روسيا والغرب : خلفية الصراع .. وإستشراف مآلاته

بسم الله الرحمن الرحيم

روسيا والغرب : خلفية الصراع .. وإستشراف مآلاته

 

بقلم : د.ابراهيم البشير الكباشي

سفير سابق لدي روسيا وأكرانيا وبلاروس .

أستاذ جامعي للعلوم السياسية والعلاقات الدولية

 

الحرب الدائرة اليوم على المسرح الأوكراني بين روسيا والغرب تبدو أقرب الى إعلان روسي لمفاصلة تاريخية مع الغرب ، و مع النظام الدولي الراهن :

النظام الدولي السياسي الذي تمثله الأمم المتحدة ،  و النظام الدولي الاقتصادي الذي تمثله مؤسسات بريتون وودز و هيمنة الدولار الأمريكي ،  والنظام المجتمعي – الثقافي الذي تمثله تقليعات السلوك الغربية اللادينية – الليبرالية المستجدة.

فصل الرئيس الروسي بوتن بأفصاح و أسهاب دواعي هذه المفاصلة ، و أجملها في ثلاثة عوامل ضاغطة ، لا ترى روسيا أن اسباب بقائها – كأمة – تتحقق مع بقاء هذه العوامل.

أولاً: أنها ( روسيا ) مواجهة بمهدد أمني وجودي يمثله تمدد حلف الناتو شرقا ليطوقها انطلاقا من حدودها المباشرة .

وفي هذا تمثل لها أكرانيا ( التي صنع الغرب في قيادتها نخبة سياسية ذات ولاء غربي شديد العداوة لروسيا ) المنطلق الأقرب مسافة و الأخطر تأثيرا .

ثانياً: كبح السعي الغربي الدؤوب لاستلاب الموروث القيمي – الأورثوذوكسي – السلافي – الروسي، وذلك باستزراع ما شاع في الغرب من المنتوجات المفاهيمية والسلوكية لليبرالية المستجدة.

ثالثاً: تعتقد روسيا بنحو واضح، ومعها أكثر العالم غير الغربي ، أن النظام الدولي الراهن كيان سياسي واقتصادي ظالم و مختل ، تمسك الهيمنة الأمريكية الآحادية بجميع مفاصله . ولهذا يلزم إحلاله بقطبية دولية ثنائية أو متعددة يتحقق بها توازنا أكثر عدالة في العلاقات الأممية.

هذه هي جملة القضايا الأساسية الأبرز التي تفسر لنا المنطلقات السببية للصراع الروسي – الغربي الراهن . وهي تستلزم شيئا من التفصيل وأن كان مختصرا في عجالة.

قبيل انهيار الأتحاد السوفيتي في العام 1991 ، و حينما تقرر تبعا لذلك تفكيك حلف وارسو ، أجرى ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس سوفيتي ، “تفاهمات ” شفاهية مع قادة الغرب ؛ رونالد ريغان و جورج بوش الأب في أمريكا ، و مارغريت تاتشر في بريطانيا ، وهيلمنت كول في المانيا .. وغيرهم . أحد أهم محاور تلك ” التفاهمات ” يقول : أن سبب وجود حلف الناتو قد انتفى بانهيار الاتحاد السوفيتي ، ثم بتفكيك حلف وارسو. وعلى ذلك فأن مبرر وجود الناتو الراهن ليس إلا جرعة انعاش جديدة لاستثارة شره الغرب القديم للهيمنة والاستعلاء.

و مع ذلك ، فأن كان الغرب لا يزال يرغب في وجود منظومة الناتو ( تمضي تلك التفاهمات الشفاهية)، فيلزمه ألا يتمدد شرقا في الدول التي انضوت سابقا في حلف وارسو .

ولما ايقن قادة روسيا ان الغرب كان قد أفرد أجنحته بالفعل على الدول الأعضاء في حلف وارسو (سابقا) بعد تفككه ، ارتفعت عقائرهم بوجوب استفراغ كل ما تبقى لهم من مقدرات الصمود حتى لا يتمدد الناتو شرقا ليضم الدول المستقلة حديثا ، و التي كانت ( على تنوع مسمياتها ) وحدات إدارية ضمن فيدرالية الاتحاد السوفيتي ، و التي باتت مرتبطة مع موسكو بعد انفصالها بما أسموه ” كومنولث الدول المستقلة CIS . ومن بين سكان هذه الدول نسب كبيرة من المنتمين للقومية الروسية.

غير ان أوربا و أمريكا لم تعر هواجس الروس تلك أدني اعتبار. فروسيا يومها ، وهي تهوي في عتبات انحدارها التاريخي ، لم تكن تملك الحد الأدنى من أدوات التأثير في صناعة موجهات الأهداف الأستراتيجية الغربية.

مما تواترت روايته ، أن غورباتشوف و من تولى بعده قيادة روسيا ، ابان سنوات الانحدار ( 1991 وما بعدها ) ، تلقوا استلطافا غامرا من قادة الغرب ، على غير ما كان يميز فيما مضى سجال العداوة الغربية القاسي ضد القادة السوفييت ، و الذي امتد عبر أكثر من سبعين عاما. و قابل غورباتشوف ويلسن ذلك الاستلطاف الشخصي النادر بقدر وافر من مثالية أقرب لحالات الود الشفيف بين الأصحاب والأتراب منها الى ثوابت التباعد الاستراتيجي التاريخي بين روسيا والغرب . تلك حالة ضعف ينعتها علماء السياسة بمصطلح “السذاجة الانسيابية Effusive Naivety “.

فمنذ قرون تأسست العقيدة المرشدة للغرب في علاقاته الدولية على ثابتين . يتغير الزمان كما يتغير القادة ، مع ثوابت قاعدتي “المصلحة” و”القوة أو السلطة”. فمنذ أكثر من قرنين ، هاتان هما موجهات البوصلة الغربية للعلاقات الأممية . فليس للود اللطيف مكان بأي مقدار بين طوايا تلك الثوابت.

دعني أشير – للتدليل على ذلك – إلى نموذجين يجسدان هذه الثوابت من التاريخ الدبلوماسي الغربي الوسيط ، ومن الممارسة الدبلوماسية الغربية المعاصرة.

