عبد الحفيظ مريود يكتب: جنتان عن يمين وشمال
بدون زعل
في مركز البروفسير محمد عمر بشير، بجامعة أمدرمان الأهلية، كان أحد المشاركين في ثورة أكتوبر، وقد تقدم به العمر، يبدي ندماً..”لم نكن نحتاج إلى ثورة أكتوبر”. حديثه، وأحاديث كثيرة غيرها، سمعتها وأنا أعد لكتابة فيلم “ضد العسكر.. ضد عبود”، عن ثورة أكتوبر، الذي بثته قناة الجزيرة، قبل سنوات، وتصب جميعها في خانة “ضيعناك وضعنا معاك”، الهتافات الشهيرة التي ظهرت بعد عبود بسنوات.
يمكن لوجهات النظر الجادة أن تعدد ميزات ومكتسبات ثورة أكتوبر، كـ” أول ثورة شعبية ضد نظام حكم ديكتاتوري في أفريقيا والعالم العربي في القرن العشرين”.. غير أنه ستظل عبارة جوفاء، طنانة، أكثر منها ميزة أو مكسباً، ذلك أن قيمة الفعل في التأريخ أن يؤسس لواقع مختلف، أفضل، أكثر ارتباطاً بالأهداف المعلنة، والطموحات البشرية التي أنتجته، وليس فقط، بالتسجيل في موسوعة الأرقام القياسية، أو قائمة الأوائل.
شايف كيف؟
التناقضات المثيرة للشفقة، حين تجرى المقارنات: الجنيه كان يساوي أربعة دولارات، حين كان السودان “شامخاً”، و”كبيراً” يتفاجأ الرئيس كينيدي بأن عبود – حين زاره – كان الرئيس الأفريقي الوحيد، الذي لم يقدم لائحة طلبات يطمح أن تلبيها له الولايات المتحدة، وحين كان السودان كبيراً كانت جلالة الملكة تستقبل رئيس السودان بفخامة تليق به – السودان، وليس الرئيس – بالطبع، وكان رؤساء العالم يتسابقون لزيارة السودان، حتى برجينيف، زاره، والسودان أحد الدول الكبرى التي قامت بدور جبار في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، هذا، فضلاً – كما يشاع – عن أن الناس كانوا “يأكلون التفاح”، ذلك باعتباره فاكهة محرمة على الفقراء.
“العظمة” التي تبرزها المقارنات، والفخر الدافئ الصقيل ذاك، هي بعض قمصان ديكتاتورية نظام إبراهيم عبود، الذي رميناه في مزبلة التأريخ، كشعب حر أبي، لا يقبل أن يتم اضطهاده، وهي مسألة يجب أن تحفر عميقاً لتغير خارطة المستقبل السياسي، الاقتصادي والثقافي للبلاد، وذلك لأن ثمة تصورات شاملة لما بعد الثورة لدى صانعيها، لا سيما وأنه – في انتصرت الثورة – سيكون القرار بيد هؤلاء الصانعين، الذين يملكون الإرادة والأدوات اللازمة لتطبيق التصورات الشاملة، تلك، والقدرة على التغلب على التحديات، أن يحدثوا قطيعة حقيقية مع ما ثاروا ضده.
شايف كيف؟
لكن ذلك لم يحدث، بحسب ما دونه التأريخ. حدثت ردة، تراجع في كل مناحي الحياة، وتجاذب بين أهل الثورة إلى درجة أن “ثار” الجيش في مايو ١٩٦٩م، ليضع لجاماً جديداً على الأفراس والجياد الحرة الأصيلة. ويبدو أنها “تتقريف” للجام. فعل نميري في ١٦ عاماً ما فاق فعل إبراهيم عبود، من منجزات على الأرض. قبل أن “ينهض الشعب الأبي، صانع المعجزات” مرة ثانية، ليحقق تصوراته الشاملة، تلك التي دفعته للإطاحة بنميري، لكنه – كدأبه – انخرط في التجاذب والسجالات الفوقية التي لا يمكن أن تترك أثراً في سجلات الإنجاز. إلى أن جاءته الإنقاذ، واضعة اللجام، مرة ثالثة.
