عبدالحفيظ مريود: كنداكة نحنسا ليك…
بدون زعل
في بابنوسة المتوسطة بنين، طلب أستاذ الرياضيات، محمد حسن برنجي، أن أحضر ولي أمري.. وصالح عيسى مريود – عليه رحمة الله – يتملكه قلق عضوض، كلما أخبرته بذلك.. ثمة – دائماً – احتمال لفصلي من المدرسة، حدث ذلك ثلاث مرات، خلال عامين، وتدخل مجلس الآباء، فأعادني.
هذه المرة كان أستاذ برنجي لطيفاً، تحدث معه في حضوري. قال إنني جيد، ذكي، لكنه لا يعرف لماذا أنفر من الرياضيات، هو يقطع الشك بأنني لو أردت لفهمتها جيداً، لكن هناك سبب يجهله، يطلب إلى أبي- سائق الونش بالسكة حديد – أن يساعده على اكتشافه.. وعده خيراً، وذهب إلى الورشة، فيما ذهبت إلى الصف.
رجعت البيت، وكان سعيداً أنني لم أرتكب كبيرة من كبائري. سألني، وقد بدا تأثير طريقة أستاذ برنجي، واضحاً، في تعاطيه مع الموضوع: ما هي مشكلتك؟ قلت له “مشكلتي أستاذ عبد الله أبو القاسم”.. علت وجهه دهشة، عبد الله أبو القاسم كان أستاذكم في الابتدائية (أ)، بنين، ما دخله بالمتوسطة، وأنت في الصف الثاني؟
أعرف أنه لن يفهم، قلت تلك مشكلتي.. إذا أردتم حلها، فاذهب أنت وبرنجي وعبد الله الحريكة، مدير المتوسطة، إلى عبد الله أبو القاسم، مدرس الرياضيات في الصف السادس، بالابتدائية (أ)، بنين.
شايف كيف؟
تتوهم أن خط ٢٢ درجة هو الذي يفصل مصر والسودان، منذ أن خلق الله الأرض، يقسم جبل الصحابة نصفين، وحين ينهض مشروع السد العالي، تغرق البحيرة مدينة وادي حلفا والكثير من القرى، ويجري تهجير الأهالي إلى البطانة. تتوهم نخب من الحلفاويين، لاحقاً، أن السد، إنما أقيم هناك لطمس آثار النوبة، لتغيير معالم التاريخ النوبي العظيم، هل يمكن أن يكون ذلك صحيحاً؟
وتنغرس دبابيس ناعمة دقيقة في جسد البجا، إذا لمح أحد ما، إلى أنهم أضاعوا فرص مهولة في تحسين الحياة في الشرق، والسودان عموماً، متخذاً من حكايات عن أدروب، تكأة للنظر إلى المشهد الإجمالي (درون فيو)، كما يحب ناس الإعلام المتخذلقون أن يقولوا.. أدروب يعمل عتالي في الميناء، يرعى الإبل مسافات طويلة.. إلخ.. وذلك دليل على الكسل، لا النشاط.. فهي مهن مؤهلاتها الكسل الفطري اللذيذ.
شايف كيف؟
وحين تنفرط الأوضاع في دار مساليت، يذهب الجميع إلى أن العرب “الجنجويد” يريدون أن يجلوا السكان الأصليين ليحلوا محلهم، إمعاناً في الكسل.. فأدروب هو السوداني، عموماً، وليس البجاوي، وحده هو رمز، فقط.. ينطبق الأمر على الجميع: حمر، فور، مسيرية، جعليين، شوايقة، حسنات، هواوير، بزعة، بيقو، إرنقا، بني عامر، دناقلة، حلاويين، فونج، برتي.. الجميع، بلا استثناء.