فكثيرا ما اصبحت مقولة اللورد بالميرستون وزير خارجية بريطانيا امام مجلس العموم عام 1848 قانونا يردده الكل في كل مناسبة مشابهة . يقول:

” It is a narrow policy to suppose that, this country or that is to be marked out as the eternal ally or the perpetual enemy of England. We have no eternal allies , and we have no perpetual enemies. Our interests are eternal and perpetual , and those interests is our duty to follow ”

ما ترجمته :

” انه لأفق سياسي ضيق ان نفترض هذه الدولة او تلك تتميز بكونها صديق لنا دائم أو عدو لنا خالد. ليس لدينا صديق دائم أو عدو خالد . مصالحنا فقط هي الدائمة الخالدة . ولهذا فهي وحدها التي يستلزم واجبنا متابعتها ( أو رعايتها)”

و النموذج الثاني هو ما تصطلحه كليات العلوم السياسية ومراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة ب “المدرسة الواقعية ” للعلاقات الدولية، التي يمثلها لفيف واسع من العلماء والاستراتيجيين والسياسيين (هانس مورغانثو ، جورج كينان ، هنري كيسنجر ، ازبغنيو برزنسكي…) يقول رائد هذه المدرسة هانس مورغانثو: “ان السياسة الدولية ، شأن كل سياسة ، هي صراع من أجل القوة أو السلطة” International politics , like all politics is a struggle for power .

و أن ” رجال الدولة يفكرون ويعملون بمقتضى المصلحة المعرفة بالقوة أو السلطة Statesmen think and act in terms of interest defined as power. .. وأن رجل الدولة ينبغي أن يصوب عمله نحو ادراك الحد الأدنى من الشر بدلا عن الحد الأعلى من الخير..Stateman aims at the realization of lesser evil rather than an absolute good جاء ذلك في كتاب مورغانثو المسمى POLITICS AMONG NATIONS وهو الكتاب الذي يسميه الأمريكيون أهل الاختصاص حتى وقت قريب ب ” انجيل العلاقات الدولية “.( الطبعة الخامسة Alfred A.knopf,Ny 1978)

كان يومها القادة الروس الخارجون للتو من محابس الماركسية – اللينينية – الاستالينية، يأخذون ما ترآى لهم من وداعة شخصية عابرة للساسة الاوربيين والأمريكيين كأنها جبلة غائرة في الوجدان تسري على مجمل العلاقات الإنسانية، الساسية وغير السياسية . بينما الغرب يحصر اعتبارات العداوة والصداقة.. و الود والضد.. في قوالب ثلاثة مسبوكة عبر القرون في أذهان الساسة الغربيين ، وهي ان دول العالم لا تكون إلا: عدوا مؤكدا.. أو عدوا مؤقتا.. أو عدوا محتملا. وفي الصفحة المقابلة تقف أضداد هذه الثلاثة: صديق مؤكد.. أوصديق مؤقت.. أوصديق محتمل. تلك هي القوالب التي صممت عليها علاقات الغرب المزهو يومها بتفوقه على قيادات روسيا وهي تفكك نظمها السياسية و الاقتصادية عام 1991. وبأعمال معايير القياس تلك ، فأن قوالب العلاقة الغربية التاريخية مع روسيا ، لا تحيطها واقعية الغرب الاستراتيجية الا بين قالبين هما : ” عدو مؤكد ” كما تروي سير تاريخ العلاقة الروسية – الغربية عبر القرون ، أو ” صديق مؤقت” نشأت صداقته بسبب تخليه المؤقت عن عداوة الليبرالية الرأسمالية .

 

تسارعت خطى الناتو بالزحف شرقا على جبهتين: عسكرية و سياسية..

 

شملت الجبهة العسكرية التمدد النشط في دول شرق أوربا التي كانت اعضاء في حلف وارسو. ونشرت فيها عشرات الصواريخ حاملة الرؤوس النووية متوسطة المدي ، و ما يتبع ذلك من عتاد متقدم وعشرات الآلاف من الجنود.

الغت أمريكا اتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية التي أبرمتها مع الأتحاد السوفيتي منذ سبعينات القرن الماضي : SALT 1 و SALT2 و نشرت اسلحة نووية في ألمانيا . كما وردت تقارير تفيد بنشرها أكثر من 180 رأس نووي تكتيكي في تركيا وإيطاليا و بعض دول أوربا الشرقية. والجديد في المشهد الأستراتيجي أن روسيا قررت ، ازاء تمدد الناتو شرقا بقدرات نووية تكتيكية ، نشر صواريخ متوسطة المدى حاملة رؤوس نووية في جمهورية بيلاروسيا قريبا من الحدود البولندية.

أن ابرز ما يميز تداعيات الحرب الراهنة على المسرح الأوكراني، أن الغرب كله ( خمسين دولة بمن فيها أمريكا وأوربا ) منخرط باستماته وظف فيها قدراته العسكرية و التقنية عبر الفضاء السيبراني ، وقدراته الأقتصادية عبر الدعم المالي غير المسبوق لأوكرانيا ، وفرض عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا ، كما وظف كل قدراته السياسية والدبلوماسية عبر العالم حتى لا تسفر خواتيم الصراع الراهن عن نظام دولي ينتقص من هيمنة الغرب على العالم .

لم بيق لأضفاء صفة العالمية على الحرب الراهنة الا أن تنطلق قذيفة من هذا الجانب او ذاك ليعم – من ثم – شرر القذائف اطراف العالم ، و ليتداعى تبعا لذلك الأثر الفيضي للحرب ( The spillover effect ) ليعم العالم كله أو جله.

لم يسبق ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، أن شهد العالم تحالفا لخمسين دولة في حرب على مسرح جغرافي محدود النطاق كما هو الحال اليوم . الغرب منخرط – حتى الآن – بكل تدابير القتال : التسليح ، والتدريب ، والاستطلاع الاستخباري الفضائي السيبراني ، والتوجيه التكتيكي ، و الأمداد بالجنود والقيادة العملياتية. علاوة على ما ذكرنا من الدعم السياسي والمالي . لم يتخلف عنصر لأطلاق صفة ” العالمية ” على هذه الحرب سوى الأعلان الرسمي .

وأما على الجبهة السياسية ، فقد انخرط الغرب بكلياته ، من خلال مخابراته ، و بتوظيف غير مسبوق لمنظماته المدنية ، على الجمهوريات المستقلة التي كانت جزءا من الأتحاد السوفيتي بما فيها روسيا نفسها ، وذلك بصناعته لما أسماه بالثورات الملونة .

