تحصلت اليوم التالي من مصادرها على مسودة تاريخية خطها الشيخ حسن الترابي تتعلق برؤية المؤتمر الشعبي حول مشروع الدستور الانتقالي وبرنامج التحول الديمقراطي فى العام 2013 وتشمل النقاط الخلافيه مع قوى الإجماع الوطني، وتنشر لأول مرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
قضايا قد تورد خلافاً في مشروع الانتقال
١ . الدين والدولة حكماً وسياسةً:
الدولة هي،
أولاً: قطر حدود إطاره في الأرض مرسومة،
ثانياً: يتواطن فيه مجتمع قوم متواصلين بمشاعر وحدة وهوية سياسية تتمايز عن غيرها،
ثالثاً: عليهم سلطان ولاية حكم نظمه مرسومة ومؤسساته ذات سلطة تلزم المواطنين بقانون .
أ . في مذهب الحكم قد تكون الدولة دينية منسوبة لملة السواد الأعظم من مواطنيها تحمل اسماً دينياً عفوياً: مثل الدول الإسلامية، أو الدول المسيحية، أو الدولة الإسرائيلة. وبعض الملل لا يظهر إسمها في شهرة الدولة كما تغلب الهندوسية أو البوذية أو الكنفوشية ثقافة لسواد المواطنين الأعظم لكن لا يذكر الدين في عنوان دولتهم السياسي.
– وقد تكون الدولة دينية بشهرة اسمها مثل مورتانيا وباكستان لكنها لا ترعي أحكام الدين السلطانية ويفصل الدين فيها عن الحكم والسياسة كما هو حال أغلب الدول الإسلامية .
– وقد تكون الدولة دينية في مذهبها السياسي ولو لم تشهر باسم دينها في عنوان الدولة كالسعودية إذ يغلب فيها المذهب السلفي الذي يبسط مذهب عقيدة رسمية وأحكام شريعة في المظاهر الشعائرية والحياة
الشخصية. أو تكون تقليدية في مذهبها السياسي يسود فيها إمام وخلافة مثل سنن دول الإسلام القديمة .
– وقد تكون الدولة دينية يغلب فيها مذهب اجتهادي متجدد يبسط الحرية الدينية للجميع والمساواة في المواطنة وينظم السلطة بتدابير الشوري والإجماع الذي يمثل رأي الشعب العام، والأمانة في المال العام، والوفاء لعهود المواطنة السياسية وعهدها التأسيسي والعلاقات الدولية، ومراعاة هدي الشريعة في سياسة الحياة الاجتماعية
للمسلمين فيها والمعاملات الاقتصادية وحرية الشعائر لكل ذي ديانة
وملة.. الخ.
ب . وقد تكون الدولة علمانية (بفتح العين) النظام السياسي الحاكم ، مهمومة في سياستها بهذا العالم الدينوي لا الغيبي ولا الأخروي. وذلك مثل دول أوربا لأن الدين كانت تحتكره الكنيسة الطائفية المقدسة وهي باسم الله تدعي السلطة وتباركها لمن تشاء ملكاً دون حرية ولا مساواة بل بطائفية تقليدية ودون تقدميه اجتهادية للشعب. والكلمة تنطق خطأ بأنها علمانية وليست هي صحيحة فأصحاب الدين الحق ينشدون كل العلوم أيضا، وإن
كانت كنيسة أوربا ضد العلم الطبيعي الناهض. وتلك دولة يمكن أن نسميها “لا دينية” كفراً بالدين في الحياة العامة ولو صاحبه بعض إيمان في العقائد وممارسة للشعائر ومراعاة لأحكام الأسرة أو نسميها دهرية دنيوية مادية منصرفة عن الدين أو نحو ذلك. وغالب الدول الأوربية
علمانية إما قطيعة بائنة بين الحكم والدين بثورة علي الكنيسة وعلي القديم المتدين مثل فرنسا، أو هي كذلك في غالب الحياة العامة مع أعراض
تقليدية محفوظة في مراسم الحكم للدين مثل انجلترا.
