العبيد أحمد مروح يكتب..شركاء لا عملاء !!
(١)
لا يختلف محللان في كون “الخارج” كان صاحب نصيب وافر في الإجهاز على نظام الإنقاذ. معارضو الإنقاذ ممن استعانوا بهذا الخارج يقرون بذلك، بل بعضهم يفخرون، وأهل الإنقاذ يقرون به أيضاً، مع اعتراف الجانبين أن ذلك ليس هو السبب الوحيد الذي أدى لسقوط النظام.
لكن الذي يختلف عليه الطرفان – نظام الإنقاذ وخصومه – هو حجم الدور الذي لعبه “الخارج” ، فخصوم الإنقاذ يقولون إن دور الخارج لم يتعدّ الاستعانة والدعم السياسي والإعلامي، بينما يرى أهل الإنقاذ أن الخارج لم يدخر وسعاً لمحاربة نظامهم، إبتداءً من الدعم العسكري المباشر للمجموعات المسلحة المعارضة إلى الدعم السياسي والإعلامي مروراً بالحصار الإقتصادي والتكنولوجي والعزل الدبلوماسي للنظام.
(٢)
أحد المؤشرات المهمة في الاقتراب من الإجابة الدقيقة على سؤال “حجم الدور الذي لعبه الخارج” هو فحص الدور الذي يقوم به “الخارج” الآن في إدارة الفترة الإنتقالية ومدى تحكمه في التوجهات الرئيسية لهذه الفترة ، لكن دعونا قبل هذا الفحص نحاول التعرف على “الخارج” الذي نتحدث عنه.
ليس سراً أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف على رأس هذا الخارج، فجميع الإدارات الأمريكية التي تعاقبت على واشنطن منذ العام ١٩٩٠ كانت تعتبر أن النظام في الخرطوم “نظام مارق” وكانت تتخذ حياله من السياسات ما يرمي لتفكبك قبضته على السلطة بغرض ترويضه أو الإطاحة به، وقد استخدمت في ذلك، كما أشرنا، كل أشكال وأساليب الإضعاف. وبجوار الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقف دائماً حليفاتها الغربية بدرجات متفاوتة وتحديداً بريطانيا وفرنسا وهولندا.
وفي مؤشر يعلو ويهبط كانت تقف في قأئمة الخارج أيضاً دول جوار السودان وبعض القوى الإقليمية، ولأغراض هذا المقال سيكون من المناسب أن نسمي منها كلاً من مصر و السعودية والإمارات وإسرائيل.
(٣)
منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الإنقاذ، برز الدور الكبير الذي يلعبه سفراء ما أصبح يُعرف لاحقاً ب “الرباعية الدولية” في إدارة المشهد السوداني والتحكم في مخرجاته، وبقليل من الاستعانة بمحركات البحث يمكن للمرء أن يضع أمامه رِزماً من الأخبار والتقارير المنشورة في مختلف وسائل الإعلام عن تحركات القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم وسفراء كل من بريطانيا والسعودية والإمارات، تحكي كلها كيف أن سفراء هذه المجموعة، وبمجرد سقوط النظام، تجاوزوا كل عرف دبلوماسي معمول به بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتوغلوا في تفاصيل التفاصيل الخاصة بحِراك وعلاقات القوى الحاكمة التي تولت السلطة والقوى السياسية الأخرى !!
وما من شك في أن مَن يفعل ذلك، لا يعتبر نفسه ضيفاً يتصرف وفق مقتضى العرف الدبلوماسي بل هو يعرف ويثق في أنه صاحب حق وشريك في التغيير الذي حدث في أبريل ٢٠١٩م ، ومن الطبيعي أن يتصرف وفق مقتضى نصيبه من تلك الشراكة !!
مَن يتابع تحركات سفراء الرباعية ، والتي حلّت بديلاً للترويكا المكونة من الولايات المتحدة والنرويج وبريطانيا، ويتابع كذلك ما يصدر من عواصمها حيال الأوضاع في السودان، ثمّ يتأمل في تشكلات المشهد السوداني خلال المحطات الأساسية للفترة الإنتقالية، سيصل إلى نتيجة موضوعية مفادها أن نصيب الداخل من القرار الوطني كان دون ال(٥٠%) ، وأن السمة الغالبة للقرارات المفصلية التي تمّ اتخاذها هو أنها تخدم أجندة الخارج بأكثر مما تخدم المصلحة الوطنية العليا.
(٤)
لنأخذ مثلاً قرار المجلس العسكري بفض اعتصام القيادة العامة على النحو الذي حدث به الفض، ثم لنأخذ قرار المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير بإقامة شراكة سياسية حصرية بينهما لإدارة الفترة الإنتقالية، وإقصاء جميع القوى الأخرى بما في ذلك “حركات الكفاح المسلح”، ولنأخذ كذلك قرار التطبيع مع إسرائيل وقرار إستدعاء البعثة الأممية وقرار تغيير المناهج التعليمية وقرار إباحة الخمور والربا والمثلية وغيرها من الكبائر. وسنجد أن أي قرار من هذه القرارات يصب في مصلحة الأجندة الخارجية لهذا الطرف أو ذاك من الأطراف الخارجية أو لهذه الأطراف مجتمعة، وأنه لا مصلحة لشعب السودان فيه.