غاصت منظماته عميقا في تلافيف المجتمع الروسي تحت عناوين عديدة ؛ مراكز بحوث ، صحافة، أحزاب ..الخ. استهدفت بالدرجة الأولى جموع الشباب التائه يومها بعد انهيار الدولة. فقد أحدث انفجار الأنهيار السريع للاتحاد السوفيتي ارتجاجا عنيفا شمل مجمل مفردات الحياة في طول البلاد وعرضها . فالتحولات الكبرى في تاريخ الأمم تتم عادة على نحو متدرج عبر سنين عدة ، على غير ما شهده الاتحاد السوفيتي عام 1991 .

كانت المهمة الأساسية للمنظمات و الأجهزة الاستخبارية الغربية هي اعداد الكوادر البشرية ( خاصة الشبابية ) بجرعات ليبرالية غربية معمقة تمكنهم من وراثة التركة التي حاولت الشيوعية غرسها خلال ثمانية عقود . فلم تحن في التاريخ سانحة مواتية لألحاق الروس بنمط الحياة الأوربية الغربية كما كانت في تلك الأعوام .

فالكيان السياسي ( الحزب الشيوعي السوفيتي ) الذي تحكم في مفاصل الدولة لأربعة و سبعين عاما أفل نجمه بعد أن نضبت خزائنه الفكرية والسياسية و الأقتصادية .

والكنيسة الأورثوذوكسية الروسية التي كانت قد تأسست عليها الركائز العقيدية للإمبراطورية القيصرية ، تم القضاء عليها منذ السنوات الأولى للثورة البلشفية . فقد قتل من أتباعها مئات الآلاف ، وكان الأنتماء أليها جريمة عقوبتها الأعدام أو السجن أوالنفي . و قد تحولت دورها الى مخازن و متاحف..

المؤسسة العسكرية السوفيتية كانت تحت الولاية الصارمة للحزب الشيوعي ، ولما نسفت قواعده ، اصابها بقوة رذاذ ذلك السقوط الداوي .

كان الجيش السوفيتي العائد من أفغانستان ابان انهيار الدولة في حالة ذهول و صدمة و عدم تصديق لما آلت اليه الدولة التي أرسل ليحارب بأسمها لعشر سنين ، خسر فيها أكثر من خمسة آلاف قتيل وأكثر من خمسين ألف جريح . عاد أولئك الضباط والجنود الى روسيا متحاملين على ركائز معنوية محطمة، خالية محافظهم من أي دخول مالية، وقد تقطعت بهم سبل المعاش . بل وجدوا الدولة نفسها التي أرسلوا للحرب باسمها في حالة تحلل وتفرق الى خمس عشرة دولة .

تحت غطاء تلك الغيوم التي احاطت بالبلاد يوم انهيار السلطة الشيوعية ، و استفحال الفراغ السياسي و الأمني و الفكري ، تولت المنظمات الغربية – كما ذكرنا – أعداد دورات تدريبية متنوعة هدفها صناعة قيادات أشربت الولاء التام للغرب ونماذجه في السياسة والاقتصاد والثقافة و القيم الأجتماعية. وتمثل القيادات الحالية في أكرانيا ابرز منتوجات الثورات الملونة التي صنعتها تلك المنظمات . فقد كان الرئيس الأكراني الحالي فيلادومير زيلينسكي، واغلب طاقمه المعاون ، اطفال أو صبيان تحت التكوين التربوي يوم انهيار الأتحاد السوفيتي ، فتولت منظمات الغرب حينها تنشأتهم السياسية .

في يوم انهيار الأتحاد السوفيتي لم تكن في روسيا، كما سلفت الأشارة ، كيانات مجتمعية وطنية راسخة ومنظمة تتولى – ربما – بالأحلال التلقائي مكان الحزب الشيوعي الذي ذهب بذهاب دولته . فمنذ العام 1917 ، سحق البلاشفة جميع الانتماءات السياسية و الثقافية والدينية ذات الجذور الوطنية ، ولم يبق ألا كيانا واحدا هو المجلس اليهودي الروسي . فهو الجسم الوحيد المتماسك داخليا و المرتبط بعلاقات شبكية مع نظائره ( المجالس اليهودية ) في أوربا وأمريكا واسرائيل.

عندما تولى بورس يلسن رئاسة روسيا يوم تفكك النظام الشيوعي ، لم يجد لأداره الدولة الا شبابا كانوا بالأمس منخرطين في هياكل الحزب الشيوعي ، ثم تحولوا فجأة الى ليبراليين متطرفين تدعمهم المنظمات الغربية و حكومات اوربا وأمريكا. من اولئك ايغور غيدار الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره حين عينه يلسن رئيسا للوزراء ، و كان في ماضيه القريب نائبا لرئيس تحرير دورية يملكها الحزب تسمى ” الشيوعي The Communist ” ومن أولئك الشباب الذين تم احتواؤهم بفعل المؤسسات الاستخبارية الغربية ، و تحولت ولاءاتهم من الحزب الشيوعي الى الليبرالية المتطرفة : غينادي بيربولس، و أناتولي شوبايس ، و أندري كوزريف ، و سيرجي شغاري وغيرهم..

اعتمد ايغور غيدار ، رئيس وزراء يلسن في ادارة الدولة منهج المعالجة الليبرالية بالصدمة العنيفة. وتحت أحاسيس المساندة الغربية السياسية الواسعة يومها ، لم يكن يأبه بمردود الصدمة الطاغية على حياة سكان البلاد . ففي الشهر الأول لتوليه ( يناير1992 ) ارتفعت الاسعار بنسبة 245% . عجزت حكومته عن الإيفاء بالحد الأدنى من الخدمات الأساسية. وشاع سداد مرتبات العاملين عينا بالمواد التموينية خاصة بعد الأنهيار السحيق للعملة الوطنية ” الروبل”. بل شاع التبادل التجاري بالمقايضة ( قارورة حليب مقابل كيلو دجاج أو خبز بما يعادله من فاكهة…الخ ). وهام الجنود و رجال الشرطة على وجوههم ، و استشرت ظواهر الأنفلات الأمني و الجريمة المنظمة.