ج . والمصطلحات قد ترتبك، فقد يصرح البعض بمذهبهم في العلمانية أو اللادينية للدولة مع حفظ أصل ملتهم وحياتهم الخاصة وقد يستعملون كلمة
“مدنية “. والمدني هي في تمايز شعاب القانون ما يقابل “الجنائي”. والمدني هو في علم المجتمع ما يقابل البدوي الساذج لأنه حضري. والمدني في الخدمة العامة من عمال السلطة هي ما يقابل الخدمة العسكرية النظامية المسلحة. والمدنية صفة للدولة تعني أنها لا تولي علي حكمها وأمرها العام إلا من يتمايز بكونه المدني العام من الناس عن القديسين برتب الكنيسة
الهيكلية. والأوربيون يسمون الحكم الديني أنه ثيولوجي، ويسمون نظام القانون في أوربا ” القانون المدني ” لأنه فارق قانون الكنيسة تماماً وفي السوادن عهد الاستعمار البريطاني فرق بين القاضي الشرعي، الذي يطبق الشريعة محصورا في أحكام الأسرة ويرعي الشئون الشعائرية كالمساجد والصلاة ورمضان والأوقاف ونحو ذلك بينه
والقاضي المدني الذي يطبق قانون العرف الانجليزي وأحكام التشريع الاستعماري. ذلك أنهم في حكم السودان هدموا حكم المهدية الإسلامي التوجه وإن كان قاصرا في تعاليم الإسلام الحقة في نظام الحكم، وأقاموا
نظام حكم لا ديني مفصول عن الإسلام ومضي الحكم علي ذلك التراث البريطاني بعد الاستقلال فلا ذكر للإسلام في وثائق الدستور الانتقالية لكن لا حجر علي الشعائر والمساجد والكنائس والمراسم الدينية ولو كانت
مما يرعاه أحياناً ولاة الأمر السياسي. والسودان أصبح عندئذ مسكوتاً سياسياً عن ملة أهله الدينية والوطن للمسلمين وغير المسلمين لكن الطوائف الدينية فيه كانت أكبر قاعدة للولاء السياسي الحزبي لا يتجاوز
ذلك الدين في ولاء القاعدة فلا يمس شأن الحكم لتلك الأحزاب.
وفي مراحل لاحقة نشأت حركة إسلامية حديثة لا طائفة موروثة، تدعو لله معبوداً بكل وظائف الحياة والإسلام له بالحياة الخاصة والعامة
سياسية واقتصادية واجتماعية فنية أو خلقية أو رياضية، وبالعلم في وحي الاسلام وسنة نبيه وفي اجتهاد السلف والخلف وفي أقدار الله وسننه في
طبائع الأشياء، فلا إشراك ولا فصال بين حياة دينية ودنيوية ولا علوم دينية وطبيعية. وأولئك دعوا للدولة الإسلامية والدستور الإسلامي وحكم شريعة الإسلام مع رعاية عقيدته وأخلاقه في المجتمع المسلم. وبأثر دفع
الحركات الإسلامية الناهضة وانتباه المجتمع الغافل للشريعة والحكم بما أنزل الله أخذت شوائب النصوص الإسلامية تظهر في الوثائق الدستورية: مثلا دين الدولة الرسمي هو الإسلام، “والشريعة مصدر التشريع “. وأخذ الوعي ينتشر والخلاف يظهر بين المحافظين التقليديين الداعيين للخلافة أو الإمامة والمشغولين بتحريم الخمر والزنا وما يسمونه الحدود الشرعية والإسلاميين المتجددين الذين كان همهم توبة السياسة والحكم إلي الدين ليكون الولاء لا لطائفة ولا لزعامة بل لمعان في الدين قد تختلف فيها رؤي الأحزاب المتنافسة، وليكون الحكم بشوري الشعب نيابياً تنافسياً تعاقبياً طاهراً، ولتكون أصول التشريع متجددة اجتهادية لا التقليدية. وظهر ذلك في آخر عهد الرئيس نميري عندما شرع منهج القيادة الراشدة خلقاً ومنع الخمر قانوناً وعملاً وفرض الحدود العقابية كذلك ومنع الربا حكماً لا عملاً وأباح نظام الزكاة والمصارف والتأمين الإسلامي.
