كاتب يتبني دعوة خطيرة لتقسيم السودان
حيدر التوم خليفة
———————–
لا احد يستطيع أن ينكر أن هناك واقعا جديدا يتشكل في رحم الدولة الام ، وان الزمن البيولوجي الداخلي للسودان يُعاد ضبطه ، وفقا لمعطيات جديدة ، ومفاهيم مفارقة لواقع الامس ، وان البلاد في طريقها الي التقسيم مهما تعامينا عن رؤية هذا الواقع أو إدراك أبعاده المتعاظمة يوميا ، ومن الواضح أن إتفاقية جوبا بدأت تطرح ثمارها ، وفقا لما اراده لها زارعوها ..
في فبراير 2020 نشرت مقالا بعنوان .. رسالة الي وفود المتفاوضين في جوبا .. حذرت فيها من ان سير المفاوضات آنذاك ، ينبئ بأنها ستتمخض عن اتفاق شائه معيب ، سيكون ضرره عظيماََ علي السودان اجمع ، وسيؤصل لكراهية متبادلة بين مكون دارفور والاخرين ، آي بين مواطنه المُرحب به في كل السودان ، بما فيها الشريط النيلي حتي أقصي الشمال ، وبين بقية مكونات الوطن ، وقد يؤدي ذلك إلي خلق تعقيدات تفرز واقعا جديدا ربما تقود إلي حرب عبثية تحرق الجميع .. وقد صدق ما توقعناه ..
فقد قُوبلت اتفاقية جوبا الدارفورية الدارفورية ، أو اتفاقية الزغاوة وعرب الماهرية ، (اتفاقية البقط الجديدة) ، قوبلت برفض عارم من جميع مناطق السودان الأخري ، بما فيها الكثير من مكونات دارفور نفسها ، بعد أن استبان لهم أن الاتفاقية عمدت الي حل مشكلة دارفور علي حساب المناطق الأخري ، بعد أن جرٌمت الجميع وحمٌلتهم مسئولية الحرب فيها ، مستثنية المكون الدارفوري الشريك الاصيل والفاعل الحقيقي في أحداث دارفور ، وبرأت المجرمين الحقيقين وهم الذين كانوا يجلسون علي مائدة التفاوض في جوبا ، من الجانبين ..
وقد بدأت آثارها السلبية في التداعي ، فقد اشتعل الشرق رافضا لها ولِما تمخض عنها من مسارات صورية ضعيفة مختلقة ، وهو الآن يقف فوق برميل بارود قابل للانفجار ، وتململ الشمال والوسط وباشرا حراكا كثيفا ، صحبته دعوات بضرورة التسلح وتكوين قوات درع الشمال ، وتعالت دعوات الانفصال ، ومبادرات وتنظيمات متنامية يوميا ، رافعة لمطلب الحكم الذاتي في الحد الأدنى ، والذي هو الخطوة الأولي للانفصال ، وفي جنوب كردفان بدأ الحلو في التمكين لدولة الجبال وجعلها واقعا ملموسا ، وهو أمر لا تخطئه العين الفاحصة ، أو البصيرة الثاقبة ..