كانت المهمة الاولى للغرب هي استخصاص القطاع العام للدولة. ويشمل ذلك جميع أملاك الدولة السوفيتية العظمى ، في قطاعات الصناعات الثقيلة والصناعات التحويلية والنفط والغاز و الكهرباء والنقل الجوي والبحري والسكك الحديدية والقطاع الزراعي و ما يرتبط به من صناعات وخدمات واسعة..الخ تولت حكومات أمريكا وأوربا الغربية توفير أكثر من 250 مليار دولار من مؤسسات التمويل الدولية لإنجاز مهمة خصخصة أملاك الأتحاد السوفيتي.

لا عهد للروس بتملك أو أدارة القطاع الخاص. ولم يكن لهم أيا من أشكال الارتباط بعوالم المال والتجارة . كان على الروس ان تطوي أذهانهم – على عجل – ما تعلموه لأكثر من سبعة عقود من حتميات الماركسية اللينينية شديدة العداء للقطاع الخاص أو الملكية الفردية لوسائل الانتاج . كان على شعب البلاد أن يسلموا على الفور وجهتهم الحياتية الجديدة صوب الرأسمالية الليبرالية.

الكيان الوحيد في روسيا الذي كان ذا وجود منظم ، و يحظى – كما سلف ذكره – بعلاقات شبكية عالميه ، هو الكيان اليهودي الروسي .

و بدعم واسع و قوي من الغرب ، و باستخدام تلك المقادير المتعاظمة من التمويل الغربي السخي ، استحوذ اليهود الروس على مفاصل التركة الأقتصادية الأكبر للاتحاد السوفيتي .

كانت أنصبتهم من ذلك (كما تروي صحيفة كوميرسانت الروسية عام 2002)

70% من قطاع النفط والغاز. و 100% من قطاع الأسمدة الزراعية. و 80% من صناعة السيارات. و60% من الطيران المدني. و 85% من الأخشاب . و 70 من القطاع المصرفي .و 80% من شركات التأمين . و 65% من الاعلام المرئي و المكتوب.

ستة افراد يهود قادوا هذا الأستحواذ العظيم على مفاصل الاقتصاد الروسي ؛ هم : بورس بروزوفسكي وميخائيل خودوركوفسكي ، و فلاديمير جوزنسكي ، و الكسندر سمولينسكي ، و ميخائيل فردمان ، وفاليري مالكن.(روبرت سيرفس،روسيا 2009 ) ص.519

أحاط هؤلاء – بما صنعوه لأنفسهم من اسناد سياسي واعلامي كثيف – بالرئيس يلسن الذي كان عليلا تحيط به وعكات صحية مقعدة من جهة ، كما يحيط به ارباك سياسي ومؤسسي مركب من جهة أخرى.

كانت السنوات السبع الاولى من تفكك الاتحاد السوفيتي هي سنوات ” انعدام الوزن ” للقيادة الروسية في الساحتين الداخلية والخارجية. بلاد لها قاعدة صناعية عسكرية و مدنية و علمية واسعة ، وتتمدد على سدس اليابسة من الكرة الأرضية ، بموارد اقتصادية يندر نظائرها ، غير أنها كانت يومها فاقدة القيادة. فقوة بلا قيادة كقيادة بلا قوة ، شديدة الأغراء لأستثارة رغائب المتربصين بها .

طبيعي ان يتولد من هذا المشهد النادر في تاريخ الأمم ردود افعال وطنية شعبية سياسية قوية، استفزتها مظاهر الأنحدار التي حلت ببلادهم ، فاستنفرت بذلك كوامن المخزونات القيمية الدفينة للوطنية الروسية. و أحس يلسن – مع تقدم سنه وانهيار صحته – بانفراط قيادته ، و بارتماء من ولاهم رئاسة الحكومة في أحضان الأقلية الاولوغارشية التي استحوذت على أملاك البلاد.

بين عامي 1998 و 2000 غير الرئيس يلسن رؤساء حكومته خمس مرات . وظل يبحث عمن يمكنه إنقاذ روسيا.

استدعى للكرملين عمدة مدينة سانبيتربورغ استاذ القانون الدكتور أناتولي سوبشاك في محاولة للسيطرة على ما انفرط من اجراءات و مناهج خصخصة أملاك الدولة.

صحب الدكتور سوبشاك برفقته مساعده وتلميذه المقدم فلاديمير بوتن، وقدمه الى الرئيس يلسن كضابط تراكمت قدراته و تجاربه القيادية وصقلت عبر السنين في مؤسسة المخابرات KBG التي انتمى اليها منذ شبابه الباكر.

اوكل الرئيس يلسن بادئا الى بوتن ادارة الأمن الرئاسي، ثم ما لبث أن تولى أدارة جهاز المخابرات الفيدرالي ( وريث الجهاز السوفيتي KGB ) ، ثم ولاه يلسن رئاسة الوزراء و من ثم توالى صعوده بالإجراءات الدستورية للرئاسة الروسية .

كرست قيادة بوتن ، ولأكثر من عشرين عاما ، جهودها لأعاده بناء القدرات الروسية في جميع أبعادها.

كانت أولويات أدارته أخماد تمردات الأطراف في شمال وجنوب القوقاز. والاستعداد الاستراتيجي لمقابلة التمدد الغربي الزاحف شرقا . و لأجل هذا كان تحديث الصناعات العسكرية بجميع مستوياتها ؛ التقليدية والاستراتيجية يأخذ موقع الصدارة . ولحسن طالعه ، فقد كانت القدرات الروسية العلمية والفنية موفورة منذ عقود ، عززتها موارد مالية ضخمة توفرت من صادرات النفط والغاز بالدرجة الأولى.

وكان عليه تركيز التأهيل المهني لجهاز مخابراته الذي لم يكن يعوزه ذلك التأهيل ، فهو أحد أكثر أجهزة المخابرات كفاءة في العالم . خاصة وانه ظل أحد أهم الموروثات السوفيتية مهنية وتماسكا. وهذا هو الرصيد الموضوعي الذي أهله لقيادة الجهود المصوبة نحو استعادة الدولة الروسية.

وكان على بوتن أيضا تأسيس قاعدة سياسية مساندة واسعة الطيف ، فأنشأ لذلك الحاضنة الوطنية التي استفزها بعنف ما صاحب سنوات الانحدار وسطوة الغرب وصنائعه. وعلى ذلك تكون الكيان السياسي المسمى ” روسيا الموحدة ” والذي بات منذئذ يسيطر على أغلبية غرفتي البرلمان.

