البدوي يوسف يكتب: أماسي الغربة
رجعت بعد سنين بلدك تغني وفرحتك شايلاك
رجعت لقيت عيون أهلك تعاين ليك وما عارفاك
مطلع قصيدة ذائعة للشاعر اسحق الحلنقي – الذي اكتوى بنار البعد والغربة – تصور حال المغترب عند عودته للبلاد بعد طول غياب .. تغتال فرحته بالعودة سهام نظرات أهله الحائرة .. يرونه فلا يعرفونه .. يدققون في ملامحه فلا يتذكرونه .. يعيش بقية عمره -إن طاب له المقام وأمد الله في الأجل – غريباً في دياره وبين أهله وعشيرته، بعد أن وهن العظم وشاب في الاغتراب ..
فت بلادك و أنت شباب وجيت الليلة وينو صباك
وكل الناس بقت تسأل تقول يا ربي وين شايفاك
تشبه فيك بالساعات تحاول تطرى ما تطراك
يأبى شاعر “غربة وشوق” ، إلا أن يذكّر العائد بضريبة الغربة التي دفع شبابه ثمنا لها ، وما ينتظره من فواتير واجبة السداد بأثر رجعي ، وما يمنى به من خيبة عندما لا يجد الترحيب اللائق به والأحضان الدافئة التي طالما حلم بها، ويقف على حقيقة أن “زمانو فات وغنايو مات ” وأن الدنيا لم تعد دنياه بعد أن رحل أعز الناس ..
رجعت وحولك الأحلام لدنيا جميلة سايقة خطاك
وقايل الناس ترحب بيك و بالأحضان بتتلقاك
لقيت الدنيا ما دنياك ورحلت ناس عزيزة وراك
لا ضقت الهنا في بلدك ولا في الغربة تم مناك
يستدعي العائد حكمة الشاعر ذاته في خاتمة رائعته “هجرة عصافير الخريف ” التي يصدح بها الموسيقار محمد وردي :
الناس سعيدهم في الحياة لا ضاق فراق لا جربو
قبل أن يذكرنا بكلفة الغربة العالية :
وأنا حالي في بعد الوطن
دفعني ضي العين تمن
•••
يقرأ الحلنقي ما تقوله عيون الأهل ، لكنه يتحاشى قراءة ما تقوله عيون العائد الذي بات لا يعرف إلا القليل عن أهله ، وإن تظاهر بغير ذلك .. يحدق طويلاً في وجوه الصغار فلا يعرفهم إلا بالشبه .. لا يسأل عن أسمائهم حتى لا ينكشف أمره .. يبحث عن أصدقائه فلا يجدهم وقد تفرقت بهم الدروب .. فلا يملك غير أن يتساءل مع القائل :
وإن أعادوا لك المقاهي القديمة ..
فمن يعيد لك الرفاق؟
يأسى على الماضي ويشكو التجاهل ، كما الشاعر السعودي غازي القصيبي يوم أن عاد شيخاً إلى القاهرة – التي درس في جامعتها – ينوء إذا وقف بحمل ثوبه ويعثر حين يمشي بالظلال :
ولا المقهى يهش إذا رآني
ولا من فيه يسأل كيف حالي
وأين الصحب هل آبوا جميعاً
كما آب الشباب إلى المآل ؟
لا يسأل العائد عن من يفتقدهم من الكبار خشية أن يكونوا قد رحلوا إلى الدار الآخرة في غيابه الطويل ولم يواس فيهم هاتفياً أو يعزي ذويهم في إجازاته القصيرة ، ومخافة أن يفتح بابا للملامة قد لا ينسد ..
•••
تطول غربة السوداني مقارنة بنظرائه من الجنسيات الأخرى .. تتعدد الأسباب :
– البداية الخاطئة.. ففي الغالب الأعم يصل السوداني إلى مهجره دون معرفة كافية بوضعه الجديد .. كم يساوي الراتب ؟ وكم تساوي تكاليف السكن والإعاشة ؟ وكم يصل هامش التوفير بعد خصم الالتزامات الشهرية التي تزيد ولا تنقص ..