وبدأ الناس في الشمال ، وهم الذين عُرِفوا علي مر التاريخ بتسامحهم وقبولهم للآخر ، مجاورا ومصاهرا ، يتخلون عن سلبيتهم وحسن نيتهم في كل وافد ، فقد استشعروا خطر الهجرة المنظمة والمقصودة للعنصر الغرب افريقي ، واستيطانهم لأرض الشمال في عملية إحلال ديمغرافي متعمد ومخطط له ، وتكرار تجربته في أرضهم ، بعد أن نجحت مساعيهم في الانزراع في وسط الجزيرة سابقا ، والذي قاد اخيرا الي بروز ما سُمي بمشكلة الكنابي ، والتي خلٌفت واقعا معقدا ، ادي الي بروز ما يمكن تسميته بالهامش الحضري ، وهو أعمق أثرا من الهامش الطرفي الحدودي ، بعد أن تنامت مطالبهم وشملت قسمة الارض ، وهو أمر عبٌر عنه الجنرال مني اركو مناوي عند مخاطبته سكان الجزيرة ، طالبا منهم التنازل لهم ومشاركتهم أرضهم ، من غير إدراك لحساسية وعمق المشكلة ، وما يمكن أن تحدثه مثل هذه الأقوال من ردود أفعال قوية عندما يتعلق الأمر بالارض وحيازتها ، فهو عندهم ، أمر دونه خرط القتاد ، فهل يستطيع أي شمالي اليوم الذهاب الي ارض الزغاوة أو دار مساليت أو الفور أو غيرهم ، مطالبا إياهم بالتنازل له عن قطعة أرض له ولو فدان واحد …؟
وهل لا يعلم مناوي أن حروب دارفور هي في الأصل حروب ارض وحيازات وحواكير ، وليست حروب هامش ومركز كما يشاع ، لأن السودان كله هامش ، إذا استثنينا الخرطوم ، وهي مدينة مبذولة للجميع ، وهو أمر وعي له سكانها الأصليون اليوم فبدأوا حراكا قويا لاسترجاع حقوقهم المهدرة باسم عاصمة البلاد ، وهو وضع يشابه وضع عرقية الارومو في إثيوبيا ، إذ تقع العاصمة أديس في قلب اقليمهم ولا يطالهم منها شي غير بيوت الصفيح ، فقاموا بثورتهم حفظا علي ارضهم وميراث جدودهم ، ومستقبل أبنائهم …
وهذا الأمر أدركه القائد عبد الواحد محمد نور مبكرا ، إذ علِم أن الصراع في دارفور يتمحور حول الارض وحدودها ، وارتباط ذلك وجوديا ببقاء القبيلة أو تشتتها في المنافي والمهَاجِر، لهذا فهو يُصر في كل مفاوضاته على أن حل مشكلة دارفور لا يتم إلا بعودة الأرض والحواكير إلي أهلها ، مع ضرورة إجلاء العنصر الوافد عن ارض الفور ..
ولكن كيف تطور الأمر من صراع علي الأرض الي صراع سياسي مطالبي ؟
مع دخول عنصر جديد ، ناتج عن الهجرات والتدافع السكاني عبر الحدود ، بدأ صراع الأرض يُعبِر عن نفسه سياسيا ، وذلك بعد أن تخفي وراء ألبسة جديدة ، ولبس رداءََ جديدا ، هو لباس صراع المركز والهامش ، وهو أمر أفرز مصطلحات جديدة ، هزت العلاقات الجدلية القائمة على المقبولية والاحترام المتبادل بين مكونات السودان من أدناه الي أقصاه ، ونقلت الصراع الي مرحلة جديدة تتباين عن سابقتها شكلا ومضمونا ، وذلك من تدافع علي الارض ، الي صراع إثنيات بكل موروثاته ، وإبعاده الثقافية والحضارية ..
وتطور الأمر بعد أن تلقفته بقايا الجيل الاول وأبناء الجيل الثاني الناشئ من مُهاجري غرب أفريقيا ، من دول تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطي ونيجيريا وغيرهم ، ممن استوطنوا السودان منذ جريمة الأحزاب في الستينات ، وتجنيسهم للأجانب بغرض الفوز الانتخابي ، مرورا بهجرات الجفاف الذي ضرب المنطقة عام 1984، وامتدادا لموجات النزوح الناتجة عن الحروب الأهلية التي شهدتها هذه الدول ..
إذ تحول الصراع من صراع محلي محصور حول الارض وحق المرور والرعي ، الي صراع سياسي مطالبي بين المركز وما يسمونه بالهامش ، يتحرك في فضاء تاريخي لظلومات بعضها حقيقي وأغلبها مُتوهم..
