السودان.. «ارتباك» ما بعد الاتفاق الإطاري
بعد نجاح المكون العسكري وأطراف فاعلة من المكون المدني في السودان في بداية شهر ديسمبرالجاري من توقيع اتفاق إطاري تضمن العديد من الطموحات التي سعى إليها الشارع السوداني، إلا أن حلول الذكرى الرابعة للحراك الثوري في السودان في 19 ديسمبر قد فتحت الطريق لطرح الشكوك التي تحملها القوى المدنية حول مدى جدية تنفيذ الاتفاق الإطاري حول المرحلة الانتقالية، خاصة ما يتعلق بخروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي.
أعلنت عدة لجان مقاومة إضافة إلى قوى سياسية وتجمعات مهنية رفضها للاتفاق الإطاري، وخرجت هذه القوى في 19 ديسمبر الجاري في احتجاجات في شوارع الخرطوم، تطالب بالحكم المدني، وتطرح شكوكها بشأن الاتفاق الإطاري الأخير؛ حيث وصمت هذه القوى الاتفاق الذي يتضمن مرحلتين ب«الغموض» وأشارت إلى افتقاده إلى تفاصيل وجداول زمنية.
وقد تزامنت الذكرى الرابعة للحراك السوداني مع تصريحات أدلى بها رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان، وأشار فيها إلى أن الجيش لن يعمل تحت إمرة حكومة مدنية ما لم تكن منتخبة.
استقطاب المعارضين
يبدو أن الانتكاسات التي تعرضت لها طموحات الشعب السوداني للتخلص من كافة أنواع الظلم والإقصاء والاستغلال الذي تعرضت له قوى ومناطق مختلفة من السودان ولمدة ثلاثين عاماً، قد دفعت العديد من القوى السياسية المشاركة في الحراك للتشكيك في كل التفاهمات التي لا تشمل أدوات تنفيذية لتحقيق أهدافها، لتعود هذه القوى إلى الاعتماد على أداة الاحتجاج التي أثبتت قدرتها على تحريك المياه الراكدة، ودفعت في أكثر من مرة كافة أطراف العملية السياسية للبحث عن حلول سريعة، وبذل جهود للوصول إلى توافق بين الفرقاء، لمنع سقوط مزيد من الضحايا في هذه الاحتجاجات، ومنع الفوضى أو استغلال فلول النظام السابق لوقائع الاحتجاجات في اختراق العملية السياسية، واثبات ادعاءاتهم بأن نظامهم السابق كان أكثر تحقيقاً للاستقرار في البلاد.
وعلى الرغم من أن الاتفاق الإطاري الأخير لم يحظ بقبول كافة القوى السياسية، كما لم تشارك فيه العديد من القوى والجبهات مما آثار حفيظة البعض حول جدية الاتفاق وإمكانات تنفيذ بنوده على الأرض، فإن قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، قد أعلنت أن ما يقرب من 60 كياناً وحزباً سياسياً قد تقدمت إليها بطلبات للانضمام إلى الاتفاق الإطاري خلال الأيام الأخيرة، إلا أن مسؤولي الحرية والتغيير رأوا أن هذه الطلبات ستدرس بعناية حتى لا يصبح الاتفاق الإطاري مدخلاً لعودة عناصر وأحزاب كانت جزءاً من نظام البشير.
كما دفع توقيع الاتفاق الإطاري بعض القوى السياسية إلى مراجعة مواقفها مرة أخرى؛ حيث أرجع بعض المحللين هذه المراجعة إلى محاولات بذلتها القوى الإقليمية والدولية في إطار اللجنة الرباعية والآلية الثلاثية وكذلك المكون العسكري، لجذب مزيد من القوى السياسية إلى الاتفاق، ومن هذه القوى «حركة تحرير السودان»؛ حيث أعلن رئيسها مني مناوي، عن استعداده للجلوس مع الموقعين على الاتفاق من أجل إنهاء الفرقة. وفي الوقت ذاته، نجد تصريحاً مشتركاً للناظر ترك ومبارك أردول القيادي بتحالف «الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية» يعرب خلاله عن «استعدادهما للمشاركة في عملية سياسية شاملة وشفافة تؤدي إلى حلول سياسية ديمقراطية ومستدامة».
تشكيل الحكومة المستقلة
ويبدو أن تشكيل حكومة مدنية واختيار رئيس للوزراء وفقاً لما أقرته بنود الاتفاق الإطاري الأخير، ستدعم الأهداف التي سعى إلى تحقيقها الاتفاق، ويمنع المشككين من الاستمرار في إثراء الجدل حول مدى فاعلية هذا الاتفاق خلال المرحلة الراهنة، وأن المؤسسة العسكرية لن تلتزم ببنود الاتفاق، ولن تنسحب من العملية السياسية.
كما أن القوى السياسية من الأفضل أن تستثمر ما تم التوصل إليه من اتفاق وأن تعمل على مناقشة القضايا الأربع التي طرحها الاتفاق وهي: العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري وتفكيك نظام البشير، واتفاق جوبا لسلام السودان وإكمال عملية السلام.
في الوقت الذي يرى فيه البعض أن تصريحات البرهان الأخيرة حول شروط انسحاب المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي، وإن حملت بعض الرسائل السياسية فإنها لا تخرج بعيداً عن كونها خطاباً لشحذ الهمم ودعم الانتماء للمؤسسة العسكرية؛ حيث كان هذا الخطاب موجهاً إلى جنود من هذه المؤسسة، وأكد خلاله عبدالفتاح البرهان استمرار دورها في حماية الشعب السوداني وأن ابتعادها عن العمل السياسي سيعتمد على وجود حكومة منتخبة من الشعب السوداني.
وعلى الرغم من استمرار حالة التشكيك في توجهات المؤسسة العسكرية وعلى رأسها الفريق عبدالفتاح البرهان، حتى إن البعض يتهم هذه المؤسسة بصناعة الفوضى في مناطق في السودان وفي مقدمتها شرق السودان، وكذلك ممارسة بعض الحيل للحصول على مكاسب أكثر في المشهد السياسي فإن التطورات الأخيرة التي يشهدها السودان واندلاع الصراعات من حين إلى آخر في أجزاء مختلفة من البلاد مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي تثقل كاهل المواطن، وكذلك الجهود التي يبذلها المكونان المدني والعسكري، لتقريب وجهات النظر ومساعدة البلاد للعبور من المرحلة الانتقالية، في ظل دعم دولي وإقليمي واضح لاستعادة الاستقرار والأمن في السودان، كل هذه العوامل تشير إلى أن الاتفاق الإطاري الموقع أخيراً بين المكون العسكري وأطراف رئيسية في العملية السياسية يمثل الرهان الذي تسعى العديد من القوى السياسية إلى إنجاحه وتطبيق مبادئه وأهدافه.
كما أن التشكيك في نوايا المؤسسة العسكرية لا يمكن الفكاك منه في ظل الحراك السياسي الكبير الذي يعيشه السودان، والذي يسفر عن تزايد في الوعي بأهمية المشاركة السياسية لدى الشعب السوداني، إلا أن هذا التشكيك لا يجب أن يخرج عن إطاره الصحيح؛ بل يمكن أن يصبح ظاهرة صحية تدفع القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري نحو تفعيله والبدء في تنفيذ بنوده، مع محاولة إرضاء بعض القوى السياسية ولجان المقاومة عبر تبني قرارات للإفراج عن المعتقلين من المشاركين في الاحتجاجات.
(صحيفة الخليج)