عبد الحفيظ مريود يكتب: قلتوا لي شنو؟

بدون زعل

كنت، وأنا شاب أتعرف على الحياة، حين أسأل شخصاً عن قبيلته “إنت جنسك شنو؟”، ثم لا يرد، يتحسس، يتقومن أو يتوطن، يتسودن، فإننى أصرف النظر عن أي حوار مستقبلي معه.. أي تفاهمات يمكنها أن توطد المعرفة بيننا. وذلك ببساطة، لأنني لا أرى في القبيلة – من حيث هي انتماءً أولى – عيباً، منقصة، أو انصرافاً إلى النعرات. وحين ذهبت لاستخراج الرقم الوطني، سألني المتحري عن القبيلة، أجبته، فجعل يمرر “الماوس” في قائمة القبائل، صعوداً وهبوطاً، ليضعها في الخانة المخصصة لها، كنت أتابع – بشغف بالغ – أسماء القبائل المسرعة في رحلة البحث تلك.. تلك واحدة من متعي الفريدة..
شايف كيف؟
حيث نشأت، في مجتمع السكة الحديد، كان كل أحد موجوداً. كل قبيلة حاضرة، تماماً. ومع ذلك كنا “أولاد سكة حديد”. ينصهر شتيت القبائل تلك، في بلدة محترمة هي بابنوسة، عاصمة الإقليم الغربي للسكة حديد، وهي ديار المسيرية، بحيث لا يستطيع أحد أن ينزع عنك انتماءك إليها، ولا انتماءك للسكة الحديد، ولا انتماءك للقبيلة. وهي نشأة تحصنك – من حيث لا تشعر – من الانجراف وراء الأوهام. ستجد ثراء وبحبوحة في الانصهار في الجميع.
شايف كيف؟
لاحقاً، وقعت على كتاب “كرري” للرائد عصمت حسن زلفو. وهو كتاب في أصله رسالة لنيل الماجستير في العلوم العسكرية، الرجل بحّاثة ضليع. في خاتمة الكتاب قدم ملحقاً للقبائل التي شاركت في معركة كرري، بالأرقام الدقيقة. لكأنني وجدت كنزاً قبل أن أنهض نهضة جاسرة لآلتهم كل ما يقع في يدي عن قبائل السودان. تأريخاً، نسباً، بطولات، رموزاً، دياراً، تحالفات، حروبات وغيرها. ثمة متعة ومعارف جمة في التعرف على الناس والقبائل فيما بعد، هيأت لي مهنتي – وأعتبر نفسي من المحظوظين فيها – تطوافاً واسعاً في كل السودان. مدنه وقراه.. أصقاعه كلها. فتعرفت أكثر على الناس والبلاد والقبائل.
لا حاجة لي لأن أذكر أنني أشعر بالانتماء لها جميعاً. شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً ووسطاً.. أغوص في تفاصيلها وثقافاتها، أحترمها بلا أدنى تحايل كتابي..
شايف كيف؟
توسعت في المعارف القبلية، متوغلاً في الهضبة الإثيوبية، غرب أفريقيا، شمالها. تطربني المعرفة، هذه.
لاحظت مؤخراً حساسيات في غير موضعها. يراسلني أحباء وأصدقاء، ويهاتفونني. يظنون أنني أثير النعرات العنصرية. أدعو إلى القبلية، أرفع أناساً وأضع آخرين. كيف يستقيم ذلك؟ كيف لرجل من غمار الناس أن يرفع قبيلة أو يحط من قدر أخرى؟ هل القبائل من الهشاشة والركاكة بحيث يفعل بها شخص مجهول ذلك؟ ذلك أنني لست عالماً في الإنثروبولوجيا، ولا مؤرخاً مشهوداً له بالكفاءة والتثبت، ولست نسابة نحريراً.. أتونس مع أصدقاء أحبهم جداً، على صفحة شخصية (أون فيسبوك)، وليست، حتى كتابة بمعنى الكتابة.. خستكات وطرف وحكايات أغلبها مسموع.. لا شيء رسمي ههنا.. هذه ليست حولية في دراسات متعمقة في أي شيء… ونسة بس..