ومن الملاحظ أن العنصر الفاعل في ذلك ، كان أبناء المهاجرين الجدد ، اذ أن العديد من الذين تصدوا لقيادة هذا الصراع ليسوا من ملاك الارض ، لأنه لا جذور ممتدة لهم في هذه المنطقة ، وبالتالي لا اراضي للقبيلة يُدافع عنها داخل الإقليم ، وان حاول بعضهم أن يستظل بالقبيلة الممتدة المهاجرة عبر الحدود ، اي بالهوية القبلية ، وهي عندهم اقوي من الهوية الوطنية ، التي يُعبر عنها بالجنسية .. أو عبر اكتسابها مصاهرة من القبائل الأصيلة في الاقليم ..
لهذا نجد أن فاعل الصراع السياسي في الأغلب هو إما أحد أبناء جائلي الأرض ممن لا ارض لهم في دارفور ، أو ممن شرعوا السلاح لتأكيد هويتهم بالاستيلاء علي اراضي قبائل أخري بالقوة المسلحة ، مستغلين في الغالب حالات التداخل القبلي للاقليم مع الدول المجاورة ، وضعف الدولة أحياناً أخري ..
وقديما كان الصراع ، صراع مسارات ، واحتكاكات يمكن السيطرة عليها ضمن إطار الإدارة الأهلية العشائرية ، احتكاكات متفرقة ، تدور غالبا بين العرب الابالة الرٌُحل ، وبين المزارعين المستقرين ، ولكن الأمر بدأ في التغير والتبدل بحدة نتيجة لاثار وافرازات الجفاف الذي ضرب السودان في العام 1984 ، وظهور قبائل جائلة من عرب تشاد والنيجر ، إضافة إلي فقراء غرب أفريقيا من الزرقة ( وهو مصطلح اجترحه بعض مثقفي دارفور) الباحثين عن المأوي والكساء والغذاء وفرص العمل ، فتدفق الملايين منهم في هجرات متوالية الي دارفور ومنها الي باقي السودان ، وجلهم ونتيجة للفساد المستشري ، والمحاباة القبلية ، تحصل على الجنسية السودانية ، وصاروا الاعلي صوتا في العداء لسكان السودان الأصليين ..
وهذا الأمر استمر طيلة فترة الديمقراطية الثالثة ، وتقنن خلال فترة الإنقاذ ، فالعديد ممن يتصدرون المشهد السياسي اليوم ، وممن ينشطون إعلاميا في أجهزة الإعلام المختلفة ، وممن يبثون سمومهم بين أهل دارفور واهل النيل ، كما ذكرت آنفا ، هم من أبناء مهاجري تبدلات البيئة والغفلة والضياع ..
إن المتتبع للأحداث الماضية وسرعة جريانها ، وتقلباتها المتعددة ، يجد أن القاسم المشترك بينها ، هو تصاعد العداء والكراهية بين مكون الغرب ، وبين مكون النيل ، خاصة بعد حالة التوهان العسكري والسيولة الأمنية التي تلت الثورة ، والتي تبدت في دخول الحركات المسلحة بعتادها العسكري الثقيل الي داخل الخرطوم ، في خطوة تنافي اتفاقية جوبا المعطوبة ، وتشير إلي صدق ما كان متداولا عن اتفاق سري تم توقيعه بين حميدتي الماهري ، وبين حركات الزغاوة المسلحة ، فرع كوبي ، برعاية الرئيس التشادي السابق ادريس دبي ، والذي رمي وهدف الي إنهاء حكم الجلابة (كما يزعمون ) للسودان .. وهو زعم نفترض صحته ، إذ لم اي من الطرفين .
