ثمة تشابه بين اللواء في الجيش البريطاني والإداري البارز في الحقبة الاستعمارية تشارلز جورج غردون، وأدولف هتلر زعيم ألمانيا، فإن كان الثاني عرف عنه ولعه واهتمامه بالرسم والتلوين، فإن وجود بيانو ضمن مقتنيات الأول، ربما أشار أيضاً إلى افتتانه بالموسيقى، وتفتح العلاقة بين الاهتمام بالفنون وصلف السلطة والتسلط، سؤالاً على أكثر من جانب، مثلاً هل يمكن أن ننظر إلى الضابط الإنجليزي بوصفه أرستقراطياً، إذ إن البيانو وإلى تاريخ قريب ارتبط في الذاكرة بهذه الطبقة؟
اللافت والأكثر أهمية ما الذي يجعل الجنرال يقتني منظاراً وما صلة ذلك بتسمية كلية غردون التي تحولت لاحقاً إلى جامعة الخرطوم، كل هذه الأسئلة تدفعنا إلى مزيد من البحث في شخصية الباشا الأشهر في فترة الحكم التركي في السودان الممتد من عام 1821 إلى 1885م الذي انتهى بمقتل غردون على يد أنصار محمد أحمد المهدي محرراً البلاد من قبضة المستعمر، قبل عودة ثانية للاستعمار قبل نهاية القرن الـ19 الميلاي.
من هو غردون؟
هو ضابط، كان والده لواء في الجيش البريطاني، تلقى علومه في مدرسة فولاندز في تاونتون بسومرست، وفي الأكاديمية الملكية العسكرية، وبعد تخرجه منها برتبة ملازم ثان، ألحق بسلاح الهندسة الملكي عام 1852، لتبدأ مسيرة طويلة ومظفرة حارب فيها على جبهات عديدة، رافعاً لواء الإمبراطورية العظمى.
مقتنيات نادرة
في متحف القصر الجمهوري (الرئاسي) في العاصمة السودانية الخرطوم، يحتل بيانو جورج المغبر المكسور مكاناً مميزاً داخل مجسم من الخشب الداكن مكسواً بالزجاج، ليتم عرضه بطريقة عصرية تسحر ألباب الزائرين.
بحسب روايات الباحثين كان الجنرال يعزف على البيانو إبان وجوده في السرايا التي عرفت بعد ذلك بـ”القصر الجمهوري”، وقيل إنه ظل يستخدمه حتى لحظة حصاره من جانب قوات ثورة المهدية حيث لقي مصرعه على أيديهم في مدخلها.
تخليداً للذكرى
آدم يعقوب عثمان، أمين متحف القصر الجمهوري قال “المبنى الحالي كان في السابق كنيسة للحاكم العام وتم تشييده تخليداً لذكرى مقتل غرودن، وسمي سرايا الحاكم العام”، وكانت كل الاحتفالات الدينية تقام فيه، وفي عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري أي في سبعينيات القرن الماضي أغلق المبنى حتى عام 2000، ليفتتح رسمياً كمتحف خاص بالقصر يوثق لأهم الأحداث التي أدت إلى استقلال السودان.
ولفت إلى أن المتحف يضم عدة أجزاء من بينها التوثيق لمقاومة السودانيين للاستعمار ومقاومة الدولة المهدية للحكم التركي حتى رفع علم استقلال البلاد، إضافة الى حفظ كل ما يتصل بصور الرؤساء وسيرهم الذاتية ابتداء من الراحل إسماعيل الأزهري أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال حتى مجلس السيادة الحالي، ويضم المتحف أثاثاً وأدوات استخدمت في فترة الحكم الثنائي، أما الجزء الثالث فقد تم تخصيصه للهدايا الرئاسية من أماكن مختلفة داخل وخارج السودان”.
صور نادرة
في ما يتعلق بمقتنيات غردون يمضي أمين المتحف قائلاً “توجد السير الذاتية للجنرال والبيانو الخاص به الذي تم جلبه إلى السودان في عام 1884، بجانب التوثيق لمقتله بواسطة جنود المهدية داخل المبنى (السرايا) سابقاً، وصور توثق لاقتحام أنصار المهدي للقصر القديم، واللافت أن البيانو تم إخراجه من أنقاض المبنى القديم، وهو مكون من الخشب والبلاستيك والنحاس، كما توجد صورتان للضابط الإنجليزي الأشهر، واحدة بالزي الرسمي وأخرى بالملابس الصينية التقليدية إضافة إلى مخطوطات قديمة”.
وأضاف عثمان “يحرص مئات على زيارة متحف القصر الجمهوري للتعرف على مقتنيات غردون تحديداً والسؤال الدائم عنها بالتفاصيل كافة، وتولى المدارس والجامعات السودانية اهتماماً متعاظماً بالمتحف عبر إيفاد التلاميذ والطلاب من الجنسين للتعرف على التاريخ، كما يعد المتحف مزاراً لعدد كبير من السياح الأجانب”.
وتابع “يحفز الفضول الغالبية على معرفة تفاصيل مقتل الجنرال والتوقف كثيراً عند صور اقتحام القصر، كما يجد البيانو اهتماماً كبيراً من الفنانين والطلاب والأجانب”.
