المسرح القومي السوداني في “العناية الفائقة”
من الصعب أن يصدق أحد أن هذا المبنى الذي بات مهجوراً وآيلاً للسقوط هو مقر المسرح القومي السوداني، بكل ما يحمله من رمزية ثقافية، وتزداد الدهشة عندما نعلم أنه استضاف في ستينيات القرن الماضي كوكب الشرق أم كلثوم مرتدية الثوب السوداني القومي التقليدي، كما غنت على خشبته أعرق فرق الجاز الأميركية، وأفرز أبرز آباء المسرح السوداني وعمالقته مثل الفكي عبدالرحمن ومكي سناده وآخرين، كما سبق له استضافة اللجنة الدولية للمسرح التي تحدث للمرة الأولى على مستوى القارة الأفريقية قبل سبع سنوات في 2015.
إهمال وتردي
وبعد كل هذا الألق التاريخي والرصيد من العطاء، تكفي زيارة خاطفة إلى المبنى العتيق المطل على نهر النيل جوار مبنى التلفزيون القومي مهد بواكير ميلاد الحركة المسرحية بالسودان، لتكشف مدى حجم الإهمال والتردي بسبب غياب يد الصيانة الدورية عنه لسنوات عدة، وتوقف دعم الدولة له طوال عهد حكومة الرئيس المخلوع البشير.
تسبب تراكم سنوات الإهمال الذي عانى منه المسرح بطبيعته الصيفية المفتوحة في وصول مياه الأمطار إلى داخل الغرف منذ حوالى 17 سنة متتالية من دون تدخل، مما أدى إلى امتلاء وتشرب كل المكان بالمياه حتى المولد الكهربائي العتيق غرق هو أيضاً، فضلاً عن كثير من المعدات المسرحية الرئيسة والمساعدة منها.
وتحول المبنى الذي يتسع إلى 2500 متفرج إلى حوش مهجور تشربت أساساته بالمياه وتهدد بانهياره الكامل، ولا تزال بصمات مياه أمطار الخريف العام الماضي التي غمرته تكسو ملامح المبنى، وقد نخرت عميقاً في بنيته وضربت قوامه المتصدع المهجور.
محاولات فاشلة
محاولات خجولة يائسة لإعادة تأهيل المسرح القومي بدأت بعد سقوط نظام البشير قبل عامين من خلال جهد مشترك بين وزارة الثقافة والإعلام والبنى التحتية والشؤون الهندسية بولاية الخرطوم على صيانة المسرح القومي لم يكتب لها النجاح، ولم تفلح حتى في تحسين التصريف وحماية المبنى من وصول مياه الأمطار في فصل الخريف التي وصلت حتى غرفة الستارة، وهو وضع وصفه العديد من المسرحيين والممثلين والمهتمين جعل المسرح بوضعه الحالي لا يصلح لإقامة أية أنشطة أو فعاليات مسرحية.
في المقابل، أعلنت حكومة ولاية الخرطوم أكثر من مرة مشروعاً لصيانة المسرح لكنه لم ير النور أبداً بسبب عدم توفر الأموال اللازمة لذلك.
وفي سياق متصل يبدي مدير المسرح القومي عبدالله الشماس في حديثه إلى “اندبندنت عربية” أسفه الشديد للوضع المؤلم ومرحلة الانهيار التام التي وصلت اليها البنى التحتية للمسرح، مطلقاً صرخة كبرى لإنقاذ هذا الصرح الآيل للسقوط في أية لحظة بعد وصول ارتفاع المياه داخله إلى مستوى يقارب المترين مع انسداد كل قنوات التصريف للتخلص من المياه.
تدمير مقصود
يوضح الشماس أن الدولة لم تعر مشروع صيانة المسرح وإنقاذه أي اهتمام يذكر، على رغم مبادرات بعض الجهات رغبتها في صيانته على رأسها “منظمة يونيسكو”، بخاصة بعد تصنيف مبانيه كمبان أثرية، فضلاً عن مبادرة جامعة أم درمان الإسلامية.