وهذا أمر له شواهد علي الارض ، فما زلنا نسترجع تصريح حميدتي الشهير بُعيد انتصار الثورة ، وقد اسكرته نشوة السلطة الزائفة بأن عمارات (الخرطوم دي لو دور فيها السلاح إلا يسكننها الكدسة) ، ومن ثم تصريح أخيه عبد الرحيم عن الخرطوم ، والذي تطاول فيه علي أهل مروي والخرطوم ، وادعائه بأن ، (الخرطوم دي ما بلد زول ) ، في تعدِِ وتحدِِ لكل الحقائق والتاريخ ، وهو الأمر الذي دفع بأبناء العاصمة وقبائلها المتعددة أن يهبوا لعقد الاجتماعات وتكثيف اللقاءات ، لتوحيد جهودهم ، وتنظيم أنفسهم للدفاع عن العرض والأرض ، بعد أن أحسوا بأن سوءا يُكاد لهم بليل .. فكان مؤتمر الفتيحاب ولقاء الكلاكلة ، واكيد سوف يتبع ذلك لقاءات ومؤتمرات أخري ..
كما أن التسيب الأمني ، وانتشار عصابات النقرز ، ومعظمهم اجانب ، والضعف الشرطي ، وغياب الأمن ، وتكدس العاصمة بجيوش الحركات المسلحة ، وتنامي الخطاب العدائي الاقصائي العنصري من جانب منسوبيها ، والتجييش الممنهج النفسي والعسكري ضد أبناء الوسط والشمال ، وتسميتهم بالجلابة ، وإسقاط كل فشل النخبة الدارفورية ، وإخفاقاتها ، وتحميل ذلك لأبناء سودان كوش ، بما فيها اوزار الحرب ، التي اغتني منها قادتهم ، واستفاد منها نخبتهم ، بل وتحميل انسان الشمال الذي استضافهم ورحب بهم واحسن استقبالهم ، كل جريرة سيئة ، مع تبرئة من شردهم وقتل اهلهم ، بل وضع أيديهم في يده ، من أجل الاقتصاص من انسان كوش المضياف ، كل هذا ترك جرحا غائرا في قلب هذا الإنسان لن يندمل بسهولة ، وهو أمر دفعه إلي أن يعيد حساباته وتقديراته ، بعد أن احس بالخطر الوجودي عليه ، في ظل حكومة خائرة عاجزة ، واستقطاب قبلي حاد ، ودولة منهارة مستباحة من الخارج الإقليمي والدولي ، وأجهزة استخبارات أجنبية دقت بيارقها علي مبني رئاسة الحكومة احتلالا للقرار ، وسلباََ للإرادة الوطنية ، لأنها من يدفع الرواتب والحوافز والمنح ورشاوي العمالة والارتزاق ، ( راجع تصريحات الرئيس البرهان الأخيرة حول هذا الأمر) ووجود مجموعات إثنية سودانية واجنبية غير منضبطة ، مترافقة مع خطاب سياسي عدائي وخطاب اجتماعي اقصائي .. كل هذا جعل السودان يقف علي برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة ..
وكلنا نذكر ذلك التسجيل الذي ظهر فيه الراحل خليل أو جبريل ( لم استبنه جيدا ، واظنه الراحل د. خليل) ، وهو يخاطب قوات الحلو ، ويدعوهم للالتقاء بهم في الخرطوم ، وعندها قام أحد الجنود بالرقص وهو يصيح ( عمارات خرطوم نكسروا) فرد عليه د. خليل بالقول ( عمارات خرطوم ما تكسروها شيلوها انتو) ..!!!
الأمر الذي يدعونا للتساؤل …
هل هذا منطق قائد وطني ينشد العدل والمساواة، والتي جعلها عنوانا لحركته ؟ ام شخص تدفعه أسباب أخري يستبطنها ، وتحفها الكراهية للاخر ؟!!!
ألم يكن من الواجب عليه ، إذا كان قائدا حقيقيا يؤمن بما يرفعه من شعارات ، أن يقول لهم أن هذه بيوت أناس شقوا فيها ، بعضهم قصد المنافي وبلاد الغربة لعشرات السنين ، مهملا الزوجة والابناء ، مفارقا للام والاب والاخ والعشيرة ، مفقودا عند الفرح والكره ، وذلك حتي يبني مسكنا يأويه واهله ، وبكل بساطة يأتي من يدعي العدل والمساواة محرضا إياهم بالاستيلاء عليها بكل بساطة ..!!!
