سناء حمد تكتب: حين يتحدّث القدر .. غياب ديبي والمتغيّرات
لم يكن “ادريس ديبي ” وهو يغادر قصره بعد ان أُبلغ بانتصار قواته بقيادة ابنه محمد على قوات “جبهة الوفاق من أجل التغيير” بقيادة “محمد مهدي علي” القادمة من ليبيا ، يظن ان هذه هي رحلته الأخيرة ..
…. وصل رفقة جنرالاته ليتفقد ساحة المعركة التي لم تنجلي بالكامل وليرى الأسرى ، وفي ارض المعركة ما زال هناك بقية مسلحين وجد احدهم امامه غنيمةً كبيرة ، الرجل الذي يطلبونه ، ولم يتردد فاطلق عليه النار فقتل بعض مرافقيه واصابه في زراعه فصادف شرياناً ، ولم تتوفر حينها الاسعافات اللازمة ، أُعيد الرئيس بمروحيته التي حضر بها ، لكن حين وصل قصره كان قد نزف ما يكفي لوفاته !! بهذه السرعة وهذه البساطة انطوت صفحة رئيس حكم لأكثر من ثلاثين عاماً في ليلة اعلانه لولايةٍ جديدة !!
لم يكن ” محمد مهدي” وهو يخرج من الجبال السوداء في الجنوب الليبي بعد ان منحه حفتر ما يزيد عن 400 سيارة ، يسعى الى أكثر من منح نفسه موقف تفاوضي معقول من خلال احداث زوبعة كبيرة في توقيت مهم فالرئيس على وشك اعلان فوزه بالانتخابات ، وهو ما سيكفل لمهدي الحصول على تسوية ينال بها وضعية داخل منظومة الحكم اسوةً برصفاء له سبقوه في هذا الطريق ،، لم يدر بخلد الرجل الذي لا يُعد قائداً بارزاً بين معارضي ديبي ولا حتى بين عشيرته القرعان يعلم انه على موعدٍ مع القدر !!
لقد دخل بقواته المحدودة العدد نسبياً ووجد الطريق امامه مفتوحاً ، فالقوات سريعة الحركة التي كانت تساند الرئيس وتنشر في المناطق الشمالية والغربية والتي تنتمي لمجموعات من بطون قبيلته الزغاوة ، كانت قد عبرت الى السودان بعد اتفاقية جوبا التي رعاها ديبي نفسه لاعادة موضعة نفسها وقياداتها في المشهد السياسي السوداني .
وجد مهدي نفسه على بعد ٣٠٠ كلم من العاصمة دون مقاومة ودون تدخل من القاعدة الفرنسية ! فالفرنسيون منشغلون بمشاكلهم الداخلية واقتصادهم المتهالك وانغماس حكومة ماكرون مع مشاكلها الداخلية المعقدّة ، سمع ابن الرئيس والقائد العسكري الشاب المتحمس لخلافة ابيه بتحركات مهدي ، فخرج مع قواته للتصدي لهم بعد ان قدّر انقطاع امدادهم وتوغلهم داخل الاراضي التشادية ، وبالفعل احدث فيهم خسائر مؤثرة وهزيمة كبيرة ..وحين ظن الجميع ان الامر انتهى ، هبطت طائرة الرئيس على قدر ..