مقتنيات تاريخية
في موازاة ذلك اهتم متحف بيت الخليفة في العاصمة الوطنية وأيقونة الثورة المهدية أمدرمان بالتوثيق لمقتنيات غردون، إذ يضم مجموعة من المتعلقات الشخصية الخاصة بالجنرال، وهي عبارة عن صور “الجبة” لباسه التقليدي، و”الطاقية” التي كان يضعها على رأسه عندما تولى منصب الحاكم العام للبلاد إلى جانب “الكرسي” الذي يجلس عليه و”الركوة” أو “الإبريق” الخاص به بجانب “الجمل” أو “البعير” ذي السنامين للاستعانة به في رحلات الأقاليم السودانية.
سقوط المنتصر
الباحث في التاريخ معتصم يونس قال إن “أهم محطات الجنرال غردون كانت الصين، ونجح في المهمة بعد أن قمع المناهضين للتوغل الغربي الإنجليزي قمعاً شديداً، ليسمي جيشه بالمنتصر دائماً، في ذلك الوقت كان السودان يتبع للخديوية المصرية التي استعانت بهذا الضابط البريطاني وأرسل للخرطوم عام 1878، بعد أن عمت الثورة المهدية ربوع البلاد وأحرزت كثيراً من الانتصارات على الحكم التركي”.
وأضاف يونس “أوكلت للرجل مهمتين سابقتين بالسودان، لكن المهمة الثالثة والكبرى له كانت إخلاء الخرطوم، التي كلف بها في عام 1884، لكنها وضعت حداً لنجاحات قائد الجيش المنتصر دائماً بعد أن طوق جنود المهدي سرايا الحاكم العام من كل جانب وقتل غردون وفصلت رأسه عن الجسد وأرسلت إلى إنجلترا نكاية بأهله، ومن ثم بعد 13 عاماً، زحف هربرت كتشنر على البلاد وآباد معظم جيوش المهدية ودخل السودان مرحلة ما يسمى بالحكم الثنائي”.
كلية غردون
خلدت ذكرى الرجل من قبل المستعمر بإنشاء مدرسة عليا أطلق عليها “كلية غردون التذكارية” في عام 1902، أصبحت في ما بعد تحمل اسم “جامعة الخرطوم”، كبرى جامعات البلاد. المبنى الرئيس يضم المكتبة الكبرى “المين”، صمم هندسياً على شكل الحرف (G) أول أحرف لاسم غردون باللغة الإنجليزية.
ارتباط وثيق
الباحث والمعماري البروفيسور هاشم خليفة محجوب أوضح أنه “وضع حجر أساس مجمع كلية غردون بواسطة إدارة الحكم الثنائي البريطاني المصري في نهاية القرن الـ19، في موقعه الحالي على ضفاف النيل الأزرق بالخرطوم، واكتسب هذا المشروع أهمية خاصة للغاية منذ مرحلة تبلور فكرته الأولى في ديار أهله في بريطانيا التي أضفت عليه صفة التذكارية، وحملها اسمه الزاخر بالمضامين لارتباطه بواحد من أهم شخصيات أمته زمانئذ، هو غردون باشا حاكم السودان في نهاية حقبة الاستعمار التركي للبلاد الذي اغتاله أنصار المهدي على أعتاب قصر الحكم ليضعوا نهاية لتلك الحقبة، فكتبت تلك النهاية الدراماتيكية صفحة إضافية مضيئة وفق معايير أمته رفعته لرتبة الشهداء والقديسين، إذ هزت وجدانهم وأججت مشاعرهم التي ترجمت وتبلورت في فكرة تبني مشروع كبير مهم تخليداً لذكراه”.
ريادة العمارة
يعلق محجوب على المبنى قائلاً “شكل ضربة البداية في ريادة وقيادة حركة العمارة في السودان بتاريخنا الحديث، ودشن في ذلك الموقع انطلاقة عمارة الطوب الأحمر (السدابة)، الخامة البنائية التي تبناها الجانب البريطاني من واقع تعلقه التاريخي وافتتانه البالغ بها، قدمها هنا في إطار كلاسيكي كامل الدسم، لكنها جاءت أيضاً مدارية التصميم والسمات (أي أخذت طابع المناطق المدراية)، إذ تعاملت بحصافة بالغة مع مناخاتنا الحارة ونجحت في ترويضها، ومهابتها البائنة تتجلى في ضخامتها المفرطة وتفاصيلها المدهشة”.
أضاف “لاحقاً نهضت مباني بعض الكليات هنا وهناك، وجاءت سمات عمارتها الكلاسيكية مخففة الملامح والسمات، ومن أهم ما ميزها إضافة إلى تلك الجوانب الطرازية تكرار فكرة الصحن الوسطى، والتفاف عدد من أجزاء المبنى حول فناء وسطي مفتوح للسماء اهتموا بتشجيره وتخضيره، فصار أشبه بالواحة، وهو أمر كان بالغ الأهمية بالنسبة إلى هؤلاء القوم القادمين من بلاد باردة، الذين كانت حرارة طقس السودان واحدة من أهم هواجسهم، وقد خدم ذلك الصحن أهدافاً أخرى لا تقل أهمية إضافة إلى تلطيف الجو، إذ وفر المساحة وأتاح المجال للقاءات الأساتذة والطلاب فعزز من الروابط المجتمعية”.