بأي قانون ..؟ وبأي عدالة يطلق حكمه هذا ..؟ علما بأنه تربي وسط هؤلاء القوم وعاشرهم وناسبهم ..
أي إشارة يريد أن يوصلها هذا الشخص إلي مستمعيه ؟
وأي رسالة تلقاها أبناء السودان الآخرين خاصة أبناء الخرطوم ومُكوِن الوسط والشمال ؟
ولكن هل يظن هؤلاء أن الجلابة هم طيور نعام ، تحفهم الرخاوة والخنوع ..؟
ألم يخبروهم في ساحات الوغي صائلين جائلين في أحراش الجنوب ، بعيدا عن الدار والمسقط والمنبت ..؟
فما بالك إذ كان الأمر ، أمر دفاع عن الحق والأرض والعرض ، وإذ كان ميدان المعركة هو أرضهم التي ألفوها وخبروها وعاشوا فيها منذ الاف السنين ، والتي تحوي أجدادهم واسلافهم ، فما بال هؤلاء القوم لا يدركون ذلك ، خاصة وأن الكل مسلح ، بل السلاح على قفا من يشيل …؟
هل يريدون حربا لا تُبقي ولا تذر ، هم أول الخاسرين فيها إن شبت ؟
أليس المفارقة بالمعروف أكرم وانفع للجميع ، حفظا للنفوس وما تملك ، إذا استعصت المعاشرة بالحسني داخل الوطن الواحد ؟
واذا كان هذا حديث قائد أكبر حركة متمردة ، فما بالك بمن هو دونه من جنود واتباع ..؟!!
إن مثل هذا الحديث هو الذي أطر لخطاب الكراهية الذي يعلو اليوم ويسود بين بعض أبناء دارفور وبين غيرهم ..
والعجيب أن ذات الخطاب ما زال سائدا ، بل ومن قادة دارفوريين كبار .. ولكن من الإنصاف أن نذكر أن هناك أصواتا دارفورية عاقلة حكيمة ، أدركت خطورة الوضع وابعاده فتنادت لنبذ خطاب العنصرية ، وعابت علي النشطاء الإعلاميين والقادة السياسيين الدارفوريين هذ المسلك الشائن .. حتي وان كان رفضهم نابع من معارضتهم لاتفاقية جوبا ، والتي هم أول من إستشعر خطرها عليهم ، بعد إدراكهم أنها تجعل من كل دارفور غنيمة لدي مُكون قبلي واحد .. وهو أمر سوف يكون له نتائج كارثية عليهم في حال انفصلت دارفور مستقبلا ..
من الواضح أن خطاب الكراهية قد بلغ مداه بين الطرفين ، وان الأمور تذهب الي الأسوأ ، وان التعبئة والتجييش قد بلغ حدا. لا يمكن تصوره ، وأحدث شرخا وكسرا يصعب بل ويستحيل جبره ، وان ما كان مهموسا به ومن المحظورات والمحرمات ، صار يُقال بالصوت العالي الجهير وعلي المنابر ، بل وصار مطلبا ورأياََ جمعيا يكتسب زخما وأنصارا كل يوم .. خاصة بعد أن اتضح أن الأمور لو تركت الي ما هي عليه اليوم سوف تقود الي حرب أهلية إثنية تنتظم السودان كله ، من أقصاه إلي أدناه ، حرب لا تبقي ولا تذر ..