ثم قامت حركة الإنقاذ انقلابية عسكرية مجهولة الوجه لأول عهدها تجلت إسلامية في سياسة الدولة الخارجية والجهادية وفي تحكيم
الشريعة وفي استئثار الإسلاميين بدواوين السلطة والقطاع العام وكانت الدولة الإسلامية السودانية مشهورة الوقع العالمي والوطني بين متعاطف ومتحالف عليها. وفي أواخر عقدها الأول ظهر الخلاف بين عناصر من العسكر ومن الحركة الإسلامية ممن فتنتهم السلطة والارتهان لها وفسادها، وأخرين من الإسلاميين أشهر خالفوهم وفارقوهم حول مبادئ الوفاء للعهد الدستوري، والبسط للحرية للمؤمن والكافر خطاباً أو تحزباً،
والشوري انتخاباً صادقاً لكل ولاة السلطة من رأسهم إلي المحليين
والقرار بالشوري لا بالقوة المتسلطة والطهارة في المال العام وقضايا أخري في بنية الدولة الإسلامية الراشدة لا تلك المستبدة بالجبروت العسكري الأمني. وتعرض المفاصلون لما تعرضت له المعارضة ثم آلت
بعض جوانب تلك المعارضة إلي ائتلاف مع السلطة. والدستور المعتمد لأواخر القرن كانت فيه أصول إسلامية لكن لم يعمل بها وكان هو مرحلياً كاملاً في بسط الحرية وراء قيد القانون وفي النظم الأوفق.
ثم جاء عهد السلام مع الجنوب باتفاقية نيفاشا التي ذكرت في دستورها الشريعة عرضاً للولايات الشمالية التي لا تتمتع بسلطة تشريعية بل كان الاستبداد العسكري يحرمها من قوائم سلطاتها كافة الإ هدايا المناصب. والحزب المحتكر للسلطة ظل يسود بسياسته وقراره مقدماً علي دستور ثابت ثم تآلفت قوي المعارضة إسلامية وغير إسلامية ويئست من محاورة النظام داعية لإسقاطه لأنه لا يشاور أحداً في قضايا السودان الإقليمية البنيوية جنوباً وغرباً، ولا يبح حرية للخطاب ولا الإعلام ولا يدير انتخابات إلا مزورة كلها، ولأنه أدي بجبروته إلي انفصال الجنوب وانحرام موارد الموازنة من البترول الغالب حسابه، فحمل علي المواطنين بضرائب وغلاء أثار الأزمة المعاشية بعد السياسية.
والمعارضة تريد أن تصدر منها رؤي في قضية النظام البديل الخالف لهذا النظام المستبد وفي دستور انتقالي بما ينظم حركة التحول نحو حياة سياسية ثابتة مرضية في كل شئون الحكم وفي قضية الدين والدولة.
– الإسلاميون الأعدل والأفعل لا يدعون في عهد الانتقال لحسم قضية الدولة والدين بذكر ذلك صراحة ونصاً كما يرون هم بل يؤثرون أن يتوافق الجميع علي اسقاط النظام وإدارة نظام انتقالي غير خلافي ويفلحوا في ذلك ليمهدوا لحرية الحوار والخيار في قضايا نصوص
الدستور القادم.