وكان عليه ان يواجه القوى الاولوغارشية اليهودية التي استولت على مفاصل الثروة الروسية الأكبر واستردادها. تلك قوى تحظى بأسناد سياسي واسع في الغرب واسرائيل. وانتهى الأمر بمعظمهم – في خضم الصراع لاسترداد ما أخذوه – اما بالموت أو السجن أو الفرار الى الغرب واسرائيل.

في زخم حقائق الواقع الدولي في بداية التسعينات ، وتحت مغريات النصر الغربي على الشيوعية ، انفجر طموح أمريكا حتى لأبتلاع روسيا نفسها، التي خرجت من الحرب الباردة تتقاذفها رغائب الأمريكيين طمعا في مخزونات مواردها الضخمة ، الممتدة على مسطح جغرافي اوروآسيوي يمثل سدس مساحة اليابسة من الكرة الأرضية.

غير أن الأمريكيين و الأوربيين أدركوا عشية انهيار الشيوعية ، و بروز تلك الأطماع ، أن استيعاب روسيا في الكيان الغربي الكبير لن يكون ميسورا ما لم يسبقه تحول السياق العقيدي و الثقافي والمجتمعي الروسي الى حالة تماثل بالتطابق السياق الحياتي الغربي . فتحول البناء العقيدي والثقافي و المجتمعي هو المقدمة الضرورية اللازمة لقطع كل مجتمع عن ركائزه القاعدية. ذاك هو منهج الغرب في في تاريخه الاستعماري القديم والمعاصر .

كانت أطماع الاستراتيجيين الأمريكيين مفرطة، كما يقول ازبغنيو برزنسكي في كتابه المسمى Strategic Vision,2012) ) تهدف الى صناعة غرب لا مثيل لضخامته في التاريخ .. يمتد ليشمل كل اوربا وأمريكا و كندا حتى حدود روسيا الشرقية .. من فانكوفر في اقصى غرب كندا الى فيلاديفستك في أقصى شرق روسيا.

كيف ترجمت تلك الطموحات في السياسة الخارجية الأمريكية عقب انهيار الأتحاد السوفيتي؟

أجابة هذا السؤال تستوجب الإحالة الى نموذجين تمثيليين يعبران بأفصاح مبين على العقيدة الأمريكية المعاصرة والحاكمة للعلاقات الدولية في ضحى انهيار الأتحاد السوفيتي .

في فبراير 1992 ( شهران عقب اعلان انهيار الأتحاد السوفيتي ) ، صدرت عن البنتاغون ورقة متضمنة لموجهات السياسة الأمريكية الدفاعية الجديدة و المتجددة تحت عنوان ” منع بروز منافسين جدد Prevent of the Re-Emergence of a new Rivals” “.

يقول بول وولفوتز ، نائب وزير الدفاع الأمريكي يومها معلقا على مضامين هذه الورقة ..” ان الهدف الأول لنا ( أي أمريكا ) هو منع أعادة بروز منافس لنا سواء على أرض الأتحاد السوفيتي السابق أو غيرها.. و سنسعى لمنع أي قوة معادية لنا تتصدر أي أقليم ذي موارد يمكن أن تسهم في تعزيز قوة دولية منافسة لنا..”

هذا هو مضمون العقيدة العسكرية الأمريكية.

أما مضمون عقيدتها السياسية فقد عبر عنه ” الواقعيون ” من علماء وصناع السياسة الذين يمثلهم استاذ العلوم السياسية ، فرانسيس فوكمايا ، تلميذ البروفيسور صمويل هنتنغتون . يقول فوكمايا : أن الديمقراطية الليبرالية المرتبطة موضوعيا بالرأسمالية و المبادأة الفردية قد هزمت الاقتصاد الشيوعي الموجه و حلفاءه . فقد بلغ سباق التاريخ نقطته النهائية ، وانتهى بذلك الصراع العظيم الذي أكتنف المسرح العالمي منذ الثورة الفرنسية.

على هذا ، فأن الصراع الذي رسمه منظرو السياسة الخارجية الأمريكية هو في الأساس تصور هلامي قاعدته الموجهة هي النموذج الغربي – الليبرالي في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع . وشعاره المرفوع هو ” What is good for the West should be good for the Rest”

أي ” ما يراه الغرب حسنا..يلزم أن يراه لآخرون حسنا “) .

فتحت طغيان نصر الغرب في الحرب الباردة انفصمت حكمة التوازن الموضوعي بين ما هو مشترك انساني عام ، و ما هو خصوصية عقيدية او ثقافية خاصة. و على خيوط هذه المفاهيم الطغيانية ، نسج الغرب شبكة واسعة من القرارات والمعاهدات يجهد ان يلزم بها جميع سكان الأرض. وفي سبيل أنفاذ تلك المفاهيم والرؤى انشأ آلاف المنظمات وأغدق عليها مقادير تمويلية غير مسبوقة.

هل ستفضي الحرب الراهنة الى نظام دولي جديد؟

في هذه المرحلة من عمر الصراع الراهن لا أحد يملك فصل الخطاب للإجابة على هذا السؤال الكبير.

غير أن كل صراع في التاريخ بحجم ما نشهده اليوم يجري على مستويين : عسكري مؤقت (حتى ان تمدد لبضع سنين ) . ثم سياسي – اقتصادي – ثقافي أكثر ديمومة. ولقد صدق الأستراتيجي الألماني ، الواقعي المنهج ، الهيجلي التفكير كلاوزويتزعندما يقول ” ما الحرب الا استمرارا للسياسة بوسائل أخرى War is a continuation of politics by other means ”

حقيقتان موضوعيتان قد تدلان على ارجح مآلات الصراع الراهن .

أولهما : متلازمة تاريخية لنهايات الحروب على المسرح الأوربي .

وثانيها: استقراء لدلالات التحول المتسارع لمراكز القوى الدولية في العقود الأخيرة.

أن دروس التاريخ الاوربي الحديث تقول أنه : ما من حرب دارت على المسرح الأوربي – خلال القرون الثلاثة الماضية – بحجم الحرب الراهنة في أكرانيا ألا انتهت الى تشكل نظام دولي يحل كليا أو جزئيا ما كان سابقا له.

هذه مختصرات لخلاصات ختمت بها حروب أوربا ، وتشكلت – من بعد – كل واحدة منها نظاما دوليا مغايرا لما سبقه.