وكل هذا ترافق مع اضمحلال خطاب الوحدة والوطن الواحد ، وتعالت النقاشات والتحليلات والغوص في التاريخ واستنطاق أحداثه ، فعندها أدرك أهل السودان أن دولتهم دولة صنعها البريطانيون ، وعلموا ان دارفور كانت دولة قائمة بذاتها ، دولة أسقطها البريطانيون وضموها للسودان عام 1916 ، وأدركوا ان انشودة جدودنا زمان وصونا علي الوطن ، ما هي إلا تهويمات شاعر ، لأن لا احد من جدودنا كان له باع في صناعة دولة السودان ، أو وضع حدودها ، وترافق ذلك مع ثورة الوعي التي انتظمت قراءةََ ومراجعةََ لتاريخ السودان خاصة فترة المهدية ، قد أزالت القداسة الزائفة عنها ، وعرتها وجعلتها مادة للدراسة والنقد والمراجعة .. وبالتالي لا احد لديه الرغبة في الدفاع عن دولة مصطنعة ، وبلدِِ مُخلق ، وان عوامل تفتته أكثر من عوامل وحدته ، وهنا أعني الوحدة الثقافية وما تحويه من عادات وتقاليد وقيم ..
أن الاصرار علي الاحتفاظ بالسودان بحالته الراهنة كالاصرار علي الجمع بين الشحم والنار ، مع توقع أن لا يصيب الشحم شئ ..
إن أمر وحدة السودان أو تقسيمه ، هو شئ يهم السودانيين جميعا ، لهذا يجب مناقشته في الهواء الطلق ، ومن حق الجميع أن يشارك فيه بالراي والمقترح .. فنحن بلد متعدد الاعراق والاثنيات والثقافات ، وللاسف كلها عوامل فرقة ، وليست عوامل تنوع في وحدة .. ليس لفشلنا في إدارة التنوع المثمر ، ولكن لعمق الاختلافات الداخلية والتباينات الثقافية ، والاسقاطات النفسية المتبادلة ، والايادي الخارجية الطامعة ..
ولننظر الي الجارة إثيوبيا وما يدور فيها من أحداث مؤسفة… وكنت قبل حوالي خمس سنوات قد تنبأت بحرب أهلية دامية فيها ، وبان التقسيم العرقي هو مصيرها ، وحالها مشابه لحال السودان ، واليوم معظم أجزائها يشتعل بالحروب الدامية ، وهي حروب استئصالية بمعني الكلمة ، وتتخذ في بعضها طابع الإبادة الجماعية ، هذا رغما عن أن الدستور الاثيوبي قنن للوضع الفيدرالي بدرجة تقترب من الوضع الكونفدرالي ذو الدول المتعددة في اتحاد واحد ، ولكن عبث أبي أحمد بالدستور ، وإصراره علي عودة مركزية الدولة ، عجل بعودة الحرب الأهلية إليها ..
وهنا ما تذكرت أفعال وقرارات السيد اركو مناوي حاكم دارفور ( الذي أحييه عليها) إلا وتدافعت امامي صورُُ لصراع متوقع بينه وبين المركز ، وقد يتطور الي صراع عسكري إذا لم يتم تأطيره ضمن خيار الدولتين ..
واري أن مناوي أكثرهم صدقا مع نفسه ، إذ يري استحالة ارتهان السودان الكبير وحكمه لقبيلة واحدة ، وان ظروف السودان السياسية والجعرافية والديمغرافية هى أكثر تعقيداً مما يظن الكثيرون ، لهذا فهو يعمل علي خدمة خطه وأهدافه من منطلق واقعي بحت ، إذ يري أن الاستقلال بدارفور هو اقصي ما يمكن تحقيقه ، وان الطريق إلي ذلك وتجاوز عقبة الرافضين له من أهل الشمال ، لا يتأتي إلا بأحداث تهديد حقيقي للشمال بنقل الحرب إليه ، في داخل المركز ،، في حال إصرار الشمال على استمرار دارفور جزءا من السودان الكبير ، مما يجعل الشمال يزعن لمبدأ التقسيم واستقلال دارفور ، وهو تخطيط ذكي ، ولكن فاته أن أهل الشمال لا اطماع لهم في الاحتفاظ بدارفور عنوة ، وان الرأي الجمعي يذهب الي مباركة اختيارها ، إذا قررت الانفصال ، فقد سئموا الحروب وويلاتها ، وهم علي وعي تام بما يحدث وما يمكن أن تؤول إليه الأحداث ..