ويضيف مدير المسرح أنه “منذ افتتاح المسرح القومي من قبل الرئيس الفريق إبراهيم عبود عام 1959 أهملت كل الحكومات المتعاقبة الصيانة الدورية للمبنى، وما فاقم الوضع سوءاً إنشاء مبان جديدة خلف المسرح أغلقت مجاري تصريف مياه الأمطار من المسرح، وأصبحت تتمركز داخل المبنى لانعدام وجود مصارف أخرى”.
ويكشف الشماس أن سياسات فترة حكم البشير، عمدت تمكين القبح خصماً على الجمال بتوقف كل دور المشاهدات والعروض والسينما بفعل واع مع سبق الإصرار والترصد لتدمير كل المساحات الثقافية، وكان المسرح القومي أحد ضحايا تلك السياسات بعد إسهامات تاريخية فاعلة ومواسم مسرحية متواترة مدفوعة من الدولة، “لكن للأسف تم سحب تلك الموازنات وتحول المسرح إلى دار للعرض فقط، مما أفقده تواصله مع الساحة الثقافية في بلد تتميز بالتنوع والتعدد”.
أسف ونداء
من جهة ثانية، حمل الفنان المسرحي على مهدي سفير “يونيسف” للسلام ورئيس المسرح الوطني، الدولة مسؤولية انهيار المسرح الذي لم يعد يصلح، مشيراً إلى أن وزارة الثقافة والإعلام لا تملك المال وليست لها موازنة مخصصة للبنى التحتية الثقافية، وكان بالإمكان اعتباره ضمن تنمية البنيات التحتية القومية لو كان اهتماماً فعلياً بالمسرح.
ويشير مهدي إلى أنه للمرة الأولى في تاريخ المهرجان سيقام في مكان آخر غير المسرح القومي، إذ بعد زيارة مقر المسرح القومي “وجدنا وضعاً بائساً ومحزناً، لا يصلح للعرض، مما اضطرنا للبحث عن موقع آخر لاستضافة للمهرجان المتوقع قيامه في شهر مارس (آذار) المقبل، وكان مهرجان البقعة السنوي يحقق بعض الإضافات الجديدة في المبنى ويعيد إليه بعض الحركة والنشاط”.
ويدعو مدير مسرح البقعة كل السلطات الرسمية على أعلى المستويات والجمهور من الداخل والخارج للإسهام في إعادة تشييد هذا الصرح العتيق، مطالباً بتشكيل لجنة وطنية عليا لإنقاذ وإعادة بناء هذا الصرح.
مسرح جديد
ويتحدث مهدي بحسرة عن الحال المحزن الذي بلغه المسرح القومي “أنا ابن المسرح ترعرعت فيه، ومنه ذهبت إلى معهد الموسيقى والمسرح، كان صرحاً حافلاً بالمواسم المسرحية، وشهد أيام عنفوانه في الربع الأول من ستينيات القرن الماضي وأحداثاً وأعمالاً ثقافية كبيرة”.
ويوضح أن المطالبة بإعادة تأهيل مبنى المسرح لم تعد مجدية بالنسبة إلى حجم التدهور الذي بلغه، بل إن المطلوب هو تبني مشروع متكامل لإعادة تشييده بما يليق بتاريخه ودوره في الحياة الثقافية السودانية على أسس جديدة، بخاصة بعد فشل عدة محاولات بواسطة حكومة محلية امدرمان في إنقاذه أو إعادة تأهيله.
البدايات
وتعود بدايات العمل المسرحي في السودان لعام 1902، ويرجح أن مسرحية “نكتوت” كانت الأولى التي عرضت للكاتب السوداني عبدالقادر مختار، وفي الفترة ما بين 1903 حتى 1915 كانت هناك محاولات للتأليف المسرحي بواسطة إبراهيم العبادي في روايته “المك نمر” وفي عام 1918 كوّن نادي الخريجين مجموعة مسرحية باسم جماعة صديق فريد للمسرح، وافتتح المسرح القومي السوداني بواسطة الرئيس الفريق إبراهيم عبود رسمياً عام 1959.