بأنه “من الصعب تطبيق نظام التعرفة وفقاً للكيلومتر على مركبات النقل العام مع إمكان تطبيقه على الوسائل الفردية كالتاكسي وتطبيقات ترحال للنقل، أما المواصلات العامة، فهناك إشكاليات عدة تتلخص في مطالب أساسية غير متوافرة والبيئة غير مهيأة تماماً لمثل ذلك النظام وهو أمر بعيد من واقع الحال في السودان والظروف الحالية التي تتدنى من خلالها القدرات تجعل تطبيق ذلك النظام غاية في الصعوبة”، ويتهم من جاؤوا بفكرة تعرفة الكيلومتر بممارسة “نوع من الترف والرياضة الذهنية ولا تعدو كونها شطحة خيالية ومجرد تنظير لا يستند إلى الواقع والإمكانات الحالية”، منوهاً بأن “على الجهات المختصة التركيز على إيجاد حلول للمشكلات المستعصية الماثلة بما يضمن استمرار خدمة النقل لتلبية حاجات المواطنين اليومية في التنقل والتواصل الاقتصادي والاجتماعي”.
الشراكة الحتمية
ويشير الشوبلي إلى أن “المواصلات العامة باتت خدمة تستدعي الدعم من الدولة لأن هناك استحالة في ترك أمرها لأي من القطاع الخاص منفرداً أو الدولة وحدها، لذلك وفقاً لمبدأ عالمي أصبحت الدول تلجأ إلى شراكة ذكية مع القطاع الخاص تقوم فيها الدولة بالتخطيط والتنظيم بعيداً من التنفيذ المباشر وذلك من خلال سيناريوهات عدة للشراكة بين القطاعين العام والخاص”، ويضيف “للأسف كان السودان انتبه إلى هذه الشراكة باكراً منذ عام 1974 عندما تنازلت الحكومة المركزية عن حصتها في شركة مواصلات الخرطوم لحكومة الولاية، لتبدأ شراكة مع القطاع الخاص عبر شركة أبو رجيله، لكن الشراكة انهارت بسبب التدخلات الرسمية ولأسباب سياسية في التعرفة بغض النظر عن الكلفة الحقيقية”، معتبراً “التدخل السياسي لإرضاء الرأي العام كنقل الطلاب مجاناً أو بنصف الكلفة جرياً وراء الرضا العام، خصماً على المعايير والجدوى الاقتصادية”.
البحث عن حلول
وطالب المتخصص في النقل الحضري الحكومتين المركزية وحكومة ولاية الخرطوم بالجلوس لمناقشة أمر المواصلات العامة بجدية ودراسة خطط وعلاقات جديدة لوضعية شركة المواصلات، لأن وضعها الحالي لا يستطيع تلبية الحد الأدنى من حاجات النقل الداخلي في العاصمة ويتجه نحو الانهيار الكامل بتوقف كل الأسطول العامل المتداعي”.
وأكد أن “التعرفة الحالية للمواصلات لا تقوم على أساس حقيقي وتعكس خللاً في بنية صنع واتخاذ القرار وغياب العقل المركزي في وضع السياسات وهو الخلل الذي بدأ منذ اتخذت الحكومة قرار تحرير الأسعار بما فيها الوقود وقطع الغيار، بينما لم تكن تمتلك سياسات تفصيلية للتنفيذ”، مشيراً إلى أن “ما يحدث في تعرفة المواصلات يمثل أحد أنماط الانفلات” ومعتبراً “اللجوء إلى احتساب الكلفة بالكيلومتر اجتهاداً في غير محله”.
وكانت ولاية الخرطوم دخلت في تجارب عدة لحل أزمة المواصلات المتفاقمة بمحاولة الاستفادة من مواعين للنقل النهري وامتدادات الأنهر داخل الولاية وسكة الحديد ضمن مساع إلى إيجاد حلول لأزمة المواصلات المستعصية من ثلاثة أنهر تطل مدن وأحياء الولاية على ضفافها، بيد أن تلك التجارب إما لم تر النور كالنقل النهري أو لم يكتب لها النجاح والديمومة كتجربة القطار المحلي.
وما زالت أزمة المواصلات عصية على الحل مع عجز السلطات المتعاقبة عن توفير مركبات النقل وضبط حركتها والسيطرة على انفلات تعرفة النقل، بينما يتصرف القطاع الخاص وفقاً لنظرية السوق الحرة في التعامل مع الكلفة بواسطة أصحاب المركبات، في وقت يقدر متخصصون بأن حوالى 2.5 مليون شخص يتحركون يومياً بالمواصلات في ولاية الخرطوم.
وتعاني شركة مواصلات الولاية من تقلص عدد المركبات العامة العاملة في القطاع من 500 ألف مركبة بحال جيدة إلى 15 ألفاً فقط، الأمر الذي يقف وراء انهيار منظومة النقل العام بالولاية، فضلاً عن مشكلات مزمنة أخرى يعانيها القطاع الخاص.
وشهدت ولاية الخرطوم في الأعوام الأخيرة نمواً كبيراً في الكثافة السكانية نتيجة الهجرة المستمرة إليها من الأرياف بمعدل يقدر، وفق إحصاءات رسمية، بنحو أكثر من 80 أسرة في اليوم الواحد، حتى باتت تضم تقريباً ربع إجمالي سكان البلاد (نحو 43 مليون نسمة)، ويتوزع سكان الخرطوم (أكثر من 11 مليون نسمة) على محليات ولاية الخرطوم السبع ووصل معظمهم إليها من الولايات أخرى بحثاً عن الرزق.