وأري أن إتفاقية جوبا صُممت لخدمة خط الإنفصال خلال عشر سنوات ، وان المكاسب التي تحصل عليها أبناء دارفور ومضمنة في الاتفاقية ، إن هي الا خطة لإعداد دولة دار السلام المستقبلية ..
مثلا ، إن الإصرار علي أن تنال دارفور ٤٠ % من الخدمة المدنية ما هو إلا تخطيط مُسبق لإعداد الكادر الإداري الذي سيقود الخدمة المدنية فيها ، حتي لا يحدث فراغ اداري يؤدي إلى إنهيار الدولة الوليدة ، مع تأكيدي علي أن جيوش الحركات لن يتم تذويبها في داخل الجيش الوطني ، لأنها الحارسة لخطوات الإنفصال …
أما الدعم السنوي والبالغ 750 مليون دولار فيهدف إلي تشييد البني التحتية ومرتكزات الدولة المستقبلية ، حتي إذا انفصلت الدولة تجد بنيََ وأرضية صلبة تنطلق منها ..
ولكن نقول أن لا احد في الشمال يريد تكرار التجربة الإثيوبية ، والتي يتيح دستورها لكل إقليم حق الانفصال عن الدولة الام ، ولكن المركز يقاتل من يفعل ذلك ..
اذ أن فشل الفيدرالية الإثيوبية في إدارة التنوع العرقي فيها ، قاد إلي الحرب الأهلية التي تحتاجها اليوم ، وهو ذات المتوقع للسودان حتي ولو إنتظمت أقاليم السودان في اتحاد دولي كونفدرالي ، فالمطالب المناطقية اليوم متصاعدة ، وثقافة عدم الترحيب بالآخر وقبوله في نمو مضطرد ، والارتداد إلي القبيلة هو السمة الغالبة في الفعل السياسي ..
لهذا ، حقنا للدماء ، وحفظا لمكتسبات المواطن في أي جزء من السودان ، وحمايةََ للممتلكات العامة والخاصة ، اري ان ينتظم السودان حوارُُ مفتوح عن مستقبله ، وان يشارك فيه الجميع ، وان لا يُترك للنخبة ، والمُنظٌرِين ، والحالمين ، والعاطفيين ، اي أن تكون الغلبة فيه للواقعيين ، أهل الرأي الفاحص ، من منطلقات الربح والخسارة التي تعود على المواطن ، عزة وكرامة وامنا وسلاما ، وحياة رغدة رخية في كل أجزائه .. وان لا تقود هلاويس الماضي ، أو عشق التاريخ المزور المصنوع ، أو امال المستقبل الهش .. أجندتها أو تؤثر علي خياراتها ..
يجب علي المهموس به أن يُجهر به ، لأننا أمام خيارات صعبة ، واختيارات موجعة مؤلمة للبعض ، فبالنظر الي واقعنا اليوم ، استطيع ان اقول وعلي درجة عالية من الموثوقية أن التقسيم واقع واقع ، إن لم يكن سِلما ، فحربا .. آي إن لم يكن بأيدينا سِلما ، فبأيدي الآخرين حرباً ، تخطيطاََ ورعاية وتمويلا .. فثروات السودان اليوم تقام عليها المزادات جهاراً نهارا ، وللأسف أن من يمسك الجرس ويقرعه هم بعض أبنائه ..
لهذا أمامنا تجربتان متضادتان انجبتا نفس المولود ..
اولهما تجربة الاتحاد السوفيتي في التقسيم السلمي ، وفك الارتباط بدوله ، اي مكونات الدولة الاتحادية ، وما تمخض عنه ذلك من دول مستقلة سِلما ، أرتادت اليوم آفاق التنمية البشرية والاقتصادية ، وبعضها يؤسس لاقتصاديات مستقبلية عملاقة ..