– عدم وضوح الهدف .. أي ماذا يريد من الاغتراب ؟
– المدى الزمنى الذي يستغرقه تحقيق الهدف إن وجد وبالتالي تحديد عدد سنوات الغربة ..
– تأجيل البت في سؤال العودة ، وترحيله عاماً وراء عام ، ما يعني عدم تكييف الوضع اغتراب أم هجرة ؟
•••
يكبر “العيال ” في بلاد الاغتراب ، فيكبر السؤال .. سؤال العودة .. الذي تزداد الإجابة عليه صعوبة بمرور السنوات حيث تتسع دائرة اتخاذ القرار ببلوغ الأبناء السن التي تؤهلهم للمشاركة في تقرير مصيرهم .
يجر السؤال .. السؤال .. من يضحي من أجل الآخر .. الأب أم الأبناء ؟ بعبارة أخرى هل يبقى الأب مغترباً من أجل مستقبل الأبناء ؟ أم يضحي الأبناء بمستقبلهم – الذي يرونه في مهجرهم – ويعودون مع الأب حتى يقضي بقية أيامه في مسقط رأسه بين أهله وذويه ؟
تبقى الأسئلة معلقة بلا إجابات قاطعة .. ويبقى الأب في منزلة بين المنزلتين فلاهو بالمغترب الذي يخطط للعودة إلى بلاده ولو بعد حين ، ولا هو بالمهاجر الذي يرتب حياته على هذا الأساس ويحاول الاندماج في مجتمع المهجر .. قبل أن يجد نفسه بمرور السنوات وقد تبنى شعار قدامى المغتربين الذي بات يناسب حالته “ عش في الخليج كأنك تقيم أبداً.. وأعمل للسودان كأنك تعود غداً” ..
•••
يغشى الربيع العربي السودان .. يعاود المغترب حلم العودة النهائية إلى وطن ينعم بالحرية والسلام والعدالة ، لكن ما يلبث أن يتبخر الحلم ويصحو على حقيقة أنه على عظم الثورة وفرادتها وتضحيات الشباب المشهودة ، لا يعدو الوضع الجديد كونه استبدال ” فاسد بعاجز ” .. حتى يكاد المواطن – المطحون بالغلاء الفاقد للأمن المطارد من( ٩ طويلة ) في زمن الحكام القصار – أن يبكي اليوم على ما بكى منه ٣٠ عاماً ، ولسان حاله بيت الشعر العربي الشهير :
رب يوم بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
يخشى أن يقتفي ، مرة أخرى ، أثر بعض قدامى المغتربين الذين آثروا الهجرة إلى بلدان ( طيرها عجمي ) بعد وصولهم سن المعاش في الخليج القريب من السودان .. يحاول أن يطمئن نفسه بأن الغربة اليوم أضحت أخف وطأة من قبل بفعل التكنولوجيا التي قربت المسافات ويسرت التلاقي (صوت وصورة ) .. ويظل يبحث عن المزيد من الحكم والأقوال التي تذكره بمحاسن الغربة ، وأخشى ما يخشاه أن ينسخ قول شاعر العامية المصرية الأشهر عبدالرحمن الأبنودي على لسان عمته يامنة ” اللي يعجِّز في بلاده .. غير اللي يعجِّز ضيف ” ، بوصية الشاعر أحمد عبدالله البنا ” الفرجوني” – قبل أن يضع حداً لغربته في أمريكا – إلى صديقه حسن الفكي :
بوصيك يا حسن والرب عليك الشاهد
كان الغربة طالت وجاني فيها الشاهد
رَبِّع لي بيان متل الفقير الزاهد
أدفن فيهو سوطي وسوِّي سرجي شواهد
يناير 2023م الدوحة قطر