شايف؟
في ترتيب أولوياته، يبدو أن الديمقراطية تحتل المرتبة الأولى، وهذا – بحد ذاته – دليل على وعيه المتجاوز لمحيطه الإقليمي، وهو فخور بذلك إلى درجة الفجاجة. لكنه حين يؤخر عناوين أخرى في سلم الأولويات: الأمن، الاستقرار السياسي والاقتصادي، تحسين المعيشة، العلاج والتعليم، ويصر على أن الديمقراطية هي التي ستأتي بكل ذلك، و”الحكم المدني”، تحديداً، ويجد أنه يحتاج إليها بشكل جارح، يذهب يطلبها في مصر التي يعيش فيها أكثر من أربعة ملايين سوداني. في الخليج الذي يأوي أكثر من خمسة ملايين، أيضاً. في الهجرة إلى الغرب التي ابتلعت ثلاثة ملايين. متناسياً، متغافلاً، متجاهلاً أن مصر التي توفر له ما يحتاج إليه، ليست “ديمقراطية”، بل نظام حكم عسكري قح، وأن الخليج كله “دولة أموية” لا تجامل بشأن العائلة الحاكمة، ولا ترفع بصرها نحوها، دع عنك أن تتظاهر منادية بـ” الديمقراطية”، وأن الغرب لا يعامله إلا كمتطفل على موائده، عاجز عن توفير حياة كريمة في وطنه، كإنسان. لذلك يهرول أمثال الرشيد سعيد، عبد الباري، قمر الدين وأمثالهم من حملة الجوازات كلما كانت مصالح الغرب على المحك، جيئة وذهاباً..
شايف كيف؟
منذ وقت طويل، أعتقد أن ترتيب الأولويات لا ينبغي أن يخضع للأهواء والأمزحة، خاصة الأمزجة التي تبهرها “الموضة”. الأهواء هي التي عصفت باستقرار مملكة سبأ، التي أخبرنا عنها القرءان، ذلك أنهم – بطراً – قالوا ربنا باعد بين أسفارنا.. فتأمل!!! أن يكون الطلب هو المشقة، غير الموضوعية.. حسناً.. قال لهم الحق – تقدست أسماؤه – سنرتب الأولويات، لكم، كما تحبون. فجرى الترتيب، الذي من شروطه الموضوعية التمزيق شر ممزق.. لكن في ذلك “لآيات لكل صبار شكور”.
تماماً مثل طلبات بني إسرائيل الرافضة للمن والسلوى. ذلك أن ثمة شروط بنيوية (من حيث التصميم الإلهي) تحيط بمسألة “عدسها، بصلها، فومها وغثائها”، وهي لوازم الهبوط إلى مصر.
شايف كيف؟
على مدى أكثر من نصف قرن، يحاول (الشعب الهمام، معلم الشعوب) أن يحقق ترتيب أولوياته، يتقدم خطوة، ويتراجع عشرين خطوة، دون أن ينتبه إلى أنه ربما لم يكن مطلوباً منه أن يهدر وقته وطاقته لأجل الحصول على شيء لا يناسب تكوينه، لا يلائم أنظمته الداخلية، ليس ضرورياً – حتى – ليعيش.
لا شك أن ثمة نظام وسنن كونية يتوجب ملاحظتها، التدقيق فيها، بشأن المجتمعات البشرية. ليست اعتباطاً.. ما هو ضروري وأصلي لمجتمع ما، لا يجب تعميمه.. مثل اختلافات المناخات والتربة على الأرض، ونحن جزء منها، ما ينبت في أستراليا ليس بالضرورة أن ينبت في الصين أو مسقط أو زنجبار..