ومع احترامي الفائق للأصدقاء المشفقين، كيف تعرف وطنك إذا لم تعرف ناسه وقبائله وتراثه وعاداته وثقافاته؟ هل يكفى أن تقول: “أنا سوداني أنا”، ليكون كل شيء على ما يرام؟
في الكلمة التي نشرتها هنا، عن الأمير أبو كدوك، صححني إخوة أعزاء إلى أن محمد الكبير الكتبي شايقي، وليس برتاوياً. وأن أحمد سليمان ضوالبيت حمري، وأن البروف التجاني حسن الأمين من الخزام، الذين يسكنون ديار الحوازمة.. أليس ذلك رائعاً وطبيعياً؟ أليس من صححني يعرف قبائل الناس؟ هل هي معرفة منتنة؟
شايف كيف؟
الدكتور عوض الكريم الزين قال كلاماً ساخناً، لأنني قلت إن ما قام به الأشراف ضد الخليفة كان تمرداً وليس ثورة. أدلتي على ذلك أن المهدي تبرأ منهم في خطبة مشهورة، لنيلهم من قدر الخليفة في حياة المهدي، وأن حركتهم بعد وفاته لم تلتف حولها القبائل التي بايعت الخليفة، وغيره من الأدلة على التمرد، ولم أقدح في الأشراف، لا من قريب أو بعيد.. يمكن للوقائع التاريخية أن ترجح زعمي هذا، أو تنقضه. لكنه لا يعد بأي حال ” تطاولاً” على أحد، كما أنه لا يعكس إحساسي بأي “دونية”.. لكن لم يضع أحد الحجج التي جعلت المؤرخين يطلقون على تمرد الجوامعة في جبل الداير تمرداً، فيما تكون فعلة الأشراف “ثورة”، موضع البحث والمساءلة، ليقوم بوزنها، علمياً، وبالتالي يضع لها التسمية اللائقة.
ثم إن “قصة الإحساس بالدونية” دي، أو الابتزاز السياسي دي لم تعد فزاعات تخيف أحداً.. ليس كل من جهر بالحق، نادى بإعادة تعريف وتوضيع الأشياء والمسميات تحركه “دونية”. مع ملاحظة أن نعتك لأحد ما، بها، يستبطن شعوراً بالتفوق والاستعلاء، بلا أدنى ريب.. بمثلما أن عملك لرفع أي نوع من الظلم عنك، عن أي حد كان، في أي مكان كان، هو انسجام كامل مع التوجيهات الإلهية، وتطبيق لإنسانيتك في المقام الأول.. من يراه “خطاب مظلومية”، أو “ابتزازاً سياسياً”، إما أن يكون فاقداً للأهلية الدينية والإنسانية، أو متعامٍ عن الحق.
شايف كيف؟
يتعامل أغلب أهل الغرب مع الشماليين كـ”جلابة”. كتلة بشرية ومفاهيمية واحدة، متجانسة، لا تتمفصل، وهو رأي خاطل.. إذ لو اقتربوا – تعارفاً إنسانياً وتآلفاً قومياً – لوجدوا أن الشمال عوالم كثيرة، مفاوز ومشارب، وليس الصورة المتوهمة.. وبالنسبة لهم – الغرابة – فإن الشرق أكثر انبهاماً من الشمال.. فيما يتوه الشماليون – الغالب منهم – في كتلة الغرب المتوهمة.. لا يميزون لهجاته، ثقافاته، فنونه.. وهكذا. يسير ما يسمى بالوطن جاهلاً أعضاءه، جهلاً مقعداً، مثيراً للأسى، وهو جهل يتعاهده أصحابه بالرعاية والتستر، تحت دعاوى القومية، لكأن السوية البشرية تكاملت متخلصة عن علل التكوين الإلهي “شعوباً وقبائل لتعارفوا”.. ولا يخفى توثب دعاوى “الوطنية، القومية، الإنسانية” متجاهلة الجذور الأولى.
ماذا قلت؟
قلت الاستنكاف عن الفطرة جهل محض، أن تكون شاخصاً نحو “إنسانية” خلقها الله من أسرة، فعائلة، فعشيرة، فقبيلة، فقوم، فأمة.. إعطاء كل حلقة حظها ليس سيئاً، إذا تم وفقاً للتخطيط الرباني.
شايف؟
على العموم، لو فهم أي شخص أنني أميل إلى قبيلة، أعلي شأن جهة ما، أحط من قدر قبيلة أو جهة، فتلك توهمات صنعتها المعابثات والممالحات الودودة، فقط. لم أعش ضمن مضارب قبيلة، قط.. ولا أعرف كيف يكون ذلك. فكيف أدعو إلى شيء أجهله؟
هذا هذا، والسلام.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...