– وبعض النشطين ببواعث الدين بنزعة سلفية أو تقليدية يريدون
دستوراً إسلامياً فوراً مرسوماً بمثل مايرون مما يخالفهم فيه
الإسلاميون السابق ذكرهم
– وبعض القوي السياسية المعارضة تدعو لوصف الدولة المرجوة فور الانتقال بأنها “مدنية” لموقفهم الكاره لسابق الانتساب السلطاني للإسلام مع الكبت والاستبداد والفساد وتأزيم بنية الوطن أو وحياة شعبه ظلما وشقاء. ولئلا يقع خلاف قاطع يضطر به الاتجاه الاسلامي الساكت عن إسلامه الشامل المساير لسائر المعارضة للنظام حتي سقوطه لمفارقتها. ذلك أنه يفصل الدين عن السياسة والحكم ولأن ذلك سيحرمه تنظيماً إسلامياً من حرية الوجود والعمل في السياسة منذ عهد الانتقال ويحظر للدين الإسلامي هدايته التوحيدية للحياة محصوراً في الشعائر والاذكار والطوائف وأحكام الأسرة أوبعضها.
– والأوفق ترك أمر الخلاف بين من انفعل بتجربة الغرب الأوربي مع المسيحية أو تجربته هو السودانية مع عسكر الإنقاذ ومن هو إسلامي التوجه في كل حياته ثقافةً ومجتمعاً وسياسةً ويرضي بالإنتقال من هذا النظام الظالم الفاسد سكوتا عن النص ما يدين هو به، مع بسط شرائط الحرية والمساواة والمواطنة وحكم الشعب مبادئ هادية للجميع سواء صدرت عنهم بمصطلحات غربية ليبرالية، أو ديمقراطية ودستورية أو عربية كالحرية العفو في الكلام والجدال
وموالاة الآخرين وفق المشيئة الحرة والشوري الشعبية والإجماع والنيابة التفويضية والاستفائية في ولاية السلطة وفي قرارها للنظام الساعون
والرقابة عليها. فمن حيثما ورد المعارضون لإسقاطه بمنطلقات أفكارهم هم متفقون جميعا علي مبادئ الواقع الانتقالي المشترك.
٢ . بناء الدولة: التوحد المتمركز أم الاتحادية الفيدرالية.
بنية الدولة الممركزة هي التي يقوم فيها محور سلطان واحد لكل القطر والوطن تنحصر فيه المؤسسات الدستورية للسلطة التي تصدر منها الأحكام
التشريعية والقضائية الملزمة مطلقا وإليها فقط ترد أموال كل الضرائب والمفروضات وهي التي تتحكم في كل ميزانية جمعها والتصرف فيها.
– وبالطبع قد تقوم للسلطات التنفيذية المركزية فروع عليها مديرون مفوضون مختصون بشعاب عمل أو بنواحي أرض.
– وربما يقوم تحتها حكم محلي مجلسي أو أهلي يختاره الناس أساسه المفصل قانون تشريعي ولكل أداءه خاضع للسلطة التنفيذية المركزية.
– وربما تتوافق الدولة الممركزة مع دول أخري لكن أحكام الاتفاقات لا تسري إلا بعد إجازتها حسب نظم التشريع الوطني.
– وربما يتكثف الوفاق الدولي بين منظومة دول تصبح متحالفة عسكرياً متعاونة اقتصادياً وقد تسمي كونفدرالية لأنها وحدت
حركتها في بعض شئون سياسية عامة.
والنمط الآخر لبنية الدولة أن تكون لا مركزية اتحادية، فدرالية باللغة الانجليزية. وأصولها في البناء غالبا ولايات أو أقاليم متفاضلة كانت في سابقها
مسودة بسلاطين أو أمراء أو نظم ديمقراطية، وهي كانت مستقلة ولكن كان يصلها
مع أخريات نفوذ كيان ملكي أو كانت مؤطرة في قوة استعمارية واحدة أو تؤلفها ثقافة مشتركة، ولذلك آثرت أن تأتلف في قوام دولة واحدة. أو قد ارتفعت عنها قوة جامعة وأورثتها كيانات مستقلة لكنها أثرت هي أن تؤسس الاتحاد في دولة علي
دستور فيه اقتسام للسلطة التي تعني كل كيان إقليمي بأمره الداخلي عن السلطة التي تفوض للمحور المركزي الوطني الجامع لأنها شئون عابرة لحدود الولايات أو تعبرها جميعا للعلاقات الدولية.
