د/أسامة عيدروس يكتب: اللحظة الحرجة سيناريو الخروج

فيلم أبوكاليبتو بالإنجليزية (Apocalypto) هو فيلم ملحمي من إنتاج عام 2006 وإخراج الممثل الأمريكي ميل غيبسون. تدور قصة الفيلم في أمريكا الوسطى ويصور آخر لجظات نهاية حضارة المايا. يقدم الفيلم قصة رجل من أبناء القبائل يفر من آسرية الذين خربوا قريته واختطفوا رجالها كي يقدموهم ضحايا للآلهة ولكن خسوف الشمس أنقذهم ففر بطل الفيلم بعد أن قتل ابن قائد الحامية الذي يطارده مع رجاله. الفيلم يدور داخل غابات الأمازون ويقدم صور بصرية غاية في الروعة مع حبكة درامية في تفاصيل آسرة تجعلك تحبس أنفاسك مع كل لقطة جديدة ومشهد للفيلم. يستطيع البطل انقاذ أسرته الصغيرة المختفية في البئر قبل غرقهم مع زيادة منسوب المياه بعد الأمطار ويتخلل ذلك مشهد الزوجة وهي تضع طفلها الثاني داخل الماء. ويقوم البطل تدفعه غريزة المحافظة على حياته بقتل ستة من ثمانية رجال يطاردونه. وينتهي الفيلم بآخر المطاردين يحاصرون البطل مع شاطيء البحر. ويتسمر الجميع أمام هول مشهد السفن الاستعمارية الضخمة وهي ترسو على نفس الشاطيء تؤذن ببداية النهاية وخراب حضارة المايا بكل تاريخها.
الاستغراق الذي يتملكك وانت تستمتع بمتابعة التفاصيل الصغيرة في الفيلم ..كل مشهد..كل منظر..القصة..الصراع…المعارك مع الاخرين..المعارك مع الطبيعة…غريزة البقاء…كل هذه التفاصيل تجعل عقلك يغيب تماما وينفصل مما حوله…حتى تأتي صدمة النهاية..فتجد نفسك مصدوما أيضا…تتحسر على حال هؤلاء الذي كان يمكن أن يصنعوا لأنفسهم حياة جيدة ..أن يتحدوا جميعا ليصنعوا الحياة..ولكنهم بدلا من ذلك عاشوا في جزر معزولة لا ترى الا داخل الحيز الضيق الذي حبست نفسها فيه وأصبحت لا ترى الاخر الا شيطانا أو عدوا محتملا أو خصما في صراعاتها الضيقة حول مصالح متوهمة تتوه في ثناياها المصالح الحقيقية.
هل نحن في انتظار الابوكاليبتو؟
ستون عاما تمر اليوم منذ استقلال السودان وما زالت البلاد مكبلة وعاجزة عن صياغة مشروعها الوطني الذي يعبر عن أماني أبنائها. التفاصيل التي تشغلنا اليوم قد تشظت وتشعبت وأصبحت من الكثرة الغالبة حتى أصبحنا لا نعرف على وجه الدقة ما هو موقفنا الحالي..وهل نحن على شفير الهاوية أم أننا قد هوينا فعلا؟ أم أننا على مشارف نهضة قادمة فقط يجب علينا الانتظار والصبر قليلا على هذا الضيق الذي نعيش فيه؟ التفاصيل تستغرقنا لأنها تفاصيل عنيفة جدا…محزنة جدا…محبطة جدا. البلد محاصرة اقتصاديا بصورة غير مسبوقة فحتى كوبا ظلت تتعامل مع أوربا طوال سنوات الحصار الأمريكي بينما سدت الابواب أمام السودان من الجميع ويعجز بنك السودان عن تمويل شراء أي شيء من الخارج حتى ولو كانت أدوية منقذة للحياة.
الحروب مزقت النسيج الاجتماعي وما تزال وتركت بؤسا تظهر ملامحه في وجوه السودانيين أينما تولوا. استطال أمد هذه الحروب حتى أصبحت مخلفاتها ندوبا غائرة لا يمكن اخفاءها أو تجاوزها بأي اجراءات مؤقتة أو تفاوض فج. معسكرات النزوح أنشأت أجيالا كاملة لا تعرف دفء القرية ولا أعرافها وتقاليدها. والمدن الواسعة القاسية تمد لسانها كل حين للوافدين من البعيد لا توفر لهم مأوى دافيء ولا فرص عمل كريمة. دخل الخراب الى النفوس وسكنها الحزن المقيم. الحرب فعل شنيع وقاس لا تذهب آثاره الا بعد عمر طويل وأجيال متعاقبة تستطيع المسامحة والغفران.
