عبد الحفيظ مريود يكتب: على ياسين
بدون زعل
لم يكن هناك ما يوحي بأن لهذا الرجل سلطة في المكان.. المكان كان مطبخ بيت حكومي متهالك بشارع الجامعة، الخرطوم. المطبخ – على اتساعه النسبي – يظل مطبخاً.. ما يزال يحتفظ بحوض غسيل الأواني، السطح المخصص للتجهيزات.. كان ثمة شباب وسيمون، عماد أبو شامة، مهيد بخاري، فائزة الصديق، منال، عواطف محجوب، عبد المنعم، إنعام عبد الرحيم.. وذلك قبل أن ينضم إليهم معاذ منصور، سمية الشيخ، عادل فضل المولى.. وثمة كان عماد البليك.. وفارس، الكاركتيرست.
حين عتبت المطبخ، قاصداً إسحق أحمد فضل الله، بدا لي أن إسحق هو المسؤول هنا، بحكم السن، والصيت، والوقار، لكن بعد فترة عرفت أن المسؤول هنا، هو الشاب القمحي، القصير، الأكثر وسامة بينهم، الهادئ، الذي لا يكاد يضع لنفسه أهمية.. على محمد يس، أو علي يس.
شايف كيف؟
استأثرت الأقسام ذات الأهمية على غرف وصوالين المنزل الحكومي.. الأخبار، التحقيقات، العالمية، مدير التحرير، رئيس التحرير.. تركوا المطبخ، الذي يطل على فناء خلفي لقسم الثقافة والمنوعات. بعد أن نشر لي قصتين قصيرتين، وبعض المواد، والشعر، عرض على – بلطفه الفائق، الذي لم يفارقه، قط – أن أنضم إليهم متعاوناً، نظير أجر شهري هو خمس جنيهات، فوافقت..
يوما بعد يوم، أتعرف على الأستاذ علي يس.
تنحدر أصوله من “أرقو” بالولاية الشمالية، ينتسب إلى الجعافرة.. الذين يربطون نفسهم بجعفر بن أبي طالب..
في الريف الشمالي لمدينة بحري، استقرت أسرته. في أم القرى. ثمة شيء جوهري سام، سامق، متعال يبعده عن الدنية من القول والفعل.. الاعتقاد والإضمار.. شيء يشبه خصال السادة آل البيت.. مع تواضع مهول يجعلك تعتقد أنه يمكنك أن تأكل وتمسح يدك بثوبه.. ولو فعلت ذلك لما لأمك ولا عاتبك.. لكنك لا تجرؤ على فعله، ذلك أن ثمة هيبة تحيط به.. هالة من النور الإلهي تجعلك تجل هذا الشخص المتواضع المهيب..
شايف كيف؟
درس الأشعة بكلية الأشعة بمعهد الكليات التكنولوجية. ودرس اللغة العربية بجامعة القاهرة فرع الخرطوم.. لكنه لم يكمل، لغوي بطبعه، صحيح المعرفة بالعربية، فقيه فيها، شاعر نحات يفترع طرقه ويشق الوهاد والأجمات، لا يقتفي أثر أحد.. يعتبر مصطفى سند أستاذه، ومصطفى طيب الأسماء، وغيرهم.. عبد الله الشيخ البشير الذي لا يتغالط فيه اثنان.. على أن عليا بن ياسين لا يقدم نفسه لأحد، لجهة، لا يدعي شيئاً، ولا يفرض شاعريته.. لا يتعمد روافع أيديولوجية، سياسية، جهوية، قبلية، أو غيرها، ليصعد إلى مكان ما..
يفتح ذراعيه للشباب الموهوب، لا ينطوي على نزعات أبوية.. يتبناهم وينشر قصائدهم بلا أستاذية: محي الدين خليفة، روضة الحاج، محمد الصادق الحاج، محمد الأمين، أبو عاقلة إدريس أبو عاقلة، نازك يس، والكثيرين غيرهم..
وهو إلى ذلك قصاص من الطراز الأول. واسع الخيال، ساخر المعالجات، يتبنى نشر كتابات القصاصين الشباب: عماد البليك، مهيد بخاري، عادل فضل المولى، محي الدين خليفة، والكثيرين غيرهم.. لا تأخذه حساسيات، وساوس وأحقاد المشرفين على الملفات الثقافية، أن يأتى أحد يبزهم.. يسحب البساط منهم، بل العكس تماماً.. يبسط للقادمين الجدد فرش المحبة ويوقد قناديل الحفاوة..
شايف كيف؟
يجلس حيث انتهى به المجلس.. لا يتصدر الناس في شيء.. حين يتحدثون أمامه، يصغي كأنه يسمع الكلام لأول مرة في الوقت الذي تكون معرفته بالموضوع أضعاف معرفة المتحدث، لا يبدي له أنه يعرف عن الموضوع شيئاً، ولا يستخف بمعارف أحد..
يركب المواصلات العامة، منذ عرفته.. قرابة الثلاثين عاماً.. لا يزاحم الناس في الحطام: مناصب، ألقاب، منصات، مال، جاه، سلطان، منابر وغيرها..
حاضر البديهة، يحب النكتة ويطرب لها.. يحب محمد وردي، ويغني أغنياته، حين يكون في مزاج رايق، وقلما يعكر صفوه شيء، إلا الشديد القوي..
شايف كيف؟
إذا كتب المقال، فإن عليك أن تتعلم، صامتاً متى يضع الفاصلة، النفطة، الجملة الاعتراضية.. متى يسترسل ومتى يقتضب.. في مكتبه، مطبخ جريدة الإنقاذ الوطني، يقابل أطيافا من الناس، ممن يكتبون الإستراحات على الصفحة الأخيرة، أنصاف الموهوبين في الشعر والقصة، الأدعياء، بلا كلل أو ملل.. كنت أندهش – ربما بحكم الشباب – كيف له أن يقابل كل هؤلاء ويسمع إليهم…
في الحياة اليومية، في الأنصبة، يأخذ ما تعطيه على استحياء، بحسب تصنيف الفيتوري، قدس الله سره.. مثل متصوف عميق اليقين، صافي السريرة، ينظر بنور الله، مؤيد ومسدد.. لا يشكو ولا يتذمر.. عزيز النفس، مترفع عن الصغائر..
شايف كيف؟
هل أقول علمني شيئاً؟
ذاك سوء أدب… أقتفي ظله الوارف منذ ثلاثين عاماً، وأقتبس من أنواره الجهيرة، وهو الذي يتواضع أن يقول إنه أستاذ أحد.. العاقل من يتعلم منه كل شيء، حتى صمته العارف المستيقن..
محباتي، وافر امتناني، زهوي، قبعتي المرفوعة، عمامتي التي لا أطويها في حضرتك، سفنجتي المخلوعة، اعتزازي، مودتي الباذخة، لك يا سيدي الأستاذ.