وقد تكون سابقة الدولة مركزية تحت سلطان آخر ولكنها بعد الاستقلال قدرت أن أقاليمها في بنيتها السكانية وثقافاتها وأحوالها الطبيعية يتعسر حكمها مركزياً من محور عاصمة واحدة لكل السلطات والأموال العامة، ولذلك تؤثر أن تقسم أرضها وتوزع السلطات والأموال العامة مع حفظ وحدة القطر القومية.
وبالطبع الدستور العام هو الوثيقة الحاكمة لأيما اتحاد أو فدرالية فإذا كان نظام الحكم مؤسساً علي الحرية والنيابة الديمقراطية يسود الدستور وأيما خلاف في
واقع القسمة يحتكم فيه للقضاء الدستوري. لكن قد تكون الكلمات الدستورية تعبيراًعن فدرالية عادلة متضابطة متوازنة متكاملة لكن الواقع في الحكم يغلب علي ذلك الميزان المكتوب لأن نظام الحكم استبدادي عسكري تتمركز فيه حقا كل السلطات وتحتكر في يده كل الأموال فالحكم في الدولة طاغوتي جبروتي جامع.
ومن أمثلة الدول الفدرالية الصادقة رسماً في الدستور وواقعاً في السياسية: في
أمريكا : الولايات المتحدة (بعد حرب أهلية) وكندا (بعد الاستقلال) وفي أوربا : ألمانيا الاتحادية (دويلات تاريخية) وسويسرا (وإن كان يطلق عليها كلمة الكونفدرالية بين الكانتونات تعبيراًقديماً). وفي آسيا : الهند المركبة واستراليا (بعد الاستقلال). وفي افريقيا جنوب افريقيا. أما الفدرالية الورقية فقط فهي مثلا الأرجنتين
والمكسيك (بعد الاستقلال من أسبانيا لكن إلي الثمانينات إذ حكمها العسكر المتعاقب)
والبرازيل (برتغالية وعسكرية التاريخ السياسي حتي الثمانينات). وفي آسيا كان الاتحاد السوفيتي اتحادياً يبدو واسعاً ومنفرجاً فيما كان مكتوباً ولكنه كان محتكراً للسلطة
المركزية الواحدة اقتصادياً وسياسياً وذلك قبل انفضاض دول الاتحاد. وكذلك يوغسلافيا الاتحادية التي تمزقت دولاً بعد سقوط الطغيان. وباكستان المتقلبة بين العسكر والديمقراطية المضطربة. وفي إفريقيا نيجريا المتقلبة بين العسكر الطغاة والفدرالية المتوازنة.
والسودان صار إلي الحكم الاتحادي مع تمركز سطوة العسكر المركزية الحاضرة إلا الجنوب الذي انفصل عنه. وقد كان السودان دولة سنار ودولة دارفور وأراض لقبائل الجنوب توحد بالطغيان الخديوي حتي المهدية والاستقلال. وضغوط الإقاليم والجنوب خاصة هي الدواعي للفدرالية ترضية نظرية لا منظومة صادقة. والنزوعات الإقليمية في السودان مازالت تشتد وتستعر حروباً أهلية مثل سابقة الجنوب الذي انفصل بعد المقاومة والحروب المتطاولة. والآن تعتمل في السودان أزمات إقليمية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والبجة في الشرق.
والتوترات الثورية أصبحت ظاهرة عبر السودان فضلاً
عن توترات ناشئة من انفعال بمظالم في مناطق في وسط السودان وغربه وشماله. والمنظومات الثورية والحركات الغاضبة قد تكون إقليمية أو محلية الهم وقد تكون واسعة في الوقع تأتلف أحياناً وتري مظالمها متمحورة قومياً فتهم بحركة قومية ترفع النظام الحاكم في سبيل وطن متوازن.
