ابراهيم احمد الحسن
انا سوداني..من الأبيض ثم طفق يعدد في اصدقائه باسمائهم من جهات السودان كافة قبل ان ينتهي الي حقيقة مؤداها ان : اغرب حاجة انو الاصدقاء ديل بينهم عامل مشترك واحد (انهم سودانيين) ..
اخطأت هديل في اعداد الطعام ، تحركت جينات اللطف تمور بين جنبات نفسه فكتب لها رسالة طويلة قال فيها انا مولود في كردفان وعشت في الابيض وطوف بها في انحاء السودان كافة وارجائه وحدثها عن الكالتو كالتو..والقضيم والحميض والنبق واللالوب .. العفوص والتبلدي ، والقدو قدو قبل ان يحدثها عن آبار كرياكو وكلاب المديرية، خزان بنو وود البغا ، فولة فلاتة وقرين طقو ، جبل كرباج ومظاهرات خور طقت قبل ان يكتب لها ( بعد ده كلووووووو..) عصيدة بسخنوها بالمايكروويف دي ..إلا تاكليها براك !
معتصم الجعيلي لم تجذبه ألوان كرات ( لعبة البلي ) بألوان الطاوؤس الزاهية فحسب ، فكان له مع كل كرة ولون قصة حب وحكاية مناجاة وحوار ولكن كان لاعباً ماهراً ومجيداً له معها وفي ساحات لعبها صولات وجولات يذكرها أبناء جيله ، وكثيراً ما تتحرك جينات إقتناء الدرر والنوادر عنده فيصطنع قوانين جديدة للعب ما عرفتها اللعبة ولا اعتاد عليها اقرانه ، فيتخذ المغالطة سبيلاً لانفاذ افكاره فيعتاد ( الخرخرة ) ويتخذها سبب لوضع قانون جديد للعبة .
وجدان الفنان معتصم الجعيلي دوزنته أنغام وضبطت نوتة موسيقاه إيقاعات هي تجري في مدينته الأبيض مجرى الدم في عروقها ، وتتخلل مسارب روحه .. فأصوات الطرب تأتي من ثنايا (الهسيس) و(جر النم) و(كرير الدوبيت) وايقاع (المردوم) و(الكمبلا) ورزانة (التمتم) و(دقلاش الطار) و(أزيز النوبة) و(صلصة الرق) و(ضجيج الجاز) واطمئنان (الريقي) واصوات حالمة تعزف لفيروز ، تأتي الإيقاعات والنغمات من كل فج عميق في مدينته الأبيض ، من حفلات الأفراح ومن دكاكين السوق الكبير ، (سوق ابوجهل) ، وسوق (ودعكيفة) و(سوق أبوشرا) ومن المقاهي والسينما ومن دار فرقة فنون كردفان .
تكتمل النغمات عند الجعيلي من معزوفات الحزن، نشيج البكاء والعويل النائح في بيوت رحل عنها اهليها ابدياً او الي حين . . هكذا نشأ معتصم الجعيلي مترعاً بالجمال ، نقياً ، صادقاً وفياً لفنه، لمكامن الإبداع فيه، ولاصدقائه محباً لبلده ولأهله وزملائه وللأبيض لا يعيبه الا كونه سودانياً حتى النخاع (خرخار ) في البلي ويعزم علي ( المافيش).
كانت فكرة الإعلان الشهير للشركة الاشهر وقتها بسيطة وجميلة ومعبرة ، كرة تطير في الجو تجوب أقاليم السودان كافة تمر بأهم المعالم ثم تعود لتستقر في الخرطوم بعد ان تنسرب من تحت جسر النيل الأبيض تأخذ طريقها عكس تيار النيل الأزرق لتصادف في طريقها شاب يتزلج فوق المياه، تلفت ‘نتباهه الكرة الطائرة ، يلتفت اليها قبل ان يواصل تزحلقه طافياً فوق سطح الماء يلاحق القارب الذي يطير علي تماس مياه الأزرق الدفاق قبل أن تستقر مستديرة تمثل الحرف الانجليزي (O) في أعلي المبنى الأنيق ،و الجعيلي كان يحرص علي حضور تصوير لقطات الإعلان بنفسه مسافراً الي كردفان الكبرى والنيل الازرق، دارفور، الجنوب ، البحر الاحمر الجزيرة ، الشمالية والخرطوم . كان يعرف تراب السودان ذرة ذرة ويكاد يعد نجومه الزواهر التي ترصع سمائه نجمة نجمة وهو مستلقي حين سفر في خلائه.