في مسرح معركة لم يؤمن بعد ولم تستتب فيه الاوضاع …وبقدر ما فاجأ حضور الرئيس جنرالاته وأبنه بقدر ما تماسك أحدهم من الطرف الآخر واقتنص الهدف الثمين …
بين ليلة وضحاها تغيّرت قواعد اللعبة السياسية في تشاد ، لقد وقفت فرنسا على الحياد من حليفها ..لم تتدخل لانقاذه كما كانت تفعل دوماً ! مما اثار استفهامات واسئلة عديدة حول الاستراتيجية الفرنسية في المنطفة ؟ فهل تمت تفاهمات بينها و المعارضة FACT ، الذين ضمنوا لها مصالحها ، وطلبوا منها بالمقابل عدم التدخل في صراع داخلي ذو طابع قبلي طرفاه تحالف القرعان / التبو – وهم عشيرة من الطوارق ، كانوا حكاماً لتشاد من قبل – والقبائل العربية والتاما وبعض قيادات من الزغاوة السارا من جهة، بينما معظم عشائر وبطون الزغاوة في الجهةِ اخرى ؟ ، أم هل تراجعت فرنسا عن خطة سحب القبائل العربية البدويّة من غرب افريقيا للسودان عبر تمكين احد افراد هذه المجموعات العابرة للحدود من حكم الخرطوم ، حيث كان حميدتي خياراً ملائما وبذلك يتم التخلص من التهديد الذي تمثله هذه القبائل على المصالح والثقافة والنفوذ الفرنسي في غرب افريقيا ؟
واذا تراجعت فرنسا هل لضغط امريكي ام لان خطتها اثارت قلق دول الاقليم وهددت بحالة عدم استقرار واسعة ؟ ام أنها انتبهت الى ان خطتها في صناعة التحول الديمغرافي الشامل تتطلب أكثر من استخدام عبدالواحد نور لتضليل الفور ودفعهم للهجرة رَهباً ورَغباً من مناطقهم وحشرهم في معسكرات النازحين واحلال القادمين الجدد بدلاً عنهم ، وان المرحلة الثانية يصعب تنفيذها دون تكلفة باهظة ستؤلب عليها المجتمع الدولي والأقليني ؟
هل قررت فرنسا اللجوء للخطة (ب) بعد تدخل مصر ودعمها اللامحدود للجيش السوداني وتصريحها بعدم القبول بحميدتي كرجل اول بالسودان وتخوّف اثيوبيا واريتريا من خطتها ؟!! ، وهل سيكون تمكين القبائل العربية وحلفائهم الطوارق من تشاد ومن ثم سحبهم من الاقليم للتمركز فيها هو البديل المناسب ؟
ما هي انعاكسات المتغيّر التشادي الحالي والمتوقّع على السودان ؟ ودارفور ؟ هل يُتوَقَع أن تقف قوات حميدتي المكونة من عناصر قبلية من العرب والقرعان عابرة للحدود بنسبة لا تقل عن 50% مكتوفة الايدي تراقب هذا الصراع ؟! من يعرف حجم الولاء القبلي بالتأكيد سيجيب بالنفي !! هل سيترك الزغاوة بالسودان ( آل ديبّي) وحكم القبيلة المترابطة ينهار في تشاد ؟ بالقطع لا !! إذاً السؤال الذي يفرض نفسه هنا ، هل المعارك ستنحصر في التراب التشادي ؟ لقد تدافعت المعارضة المسلحة بفصائلها وقبائلها المختلفة للتجمع ضد مجلس ( محمد كاكا ) وبينها وانجمينا اقل من 100 كلم . وتشهد الحدود مع دارفور منذ الأمس تدافع عشائري لمساندة المجلس الانتقالي…ولكن هناك آخرون عبروا ذات الحدود والحدود الليبية لمساندة الطرف الآخر !! …
لقد ظلت مراكز ابحاث متخصصة ومفكرين وعلماء مستقبليات ينشرون خططاً وابحاثاً ومقالات عن مستقبل الشرق الاوسط ودول ما بعد الاستعمار ، ولعل ابرزها ورقه الدكتورة “كوندليزا رايس” في جامعة ييل 2008، التي تحدثت عن ما اسمته نظرية الفوضى الخلاقة ، وعن ضرورة اعادة تشكيل الخرائط الاستعمارية القديمة ، واعادة رسم الحدود على اسس جديدة ، وكتابات “برنارد لويس” بهذا الخصوص تعد الاشهر ، لكن بجانب هؤلاء كان هناك آخرون يبحثون في ما قبل انهيار الشرق الاوسط..ويقولون بأهمية أن يسبق ذلك صنع خارطة جديدة أكثر تجانساً في اطراف هذه المنطقة ومحيطها تكون قادرة على امتصاص ما يتوقع من اضطراب فيها ، وتقديري اننا الان في بداية هذه المرحلة زمنياً ونحن ضمنها جغرافياً .
لقد أعطى الانهيار المفاجئ لحكومة الانقاذ الوطني في السودان دفعة قوية لهذا المشروع ، الذي ما لبث ان تباطأ بسبب الاثار الكارثية التي تسبب فيها فايروس كرونا المتحوِّر على اقتصاديات الدول والمنظمات المنخرطة في هذا المشروع ، فهل مصرع الرئيس ديبي غير المتوقّع وما سيترتب عليه من صراع دامٍ في المنطقة سيعطي الدفعة اللازمة لهذه الخريطة الجديدة .
أن ما يجري في السودان و محيطه يتطلب درجةً من الوعي أكثر عمقاً و إنتباهةً اكثر نضجاً .
و ربما للمرة الأولى سينعكس ما يجري في انجمينا على الخرطوم ..الغارقة في ازماتها المنكفئةُ نخبها على سباق الحمير العبثي ، حتى يصبِّحها دفتردار جديد يصنْع واقعاً جديداً ، بأسرع مما يتخيل الجميع .