والأزمة القومية جمعت قوي المعارضة وتفاقمت وجوه الأزمة فدعتها إلى النهضة بالمقاومة الفاعلة في سبيل اسقاط النظام وهي تقتصر في وسائلها على
الحركة السياسية السلمية وتريد أن تكون قومية لا عاصمية مثل اكتوبر 64 وابريل 85. وهي تستبشر بالأمثلة الثورية في الربيع العربي الذي ظهر مثله في افريقيا حزام السودان. وذلك شاهد علي ضعف النظم العسكرية الجبروتية مهما بدت محيطة بمواطنيها لا تبالي بقهرهم ترهيباً وحشياً وترغيباً مهما بدت كذلك محظوظة
بالدوام فإنها تتساقط إذا تداعت عليها ثورة الجماهير. والواقع شاهد بسوابقه أن القوات المسلحة الفاعلة تنحاز للثورات إذا تطاول بلاء الناس وسفك فيهم دم كثير.
إن القوي السياسية المعارضة قد تفلح بحركتها مقاومة سلمية تظاهراً وإعلاماً وإضراباً . ولكنها لن تُرضي المقاومة المسلحة التي تآلفت أيضاً إلاّ إذا نسقت معها السعي الي الهدف رغم اختلاف الوسائل وطمأنتها بأن الانتقال فيه بشائر موثقة في دستوره المعدّ لبسط الحرية واللامركزية واستدراك المظالم للأقاليم المهضومة. وبذلك تتعزز حركة إسقاط النظام لتُفلح وتتمهد البشارة عهد الانتقال أن نار الحرب فيه ستنطفئ. وذلك يقتضي أن تكون المؤسسات المرسومة للحكم في عهد الانتقال ليست مركزية وحسب بل ينشأ بنمطها القومي أيضاً في الولايات مثلها لكن بحجم نحو النصف مقارنة بالقوميات أقتصاداً في سفه الانفاق علي دواوين إدارة الوطن في مركزه وولاياته ، اتعاظاً بتجربة الإنقاذ المترهلة التكاليف في ذلك.
– وذلك هو الأوفق في رسم الدستور الانتقالي مهاداً لعجلة نفاذه وتأميناً لنظامه ألا تستمر المقاومات المسلحة من الأقاليم المظلومة في عهد تنبسط فيه الحرية ولا تتعبأ قوي الأمن والعسكر للصراع والتحارب الوطني. وفي أواخر العهد الانتقالي يتهيأ الناس لحملة الانتخابات للعهد التأسيسي اللاحق وعندئذ تطرح قضايا الخيار بين اللامركزية أو الاتحادية بأبعادها ومداها. والشعب بتفويضه لنوابه التأسيسيين بإستفتائه اللاحق سيحسم الخيار في مصير دستوره القادم دولة متمحورة متمركزة أم مبسوطة اتحادية.