(لو كان يدري ما المحاورة اشتكي / ولكان لو عَلِمَ الكلام مُكَلِّمي ) ذاك هو عنترة ابن شداد يمتدح فرسه ويفخر به اما معتصم الجعيلي فقد جعل ( بلطية بنت النيل ) تنطق ، تتكلم ، تضحك ، تبكي ، تقفز ، ترقص وتغني ، جعل معتصم من السمكة البلطية مسلسلاً كرتونياً وأستعان بمؤثرات بصرية وصوتية ما كان يعرفها أحداً غيره ذياك الزمان ، ذهب بالسمكة البلطية الي مهرجان الإذاعة والتلفزيون في تونس في العام 2004 ثم أتي يحملها الجائزة الكبرى (سعفة ذهبية ) ، بكل تواضع تأبط معتصم الجائزة العالمية ورصع بها خارطة الإنجاز بما يمكن ان ترفعه الي مصاف العظماء والعلماء في السودان، ولم يحدث سوى إحتفال خجول وتكريم مُقل .. و ما كان لمعتصم وقت يضيعه وما أشتكى لكنه حمل عصا ترحاله يبحث عن إبداع جديد في مكانٍ جديد ، وترك حطب الغيرة يشتعل من ورائه ينظر الي أعمدة دخانه يتعالى ثم يسقط في الحضيض .
ركب معتصم الجعيلي البحر وسبر أغواره ، تاه في وسط المحيط الاطلسي ناحية جبل طارق كان فيها البحر أمامه والمجهول من خلفه ، تاه بين ميناء الخزيرات في اسبانيا وطنجة في المغرب وظل هائماً في المحيط الى ان هيأ الله له الدخول بعد ثلاث ايام حسوما . . وعزف معتصم على الجيتار أجمل نغمات ملك الجاز شرحبيل أحمد وعزف أجمل الحان فرقة جاكسون فايف العالمية المجموعة التي انحدر منها الاسطورة مايكل جاكسون .. وقطع رمال القوز علي ظهر لوري بين النهود وبلدة العيارة نواحي كردفان،حمل الصاجة ، الحديدة التي يضعونها تحت العجل الخلفى للوري فتعينه علي الخروج من براثن وحل الرمال ، وعندما يخرج اللوري من الكثبان الرملية يجرى الجميع خلفه يتسلقونه الا معتصم فإنه يبقي في مكانه واقفاً ، منتشياً راخياً حواسه كلها يستمع ويستمتع بنغمات تعزفها ماكينة اللوري علواً وهبوطاً كانت اوتارها دواسة الجاز يتلاعب بها سائق ماهر ،ويكسر حدتها بانغامٍ من بوري تحاكي اغنية تقول كلماتها ( نركب الكركابة وندلى في امروابة )
طرب معتصم الجعيلي لنغمات موسيقي الجاز من جيتاره الأثير ومن دواسة الجاز عند السائق القدير والبوري الذي عادت تعزف صوته الموسيقي بعد ان كان هو يعزف صوت الموسيقي كما نشاهد ونسمع الأن، كل ذلك جعل معتصم الجعيلي يأتي بقناة تلفزيونية أسماها (هارموني) وكانت تُعني بالانسجام والتناغم ، كانت تبرز التنوع في السودان في اسمى معانيه كانت برامجها وأغنيات بثها وأخبارها مميزة وفريدة وخارج صندوق الإعتياد ، يجد فيها الشرق ذاته والغرب يغوص عميقاً في طبيعته ويستكشف ثراءها المخبؤ ، والجنوب يرسل خضرته والنيل وجماله الآسر للشمال والشمال ينظر ماضيه التليد ويشيد تراثه على هارموني ، وفي الوسط والسودان كله كانت ترينا هارموني مستقبله المشرق ، عزة نفسه وصعب مراسه.
كانت هارموني واضحة حد السفور وكانت سافرة حد خفر سودانية بالثوب السوداني الجميل . وقناة بهذا الجمال كان من الطبيعي ان تحارب بلا هوادة وكما يقولون وقف معتصم الجعيلي وحده عند ناصية حلمه وقاتل، ولكن ولأنهم عصابة إجتمع فيها الغوغاء من كل سربٍ ونوع إجتمع عاطلي الموهبة والعقول المتحجرة وعديمو الخيال والمتردية والمتكلسة والنطيحة ومحطات التقليد وهلمجرا ، ولأنهم عصابة وهو فرد كان لابد للشر ان يسود ويطغي فالكثرة تغلب الشجاعة ، عندها انصرف عنهم معتصم الي مجالاتٍ أخر يبدع فيها ويبتكر فأوجد قناة سنابل للاطفال تمرح وحدها في دومين خارج مدارات الأقمار الصناعية ، وخارج السودان ذاته تعمل لاطفال السودان الذين فرضت عليهم الظروف العيش خارجه، تشرح لهم ماضيه الجميل وتربطه بمستقبل مشرق ، تغني لهم (فى القولد التقيت بالصديـق/ أنعم به من فاضل ،صديقى ) وتحجيهم ب ( فاطمة السمحة ) وتنظر معهم عبر نافذة الميتافيرس الي سودان الغد الجميل .. اما هارموني فقد حفظها الجعيلي في حرزٍ امين . هيأ لها دثار الدفء في بياتها الشتوي الطويل، تحلم بفجرٍ جديد يقدل فيه معتصم الجعيلي وينتصر الخير