وثانيهما تجربة يوغسلافيا في التقسيم المر المكلف ، المدمر للإنسان والمكان ، مترافقا ذلك مع إقتتال كارثي ، والذي تمخض بعد سنوات من الاحتراب والتصفيات العرقية ، عن مجموعة دول تعيش اليوم في سلام وجوار ، ولكن بعد إقتتال إعادهم اعوام الي الوراء ، وحرب عرقيات عبثية كان يمكن تفاديها ..
لهذا علينا أن نختار بين الخيارات الثلاثة الآتية ..
… العيش في وطن واحد ، بلا أحقاد ، فيه يُحترم الإنسان وتصان كرامته ، ويُعلي من إنسانيته ، في سلام وأمن واطمئنان ، وهو شئ يكذبه الواقع والمثال ، فهو رابع المستحيلات ، كالغول والعنقاء والخل الوفي .. لأن الصراع انتقل من صراع علي مسارات الأرض ، الي صراع سياسي حول أنصبة الإقليم في السلطة والثروة ، الي متلازمة ثقافية قيمية ، اي صراع ثقافي مدمر للهوية ، متجاوز للحدود ، قاطن في النفوس ومتمكن منها تماما ، وهي حالة مركوزة في الدواخل لا يمكن الفكاك منها إلا بالبتر الكامل ..
… التقسيم بالحسني أو الإيجابي اي وفقا للمثال السوفيتي ، وهنا الكل رابح ..
… التقسيم المر أو السلبي ، وما يصحبه من دمار وتقتيل وفقا للأنموذج اليوغسلافي ، وهنا الكل خاسر ..
انا لا اخفي تأييدي لفكرة التقسيم ، ليس حبا فيه ، أو كراهية لمكون عرقي ، ولكن انطلاقا من موقع عقلاني يُعظِم الإنسان ، ويدعو لصون كرامته ، ويري حرمة دمه سواء في دارفور أو الوسط أو الشمال ، أو أي جهة كانت ، فإن دماء انسان دارفور ليست بارخص من دماء غيره ، فهو عندي كالاخرين يستحق العيش الرغيد والحياة الكريمة ، وان تصان حقوقه في الاختيار ، في كيف يُحكم ، ومن يحكمه ..
وثانيا لأنني اري ان الفتق اكبر من الراتق ، وان الصراع انتقل من الأرض الي الإنسان ، وهو شئ يؤسف له ، لان الحياة أقيمُ من اهدارها فيما لا يفيد ، وأقصرُ من تبديدها في حروب عبثية ، وأعظمُ من أن تُترك لاصحاب الاحلام الوردية ، وأصحاب الفرضيات المفارقة للواقع ، الغير قابلة للتطبيق ، وأصحاب الغرض ، ومعدومي الضمير من السذج والعملاء المأجورين ..
ولهم اقول ، كفاكم تحكما في رقاب الناس ، فأنتم لستم بأوصياء عليهم ، ولستم بأفضل من الآخرين ولا اعقل ، حتي تقرروا لهم مصائرهم .. وجلكم تجار حروب ، وسماسرة دماء ..
فمن يري سعادته في قتل الآخرين فهو ليس بإنسان ، بل حيوان مكانه الغاب وقانونه..
ومن يظن أهميته وازدياد اعداد النجوم الزائفة على كتفه تأتي من سحق البسطاء فهو مخدوع ..
ومن يريد بناء مجده الزائل علي أشلاء الابرياء ، فهو مجرم لا يستحق الحياة ، فإن الخراب لا يصنع حاضرا ، والدمار لا يؤسس لمستقبل زاهي واعد …
أيها المرضي المتبطلون ، عملاء الخارج ، كُناس الداخل أعطوا الناس حرياتهم ، دعوهم يتنفسون.