٣ . من يتولى وضع الدستور الثابت للسودان
فيما مضي تقلبت مسيرةالدستور السوداني. فمنذ الاستعمار عرف السودان عهده الخاتم قانون الحكم الذاتي، وعشية الاستقلال عكف عليه بليل وطنيون وأصلحوا وثيقة ذلك القانون في الدستور المؤقت. وانتُخبت جمعية تأسيسية لتتولي وضع الدستور الثابت لكن انقلب علي الحكم العسكر الأوائل 1959. ثم صبيحة انتصار ثورة أكتوبر اتُّفق علي مراجعة صياغة للدستور الانتقالي ليحكم عهد الانتقال. وبعد انتخاب الجمعية التأسيسية شُرع في وضع مسودة الدستور، ثم حُلّت الجمعية وقبل أن يفرغ النواب لإتمام تكليفهم التأسيسي في مرة ثانية عاد العسكر بانقلاب 1969. وفي عهد مايو العسكري وضع دستور دائم عدّل مرات، ولكن الرئيس الزعيم كان هو السلطة العليا التي كانت تطمس نصوصه واقعاً. وبعد الانتفاضة أتفق علي تدبير دستوري انتقالي وانتخبت جمعية تأسيسية لكن تقلّبت فيها الحكومات الائتلافية ولم تفرغ لمهمتها حتي عاجلها انقلاب الانقاذ العسكري 1989. ووضعت من بعد مراسيم دستورية انتقالية ثم وضع دستور للسودان 1998، وفيه معان سلطانية اسلامية وأجيز باستفتاء لكن كان العهد جبروتياً وما كان الدستور إلا درجة نحوّ التقدم ما حقّت واقعاً فأوامر العسكر هي العليا جبروتاً. وعند عقد السلام العسير في اتفاقية نيفاشا نزل علي السودان في شقين دستور مؤقت سنة 2005، وما فيه كلمة إسلام إلا للولايات الشمالية المعطلة. ثم انفصل بمقضاه الجنوب وترك الدستور شائها انتخاباته زائفة وفدراليته وهمٌ مكتوب. ثم أقبل ولاة الجبروت يبشرون بدستور جديد!
أما المعارضة ففي صفها أقوال بين مَن يؤثر وضع الدستور من منظومتهم هم القيادية أواخر عهد الانتقال بعد سقوط النظام، ومَن يري أن الدستور شأن تأسيسي في الأحكام لا تحق ممارسة وضعه إلا للشعب الحر ونوابه المنتخبين.
فالدستور– كلمة فارسية– هي في مقصودها اليوم تعني التعاهد التأسيسي تركيباً لنظم الحكم وميزاناً لعلاقاته بأفراد الشعب أو بين المركز والولايات، وأحكامه مصدرها هي إرادة الشعب أو نوابه التأسيسيين. ومن تحته أحكام التشريع وهي نتاج تشاور الرأي العام الحر ثم تداول نوابه استنارة بالعلم والإرادة الشعبية. ومن تحته الأوامر واللوائح والأفعال للسلطة التنفيذية بتفويض من التشريع، وكذلك الأحكام القضائية. وكل تلك الأحكام بدرج حجتها المترتبة تعالياً هي من القانون.
والقانون الواقع الزاماً لأفراد في المجتمع إنما يصدر حسب نمط الحكم والسلطان. وذلك النمط إما أن يكون هو حكم الفرد: ملكياً وراثي الشرعية أمره جليل القدر أو هو من فرد استلبه بالقوة. والملوك والحبابرة يحكمون كذلك أوتقراطياً حكماً محتكراً مستبداً فرعونياً. ونمط الحكم قد يكون مما تتولاه عصبة تدّعي أنها مقدسة مفوضة من الله- تبوقراطية من الشيوخ والموالي ورجال الدين والكنيسة، أو عصبة ديوانية هم من قيادات الخدمة العامة التي تصنع القرارات التي تجوز علي مَن فوقهم من الوزراء المشغولين بصراعاتهم، وتلك هي: (البيروقراطية). أو هي عصبة بلوتوقراطية حيث يستبد فيها بالسلطة الأغنياء والكبار، أو (أليقارطية) عصبةً ممن تولي الأمر بقيادة ثورة أو انقلاب أو مكر سلطان، أو (مرتوقراطية) حيث يّدعي التسلط الأعلي من لهم الفضل والامتياز الثقافي والعملي الحكيم الذي يستغنون به عن الاخرين.
كل هذه النظم ظالمة سالبة لحق جمهور الناس الذين خلقهم الله وأباح لهم الحرية وتركهم يتداولون ويتشاورون يتخيرّون مَن يلي أمرهم نيابةً عنهم ووكالة أو يقررون أمرهم برأيهم المجمع عليه. ذلك هو هدي الإسلام قديماً وهو حق عزّزته حديثاً تجارب الشعوب الذين صرعوا الملوك إلا رموزاً والطغاة وكل المتحكمين فيهم وصاروا إلي حكم الشعب بالديمقراطية إما حكماً مباشراً عن استفتاء شامل أو غير مباشر نيابة لوكلاء الشعب يختارهم هو بعد العرض والجدال والتنافس .