شايف كيف؟
يحدث أن يستسلم الجميع لما يسميه بيير بورديو “السلطة التربوية”، التي تنظم علاقات القوة، وتجعل نمطاً مهيمناً، ثقافياً، النموذج المثالي الذي لا يهادن، لا يضع احتمالات لأن يكون هناك صواب خارجه، والاستسلام، بمنطق علاقات القوة، كسل لا شك فيه انقياد أعمى، لا يستنبط ضوءاً.
ذلك أن أقل مجهود بحثي سيقودك إلى أن المنطقة التي أقيم عليها السد العالي هي أكبر مستعمرة مصرية في أرض النوبة، وسواء أكان الأمر متعلقاً بمعابد بوهين، سمنة، أو أبو سمبل، فإن الآثار التي طمرتها المياه، أو تم ترحليها في مصر أو السودان، ليس فيها من أثر نوبي واحد، اللهم إلا بعض آثار الفترة المسيحية في “فرس”، التي جلبت من كاتدرائيتها إلى المتحف القومي، بالخرطوم. لم يبنِ أي نوبي (في مصر أو السودان)، معبداً من المعابد تلك.. لكن لأن ثمة وهم جرى تصويره وتصديره والاستسلام له، فإننا نخوض في الوحل، في الوهم، مشمرين، وغاضبين بلا حدود.
شايف كيف؟
ومثله مثل الاستيقان من أن هناك سكان أصليون، وآخرون “مهاجرون”.. في حالة الغليان في دار مساليت، وغيرها.. نحل المشكلة بأن “نرجع المهاجرين إلى بلدانهم التي أتوا منها.. تشاد، النيجر، مالي، نيجيريا..الخ”.. حسناً: كيف سنفعل ذلك؟ وما هي كلفته الثقافية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل هي أقل من كلفة إعادة فتح سؤال: علاقات الأرض في المجتمع السوداني؟ هل يقع ذلك على الرشايدة، البني عامر، الحباب، المغاربة، الشناقيط؟ أم إن البحث عن صيغ أنجز وأنجع في بناء ذات قومية متضامنة وقائمة على أعمدة صلدة في التعايش وغيره هو الأكثر تحدياً للعقل، والأنفي لصفة الكسل؟
شايف كيف؟
وهو ذات سياق الدفاع المستميت عن “كسل أدروب الفطري، مبالاته، مكاجرته ونفخته الكاذبة”، التي يمكنك أن تسحبها على الجميع: أقدم شعوب المنطقة، ورثة الحضارات العتيقة، الأكثر فهماً وعلماً ورقياً.. إذ هي على أرض الواقع تظل مجرد ادعاءات ومناورات لا تسعفها الحياة اليومية، ولا السنوية ولا القرنية، ولا الألفية.. فعن ماذا ندافع؟
يظل فخ الأستاذ عبد الله أبو القاسم، أستاذ الرياضيات بالصف السادس الابتدائي، بمدرسة بابنوسة الابتدائية (أ)، هو فخ الجميع.. الطريقة التي لا تحتمل إمكانية ارتكاب خطأ واحد ضمن عشر مسائل رياضية.. وبدلاً عن تمجيد الإجابات التسع الصحيحة، يتوجب جلدك ثلاثة سيطان لارتكابك خطأً في حل المسألة العاشرة.. وكلما كثرت الأخطاء زاد نصيبك من الجلد.. فالإجابات نموذجية، في تعليم المقهورين.. لا تمكنك من اكتشاف عبثية المسألة، دع عنك إمكانية وضع مسألة أكثر إلحاحاً..
من يمكنه أن يكتشف أن مصادرة الترجمة العربية من معرض الخرطوم للكتاب عام ٢٠١٧م ” النوبيون العظماء”، تم لأسباب علمية وأخلاقية، وليس لأن “الذهن العروبي في السودان يحاول أن يسلب ورثة الحضارة مكتسباتهم”؟
لتكتشف ذلك وغيره، عليك أن تقاطع طرائق تدريس الرياضيات، وتخطي “العنف الرمزي” الكامن في علم الاجتماع التربوي، كما بحثه بيير، ذاك..
بطل كسل فطري ياخ.