** حرب الثلاثين عاما ( 1618 – 1648 ) ختمتها اتفاقية وست فاليا التي بها تشكلت أطر الدولية القطرية ، واعتمدت مبدأ سيادة الدولة على أرضها وشعبها و مواردها . كما ارست أولى لبنات التبادل الدبلوماسي (غير المقيم ) بين أباطرة اوربا، و نظمت بقدر وافر علاقات القوى الأوربية لأكثر من قرن ونصف.

** حروب الثورة الفرنسية النابليونية، مدفوعة بنشوة المجد الإمبراطوري ، انتهت باتفاقية فينا عام 1815 ، وهي التي ارست مبادئ القانون الدولي العام . و تأسيسا على تلك المبادئ أنتظمت هياكل وقواعد التبادل الدبلوماسي والقنصلي بين الدول التي امتد اعتمادها بين الدول حتى اليوم . كما ارست سلاما اوروبيا على قاعدة توازن القوى حتى لا تجنح دولة تحت احساسها بتفوق قدراتها العسكرية للأعتداء على دولة أخرى.

** انهار نظام توازن القوى بعد مائة عام بالحرب العالمية الأولى ، وتوقيع المنتصرين لمعاهدة فرساي 1919 التي أهانت المانيا وايطاليا و الدولة العثمانية. وأنشأت ( بمبادرة وتصميم امريكي ) نظام عصبة الأمم . و مع ان امريكا كانت صاحبة مشروع العصبة ، الا أن الكونغرس قرر أخيرا الا تكون أمريكا عضوا فيها. وقد حملت العصبة بذور فنائها القائمة على تقنين السيطرة و الانتقام وعزل الخصوم.

** أنتهى نظام عصبة الأمم بنشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، و انتصار الحلفاء بقيادة أمريكا . منذ العام الثاني لهذه الحرب ( اي 1941) شرع الحلفاء يستمزجون الآراء حول شكل وطبيعة النظام الدولي الذي يستشرفون تأسيسه. وتحت الاحساس الطاغي بالتفوق الأمريكي البعيد عن مسرح الحرب في أوربا ، و مع وطأة الأعياء و الأنهاك الشامل للأطراف المتحاربة لست سنوات ، تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة و مؤسسات النظام الأقتصادي الدولي التي أنشأها مؤتمر بريتون وودز عام 1945.

** النظام الدولي الراهن يجسد بدقة و أتقان عناصر القوة الأمريكية في أبعادها الأقتصادية و العسكرية و السياسية . فقد أسست أمريكا ركائز قوتها الأعظم على عاملين متعاضدين ؛ اولهما :عملتها الوطنية الدولار. و ثانيهما : اسلحة الدمار الشامل. فأن بقيت اسلحة الدمار الشامل أداة للردع من غير الجنوح لاستخدامها لكونها مدعاة للدمار المتبادل مع خصوم أمريكا ، فيبقى – اذا – الدولار هو العامل الأقوى من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية .

كيف اسست الولايات المتحدة سيطرة دولارها على العلاقات الدولية حتى أصبح الوسيط النقدي الأول للتسويات المالية و التجارية العالمية ؟ وكيف أصبح الدولار – من ثم – أكثر مضاء من قنابلها النووية في تنفيذ سياساتها مع العالم؟

قصة تسيد الدولار الأمريكي نظم التسويات المالية العالمية مرتبط سببيا مع ما انتجته الحرب العالمية الثانية من واقع اقتصادي شديدة التماثل مع الواقع الاقتصادي الذي أنتجته الحرب الراهنة.

شهد العالم خلال القرنين الماضيين ، ثلاث مراحل للتسويات المالية والتجارية.

أولها : نظام قاعدة الذهب الذي ساد منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918. كان ذاك نظام يكفل التبادل الحر للمسكوكات الذهبية ، و يوفر حرية استيراد وتصدير الذهب دون قيد أو شرط ، ويقوم على ضمان قانوني لقيمة الوحدة النقدية للبلد المعين مقومة بمقدار من الذهب الصافي ( أثنين جرام من الذهب تساوي واحد جنيه استرليني . او واحد جرام يساوي واحد فرنك فرنسي ) . و هكذا كانت تقيم جميع العملات بقيمتها من الذهب. و تمتنع البنوك المركزية من اصدار عملات الأ اذا توفر لما تصدره مقابلا مكافئا من الذهب . ذلك نظام وفر قدرات تلقائية يتحقق بها الأستقرار النقدي العادل في ذلك الزمن. ولهذا كانت الأسعار القياسية للذهب ثابتة لمدى زمني طويل . و تبعا لذلك كان صرف العملات ثابتا .

و لأن الحروب هي دائما حالقة الأنفس و الأموال، فأن الحرب العالمية الأولى استنزفت أرصدة الدول الأوربية المتحاربة ، فلجأت الدول الى بنوكها المركزية لأصدار نقود تمويل بها الحرب . و لما كانت البنوك مقيدة معادلة الأصدار النقدي حسب ما يعادله من الذهب ، فقد لجأت البنوك الى حيلتين:

اولهما ؛ اعفت الحكومات بنوكها المركزية من التقيد الصارم بقاعدة الذهب . و أقرت التعامل الملزم للأوراق النقدية ” البنكنوت ” على سبيل الأستدانة.

و ثانيهما ؛ لجأت دول أوربا للأستدانة من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بعد أن أودعت لديه معظم ما تملكه من ذهب . و مع ضغوط الأنفاق وتطاول سنين الحرب، تراكمت ديون البنوك على حكوماتها المتحاربة ، وانتقل جل مخزون تلك الحكومات من الذهب الى أمريكا. و من هناك بدأت عملة الولايات المتحدة ” الدولار” تشق طريقا ممهدا يتجاوز العملات الأوربية التي أنهكتها الحروب .

وأما المرحلة الثانية للتسويات المالية العالمية فقد كانت قصيرة و مزدوجة . بدأت بنهاية الحرب العالمية الأولى عام 1919 و انتهت بالأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في أوائل ثلاثينات القرن العشرين . كانت التسويات في هذه المرحلة تتراوح بين قاعدة الذهب التي أهتز التعامل بها من جهة ، وبين سلة من عملات كالدولار الأمريكي و الجنيه الإسترليني و الفرنك الفرنسي و الريال المجيدي. فطفقت كل دولة تدبر أمرها بما يناسبها في هذه الفترة .