المجتمع نفسه أصابته الأحداث المتلاحقة بالعجز، العجز أن يعالج، العجز أن يسكن الجراح، العجز أن يجمع الصفوف. ذبحت الجودية مع أول رصاصة وتوارت هيبة رجالات الادارة الاهلية والقيادات الدينية والمثقفين والمهنيين…كلهم أصابهم الخرس وهم يشهدون القرابين تساق للذبح في أعلى قمة هرم المايا لأجل الوفاء بنبوءة عرافة كاذبة. ماتت في المجتمع تلك المخيلة التي تصنع الأمل وتقفز فوق الحوادث وتنظر إلى المستقبل بعين ترى أمامها الصغار يولدون كل يوم فتنسى نفسها كأي أم رؤوم كي توفر لهم المأوى والمأكل والملبس والصحة والتعليم وتفتح لهم أبواب الأمل. لكن النخب السودانية لا تنظر إلا في المرآة ولا ترى إلا نفسها وصراعاتها الصغيرة التافهة وتعجز فعلا بأن ترى فوق ما هو حاصل لتقدم بارقة أمل أو خارطة طريق يمكن ان تخرج بالناس إلى بر الأمان. كل النبوءات الآن في دفتر الوطن تبشرنا بالخراب. فالممسك بالسلطة يخوف الناس من اجتياح القادمين من الغرب أو الجنوب على أسنة رصاص الحركات المسلحة أو يخوف الناس من فوضى ما يحصل حولنا من موت ودمار في دول الربيع العربي والعراق. وفي الجانب المقابل لا يملك الاخرون فعلا سوى الخراب سبيلا للتخلص من النظام القائم كي يجلسوا مكانه في القصر الفخيم أو يلوحون بعصا زيدان الكسلان (من هناك لهناك) انتظارا لبرق الثورة الخلب التي ما حركوا ساكنا لأجل حدوثها.
هل فعلا ليس لنا سوى الابوكاليبتو؟
لقد عاشت العديد من الدول الوطنية أو دول ما بعد الاستعمار في العالم الثالث ظروفا مأساوية أبشع بكثير مما عايشه السودان أو يعيشه اليوم. ففيتنام خرجت من الحرب الأهلية ممزقة ومنهكة وزاد من المأساة والترويع دخولها في حرب كمبوديا وفظائع الخمير الحمر. ولكن فيتنام وكمبوديا اليوم تخطتا عتبة البناء الوطني وانطلقتا نحو نهضة اقتصادية أدخلت البلدين في سلك النمور الآسيوية. وجارتهما ماليزيا تخطت الأحداث العرقية ومذابح عام 1969م لتصبر بعدها عشرين عاما على مشروعها الوطني والخطة الاقتصادية الجديدة (NEP) ومن ثم تبدأ مشوار النهضة في رؤيتها للعام 2020م.
دول أمريكا اللاتينية خرجت من سنوات الاختفاء القسري والتقتيل والتشريد والسجون والمطاردات إلى رحاب الانفتاح والتداول السلمي للسلطة. وتحولت حكايات الموت والسجون والمخدرات وسنوات القهر في تشيلي والارجنتين والبرازيل وغيرها…إلى قصص النجاح الاقتصادية وأساطير رجال الدولة مثل نماذج لولا دي سيلفا في البرازيل .
في أفريقيا يكفي أن بوروندي ورواندا أصبحتا نماذج للنجاح وتجاوز الأزمات الوطنية في شجاعة نادرة عبر الحقيقة والمصالحة. وهاهي دول الاقليم من حولنا أثيوبيا وكينيا ويوغندا تحكي قصص نجاح باهرة ومشاريع وطنية ترسخ أقدامها في طريق النهضة كل يوم.
نحن بحوجة ماسة لشيء اكثر من مجرد الحوار الحالي، شيء يلامس عمق أزمتنا الوطنية ويحركنا جميعا جكومة ومعارضة وشعبا …شيء يدفعنا للتنازل والتزحزح من المواقف الجامدة…شيء يدفعنا للخروج من عنق الزجاجة إلى رحاب الوطن. شيء أعظم من السلطة واعظم من الحزبية والطائفية..شيء أعظم من الجهوية والقبلية..شيء يحرك بقية فئات الشعب الساكنة والصامتة..يحرك الأكاديميين والمهنيين وقيادات العمل المدني وقيادات المجتمع ورجال الطرق الصوفية ورجال الدين…شيء يجرك السكون ويدفعنا للخروج من هذه اللحظة الحرجة.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...