والتشريع كله (تفصيل الشرع في الإسلام) وقرار النواب (في الغرب) هو حق النواب هم أهل الحل والعقد الذين يمثلون عامة الجمهور. فكيف يكون ذلك كذلك والدستور وهو الحكم الأعلي منه لتأسيسي لكل السلطان إلاّ أن يُجاز من نواب الشعب مشروعاً ومن الشعب من بعد استفتاء لازماً.
ولئن كانت ضرورة الانتظام دون الفوضي إذا سقط هذا النظام المستبد وخلفه أمر الثوار المتحالفون– لئن دعت تلك الضرورة للتوافق بينهم فوراً علي تسمية كل ولاة السلطة– للرئاسة أو للوزارة أو للتشريع، ليقوم السلام وتعمّ السكنية وينتظم الأمن والحكم والإدارة للازمة لمعالجة إصلاح القديم وتظهيره والاعداد للمستقبل المرجو– لئن دعت الضرورة لذلك فإن الدستور القادم ينبغي- كما هو أوفق– أن يُردّ أمره إلي الشعب لأنه أعظم أفعال السلطة، لا تحتكره عصبة الثوار ، لا سيما أنهم إذا فقدوا وحدة الصف في وجه العدو الظالم ستختلف رؤاهم في مصائر السودان الدستورية الأحكم حسب قراءة كلٍ منهم لتجارب الماضي المتقلّبة وعظاتها. وقد جاء في مشروع الدستور المؤقت أن ينعقد مؤتمر تشاوري دستوري ليقرّب الرؤي وليلطف الجدال والحوار ولتبرز بعض معان قد يجمع عليها الناس وتأتي برفق تلقاءً عند وضع الدستور.
– الأوفق أن يُهيأ المجال لانتخابات فيها ساحة جدال وحوار حي لكل القضايا الدستورية حتي يُعطي الشعب خيار النيابة لا عد قربي نسب ولا مجاملة تعارف بل لأن النائب يعرض الخيار الذي يوافق الناخب في مسائل الدستور . ولتقم بذلك “جمعية” (والأوفق أن تسمي الهيئة “مجلساً” لأنه اسم واسع المدي مثل مجلس النواب ومجلس الشعب ومجلس الأمة كما تجري المصطلحات في مجالس التشريع). والمجلس التأسيسي الأوُفق له ألاّ يُجيز مشروع الدستور بأغلبية بسيطة مثل التشريع العادي، فهو تأسيسي ذو خطر فلتكن إجازته بالثلثين أو أكثر. ولئلا يصبح مثل أوراق الدستور السابقة في تجارب السودان صفحات مجهولة مهملة حتي عند كثير من أهل القانون– لئلا يكون ذلك كذلك ينبغي أن يُطرح المشروع علي الشعب كله في استفتاء، إما إجمالياً أو فيه عرض لمجمل ما لا يختلف عليه كثيراً وعرض بين نصّين للخيار بين ما هو خلافي بالغ: دين أم لا دين، رئاسي أم مجلسي، اتحادي أم متمركز، القانون الذي يقيد أيما حرية شرطه أن يكون عادلاً كما يفصل القضاء في ميزان العدل بين الحق للفرد والمصلحة العامة أم شرطه القانون فقط بأغلبية أرجح من البسيطة. ولا بأس بنحو أربع خلافيات تحسم هي بلاستفتاء بعلامات الرأي لهذا الخيار أو ذاك حسبما تُبينه اختصاراً بطاقات التصويت. ولا بأس بلاستفتاء عن ذلك بشرط الأغلبية الراحجة جداً في المجلس ثم موافقة غالب المستَفتين: واحداً بعد النصف.