وثالث مراحل قصة الدولار هي التي شرعها مؤتمر بريتون وودز الأقتصادي قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية ، وشاركت فيه الدول المنتصرة في الحرب.

مما يلزم بيانه ، انه قبل وأثناء الحرب ، كان الاقتصاد الأمريكي ، الذي تعافى من ازمته المالية عام 1929 و 1930 ، ينمو بنسب جيدة . كما هيأت احداث الدمار العسكري في أوربا فرصا متعاظمة لصادرات امريكا من الإمدادات الغذائية و المدنية و العتاد الحربي . كانت جل الصادرات الأمريكية لأوربا تسوى ماليتها ذهبا حتى توفر لأمريكا ارصدة ذهبية لا نظير لها في العالم. فالحروب التي يراها من هم تحت لهيبها دماء وأشلاء ، يراها الرأسماليون فرصا مواتية للثراء و التراكم المالي.

في العام الأخير للحرب العالمية الثانية ، صوب المنتصرون وحلفاؤهم الانظار نحو الولايات المتحدة . و انعقد مؤتمران لصياغة النظام العالمي لما بعد الحرب . أحدهما سياسي – دبلوماسي – أمني في سان فرانسيسكو، و هو الذي اقر ميثاق الأمم المتحدة الذي أنشأ هذه المنظمة بكل هياكلها. و الآخر هو مؤتمر بريتون وودز الذي انشا النظام الاقتصادي والمالي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

انتدبت بريطانيا ممثلا لها – لصياغة النظام النقدي الدولي لما بعد الحرب – الأكاديمي الأقتصادي الشهير جون كينز. وانتدبت امريكا الخبير في وزارة الخزانة الأمريكية ديكستر وايت. اقترح كينز انشاء منظومة مالية أسماها ” اتحاد المقاصة الدولية International Clearing Union ” كما اقترح استحداث عملة احتياطية عالمية اسماها ” بانكور Bancor ” . في المقابل اقترح الممثل الأمريكي وايت نظاما نقديا جديدا يكون الدولار الأمريكي في مركز حركته.

فلما كانت أوربا لا تزال مثخنة بدماء الحرب و دمارها على كل صعيد ، وبينما كان بنك الاحتياط الفيدرالي الامريكي يتوافر حينها على النسب الأعظم من ذهب العالم ، ظلت الدول الأخرى تائهة تتلمس لها جادة بين الزحام ، فقد تمكنت أمريكا من أملاء ارادتها في صياغة النظام النقدي العالمي.

الأرصدة النقدية العالمية قدرت حينها بحوالي 35 مليار من الدولارات. امتلكت امريكا منها حوالى 25 مليارا، بما يعادل ثلثي الرصيد العالمي.

اقر المؤتمرون في بريتون وودز مشروع المندوب الأمريكي ديكستر وايت على أن يكون الذهب هو معيار التقييم النقدي للنظام المالي العالمي الجديد ( حينها). واشترطت خلاصات المؤتمر على الدول الأعضاء ربط قيم عملاتها بمعيار الذهب ، بحيث تحدد كل دولة وزنا معلوما من الذهب لوحداتها النقدية الوطنية .

غير أن أمريكا الزمت المؤتمرين بصيغة مزدوجة للتسويات المالية الدولية يكون دولارها المقيم ذهبا هو المرجعية الوازنة في تلك التسويات. وتعهدت بوزن محدد من الذهب يعادل عملتها ، و كان ذلك 35 دولارا لكل أوقية ذهب. وتعهدت لكل دولة ان يكون ذلك القيد هو الذي تؤسس عليه كل تسوية مالية. كان ذلك مطمئنا للجميع ، خاصة أمريكا التي تجمعت عندها النسب الأعظم من الذهب العالمي ، علاوة على ثلثي ارصدة العالم النقدية.

انيطت مسؤولية الأشراف على تثبيت أسعار الصرف بصندوق النقد الدولي ، أحد أهم مؤسسات اتفاقية بريتون وودز . كما أنيط به التدخل لعلاج خلل موازين المدفوعات لكل دولة عضو.

استمر الوضع العالمي لربع قرن دون اضطراب كبير ، حتى رئاسة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون . ولأن الحروب – كما اسلفنا – هي دوما حالقة الأنفس و الأموال ، فقد استنزفت حرب امريكا على فيتنام خزائن الحكومة الأمريكية على سعتها. وسقط فيها عشرات الآلاف من القتلى ، كما سقط ضعفهم من الجرحى و ذوي العاهات البدنية النفسية. وتراكم الدين الأمريكي العام . و أوشكت الحرب ان تستنزف القاعدة المالية الأمريكية كلها. وفي 15 اغسطس 1971 ، خرج الرئيس الأمريكي نيكسون في خطاب أعلن فيه للعالم بأن الولايات المتحدة لن تسلم لحاملي الدولار ما يقابله بالذهب حسب صيغة بريتون وودز. و أن الدولار سيحدد سعره في أسواق المال بآلية العرض والطلب. و الى هنا اوصد هذا القرار (الذي باتت يعرف بصدمة نيكسون ) بوابة معيار الذهب التي كانت لقرون اداة التسويات المالية العالمية.

غير أن الولايات المتحدة الزمت القطاعات الأساسية الكبرى في التجارة الدولية ؛ كالنفط والغاز والسلاح و الغذاء … ان تجري تسوياتها بالدولار الأمريكي. و فرضت ذلك على كافة المعاملات التي تضطلع بها مؤسسات بريتون وودز و التي تتحكم في ادارتها و تصميم سياساتها لكونها المالك الأكبر للأصول المالية لتلك المؤسسات.

ولما استقر للولايات المتحدة سيطرة بلا نزاع على نظم التسويات المالية العالمية ،التي تدار بالدولار بنسب قد تصل الى 80% ، و بنظم مصرفية تغطي كل العالم ، جنحت لاستخدام عملتها أداة فعالة لتنفيذ سياستها الخارجية. و بهذا بات الدولار أهم اسلحة العقوبات ضد مناهضي السياسة الأمريكية في العالم.

لا تعبأ أمريكا كثيرا بالكلفة الإنسانية للعقوبات على المجتمعات المحلية. بل تعتبر تلك الكلفة ( كأنهيار العملات ، وتصاعد التضخم ، و تعقيدات الحياة ) ، هي الهدف الأول للعقوبات ، حتى يهتز التماسك المجتمعي و تتعاظم شروخه ، ويضعف كيان الدولة ونظامها السياسي بالقدر الذي يمكن امريكا من فرض استراتيجيتها تجاه البلد المستهدف بالعقوبات .