وإذا كان هذا هو حال القرارات الكبيرة التي تم اتخاذها، فإن ذات الوصف ينطبق على القرارات التي تمّ الامتناع عن اتخاذها بضغط من القوى الخارجية، ولنضرب لذلك مثلاً ب “قرار” الامتناع عن تحديد أجل الفترة الإنتقالية، وقرار تعطيل أجهزة العدالة من محكمة دستورية ومجلس أعلى للقضاء ومجلس أعلى للنيابة، وقرار عدم تشكيل مفوضيات الإنتخابات والعدالة والسلام، وكل ما من شأنه أن يهيئ الساحة الوطنية لتحول ديمقراطي وإقامة إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة.
والحال هكذا، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما هي المصلحة التي تبحث عنها الرباعية وهي تمارس هذه الهيمنة على الشأن السوداني بكل أنواع الضغوط والإغراء مع شركائها المحليين ؟
(٥)
الطبيعي أن نجيب بأن الرباعية تبحث عن مصالحها، وأن مصالحها تتلخص في أن يتمدد نفوذها بإقامة علاقات ذات منافع متعددة مع السودان وذات ديمومة، ومن الواضح أن دولها ترى أن مصالحها هذه ستتحقق فقط حين يكون مَن يصنع القرار في الخرطوم هم شركاء الوثيقة الدستورية التي تمّ تدشينها في أغسطس ٢٠١٩م.
والحقيقة أن الخارج، ممثلاً في الرباعية الدولية على وجه التحديد، يخطئ خطأً فادحاً حين تكون هذه هي قراءته لركائز مصالحه، فهو بهذا يخلط بين العملاء والأصدقاء، أو بين العملاء والشركاء، ويؤسس بسلوكه هذا إلى مصالح مؤقتة تفتقد إلى عناصر الديمومة، فضلاً عن كونه يمارس سلوك العصابات الدولية بدلاً من سلوك الشركاء، وذلك لعدة أسباب.
السبب الأول هو أن الرباعية الدولية اختارت من بين القوى السياسية السودانية أقلها سنداً شعبياً لتكون هي واجهتها في تنفيذ أجندتها، ومعروف أن مَن يذهب إلى هذا النوع من الاختيار إنما يبحث عمّن يطيع أوامره ويتماهى مع رغباته، وليس عن شريك ونديد. وقد أثبتت التجربة العملية لحكومتي الدكتور عبد الله حمدوك أن رئيس الوزراء وغالب المسؤولين في حكومته كانوا يحرصون على كل شئ ما عدا سيادة بلادهم وحفظ أسرارها وحقوقها، وليس أدل على ذلك من أن مرتبات رئيس الوزراء وكبار معاونيه كانت تدفعها بعثة الإتحاد الأوربي وأن مَن يقوم بمراجعة قوانين بلادنا لتتماشى مع آخر صيحات الانحلال الغربي الغربي هي موظفة أجنبية تعمل بشكل رسمي في مكتب وزير العدل السوداني!!
والسبب الثاني هو أن الرباعية تعمدت الدخول في خصومات غير ضرورية مع القوى السياسية السودانية ذات الوزن السياسي والثقل المجتمعي، مع إن هذه القوى جميعها بما في ذلك المؤتمر الوطني، تؤمن بأهمية بناء علاقات طبيعية مع الخارج وعلى رأسه دول الرباعية، ولها – وخاصة المؤتمر الوطني – تجربة عملية ممتدة في البحث عن نقاط الإلتقاء وبناء شراكات تقوم على الندية ورعاية المصلحة المشتركة للسودان والخارج.
(٦)
إذا قلنا إن هنالك ملفات لا تزال معلقة بين المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية من جهة وبين أفراد الرباعية الدولية، وأن بحث هذه الملفات وتصفيتها يحتاج إلى وقت، فإننا لا نجد مبرراً للرباعية الدولية أن تتعمد – عبر الآلية الأممية – إقصاء القوى السياسية التي تحالفت مع نظام الإنقاذ في مرحلة من مراحله المختلفة، سواء القوى التي وقعت مع النظام اتفاقات سلام أو القوى الوطنية الاسلامية ، اللهم إلاّ إن كان أفراد الرباعية يبحثون عن خلق كانتونات داخل البلد يدير كل واحد منهم كانتونه بشكل منفرد، وهذا ما نربأ بالشركاء المحليين، وعلى رأسهم قيادة القوات المسلحة، أن يذهبوا باتجاهه، أو أن يتوغلوا فيه بأكثر مما حدث.
على القوى الدولية عامة، والرباعية خاصة، أن يعدّلوا من سلوكهم الراهن المتمثل في تجنيد العملاء لحكم السودان، وتقريبهم إليهم زلفى، فالعميل الذي يرضى الدنية في وطنه لا أمان له، ويمكن أن يستبدل سيداً بآخر حالما رأى أن مصلحته الذاتية تقتضي ذلك، وعلى هذه القوى أن تبحث عن شركاء فذلك أدعى لتحقيق مصالح مشتركة مستدامة، وعليها أن تحرص على الوقوف على مسافة واحدة من جميع المكونات السياسية والعسكرية السودانية، إن كانوا فعلاً يرغبون في بناء مصالح مستدامة وفي مساعدة السودانيين لإقامة تحول ديمقراطي كامل وحقيقي، وإلاّ فلن يحصدوا إلا مزيداً من الفشل والخذلان وسيصبح عملاؤهم أضحوكة بين السودانيين كما هو الحال في تجربتهم مع حكومة العملاء التي انصرفت غير مأسوف عليها.