لم يسبق في تاريخ العلاقات الدولية هذا الاستخدام الكثيف للعقوبات الأقتصادية من قبل أمريكا تحت احساسها الطاغي بتحكمها بحركة المال العالمي من خلال الدولار.

و تحت احاسيس الأمم الصاعدة بالمظالم الجماعية التي تصنعها العقوبات ، نشأ تحالف البريكس الذي نسجت روابطه من خيوط تلك المظالم.

أن الاستقراء المنطقي لإعادة تشكل النظام الدولي ( على نحو ما ) عقب كل حرب اوربية بحجم الحرب الراهنة ، يتعزز بظاهرة التغير المتسارع لهياكل و مراكز القوة في النظام الدولي.

في ما مضى كان هذا التغير يتم متدرجا عبر قرون طويلة ( قد تتجاوز خمسة قرون ) تحل خلالها هيمنة إمبراطورية مكان أخرى. غير انه في غضون المائة سنة الأخيرة ، تغيرت هيكل القوة العالمية خمس مرات .

في أيام الحرب العالمية الأولى كان نجم بريطانيا و فرنسا هو الأكثر صعودا.

القوى التالية في النفوذ لفرنسا و بريطانيا هي ألمانيا و اليابان.

القوى المنحدرة في النفوذ هي الإمبراطورية العثمانية و الإمبراطورية الروسية القيصرية.

بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت القوة البريطانية هي الأبرز مع ارتباطها الأستراتيجي بأمريكا.

في ذات الأثناء أخذت ألمانيا النازية و روسيا السوفيتية في الصعود.

بنهاية الحرب العالمية الثانية ، و أشتعال الحرب الباردة همدت حيوية أوربا الأستراتيجية، وصعدت لمسرح القيادة الولايات المتحدة والأتحاد السوفيتي.

بتفكك الأتحاد السوفيتي وصعود الولايات المتحدة ، انفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي الراهن.

منذ تفكك الأتحاد السوفيتي توالى صعود مضطرد لعدد من الدول التي جمعتها احاسيس المظالم الجماعية التي تكرسها الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي الراهن في ابعاده السياسية والأقتصادية والمجتمعية.

ولهذا فأن دعوات أعادة هيكلة النظام الدولي تطرق بقوة عصب النزوع للعدالة والاستقلال والتوازن في علاقات أمم الارض. و لأجل ذلك ، يتم اليوم تداول متعدد الأطراف موضوعه تآكل مؤسسات النظام الدولي الراهن ، وتنامي الاعتقاد بأنه بات تدريجيا غير قادر على المعالجة القادرة والعادلة لحل القضايا الدولية.

ازاء كل ذلك، فأن الأستقراء الأرجح أن يسفر الصراع العسكري الراهن على المسرح الأوربي الى حراك غير مسبوق ، منذ ثمانية عقود ، وجهته القاصدة شكل جديد للعلاقات الدولية.

الأنهاك الأقتصادي المبكر الذي أصاب الغرب جراء الحرب الراهنة يشابه بدرجة أقرب للتطابق ما أصاب أوربا ابان الحرب العالمية الثانية . من المدهش أن ثمانين عاما من الهيمنة الغربية على العالم ، و مع كل معطيات التقنية و تطورها المذهل ، لم تتغير كثيرا أنماط الصراع العالمي وتداعياته السياسية والاقتصادية بين أمريكا و أوربا من جهة ، و بقية العالم من جهة أخرى. نظرة عجلى ستعيد للأذهان كيف قادت ( بتلقائية وانسياب ) يوميات الحرب العالمية الثانية الى تشكل النظام الدولي الراهن . وكيف تطابقت تداعيات تلك الحرب بعد ثمانين عاما ، مع تداعيات الحرب الراهنة !

** مع بداية الحرب الراهنة قبل تسعة أشهر فرض الغرب حزما متصاعدة من عقوبات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة .

** ازاء هذا ربطت روسيا صادراتها من النفط والغاز الى أوربا برفع العقوبات.

** نتج عن هذا التداعي ان منتجي الصلب في اكبر الاقتصادات الاوربية اغلقوا كليا أو جزئيا مصانعهم . فقد تم تخفيض انتاج أكبر مصهر للألمونيوم في اوربا أنتاجه بنسبة 22% كمرحلة اولى. وسيتوالى اغلاق جميع الصناعات التحويلية الألمانية بنسب متفاوتة.

حتى الأعمال الصغيرة كالمخابز و المطاعم اغلقت بنسب متفاوتة بسبب نقص امدادات الطاقة الروسية. فلم يعد مالكو تلك الأعمال قادرين على مقابلة رسوم الأمداد الكهربائي لأعمالهم التي تجاوزت اضعاف ما كانوا يدفعون.

وبسبب ذلك تشهد اوربا تضخما ماليا غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.

و مع تعثر الأعمال تناقصت مداخيل الافراد ، و هوت قدراتهم الشرائية. و بات الجميع يترقب سونامي الافلاس الذي تتبعه موجات من البطالة و عجز أصحاب العمل عن سداد اقساط التمويلات المصرفية.

** اشترعت عدد من الدول الأوربية قوانين داعمة لسياسات التقشف . غير ان الغربيون الذين اعتادوا على مستوى معيشي مرفه ، لا بد ان تتداعى معارضاتهم لتلك السياسات لتبلغ اهتزازات سياسية واجتماعية قد تطيح بكثير من الحكومات.

سيسير تداعي الأحداث و ترابط حلقاتها وفقا لما ينعته الأستراتيجيون الأمريكيون بمنهج الارتباط (linkage approach )، أو وفقا لتواتر الأثر المتعدي لحدث ما على حالات أخرى مرتبطة به أو مشابهة له (The spillover effect)،  حينها سنرى آثارا بالغة لظواهر متشعبة على كل حقل للعلاقات الدولية .. هذه ظواهر لا تناظرها ( و ان بدرجة أقل ) ألا التفاهمات الساسية للحلفاء المنتصرين في يالطا قبيل نهايات الحرب العالمية الثانية عام 1945، والتي كان خاتمتها تشكل النظام الدولي الراهن.

 

 

 

إبراهيم الكباشي

16 نوفمبر 2022

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...