موقد الفحم الرحيم 

بدون زعل

عبد الحفيظ مريود

موقد الفحم الرحيم

رمضان الماضي قررت والدتي – متعها الله بالصحة والعافية، ومد في عمرها – أن تصوم في نيالا، مع ابنتها، ولديها، وتزور أهلها الذين طالت غيبتها عنهم..

سيكون على – في هذه الحال – أن أكون أما لأبنائي الأربعة، وجميعهم صائمون – ولله الحمد – وأبا.. وهو أمر صعب في رمضان.. سأخوض التجربة، إذن.

قبل يومين من رمضان، قطع الغاز.. النيل.. وأسطوانة “قادرة” الفارغة أعجزني أن أعيد تعبئتها، رغم الوساطات..

شايف كيف؟

جاء رمضان.. ماذا أفعل؟

ذهبت إلى “الفحام” بسوق الشجرة، أبوروف.. اشتريت ثلاثة أكياس فحم.. كنت قد نظفت العدسية وغمرتها بالماء.. الفصل صيف لا مواربة فيه.. عمدت إلى “جرائد” قديمة.. اشتريت “كانوناً” إضافياً.. ليس هناك من “ست شاي” شغالة لتتحايل عليها “داير لىيجمرتين” وأنت تمد “مبخرك”..

حشرت “الجرائد” في جوف الموقد، وضعت فحماً عليه، أشعلت النار.. ممسكا بـ”هبابتي”، حين لمحت فحمتين ثلاث “مسكن نار”، بدأت “أهبب”، حتى صار عندي كانون مولع.. يا الله.. إنجاز زيى الإنجاز.. “نسوان على منو إنتو؟!”…

المهم..

حملت جمرات إلى الموقد الآخر، ووضعت العدسية في هذا.. خطتي تقضي بـ: بليلة عدسية، تقلية، قراصة، وعدس.. ثم شوربة فراخ، دمعة خفيفة لمقابلة العشاء.. هل يكفي الفحم أم أزيده؟ التقديرات هذه، ستتكشف “لي قدام”، المهم البداية..

شايف كيف؟

سرحت.. وأنا على “بنبري”.. رجعت إلى بابنوسة.. ثمانينيات القرن الماضي.. في أحد أحياء السكة الحديد.. حي “السناغل”.. ثمة امرأة اسمها نورا الدومة نعمان، هي والدتي.. جاء بها زوجها من نيالا إلى بابنوسة.. كنا قد بدأنا الصيام، أول الثمانينيات.. أتذكر أبي وهو قادم من الورشة يخر عرقاً، يغير ملابس السكة الحديد، يلبس عراقي وسروال، ويضع عنقريبه تحت ظل شحيح، والشمس لاهبة.. وهي – نورا الدومة – دامت تأييدات ربي لها، ونعمه – تقوم إلى الكانون والصاج واللداية.. الفحم ترف في ميزانية عامل السكة حديد.. لذلك كان الحطب هو الغالب، وقوداً يومياً.. وفيما نحن جدد في الصيام، نتبلل بالماء البارد.. نتخذ من جنب المزيرة متكأ، كانت هي تواجه النيران، تساعدها ابنتها، بلا شكوى..

لكم من الوقت.. السنوات.. كانت أمهاتنا وأخواتنا.. خالاتنا وعماتنا، يواجهن لهب النار “فحماً وحطباً”، وهن صائمات، دون أن يتذمرن، أو يشتكين، ونحن غفل عن كل ذلك؟

كم مرة “عزمت” أصحاباً ليفطروا معك، واجتهدت هي لتزيد من مقادير الإفطار اليومي، كما ونوعاً، لـ”ترفع رأسك” أمامهم؟

دع عنك قيامها – وهي صائمة – لتوقد النار لإطعامك وإخوتك، قبل أن تبلغوا عمر الصوم؟

يا الله..

هل كان عليك أن تفيق، تتذكر كل ذلك وأكثر، لمجرد أنك “اضطررت” لمواجهة “نيران الفحم”، على كانون، لمرة واحدة في حياتك؟ فيما كان هذا – وأكثر – عملاً يومياً لأمهاتنا؟

هل نحن جاحدون، غافلون، لاهون إلى هذه الدرجة؟

شايف كيف؟

حين تسمع “أم الفقرا”، أو النساء البسيطات اللائي يواجهن لهيب النار في رمضان، وغيره، ليطعمن الجوعى في الخلاوي، المسايد، البيوت، التكايا، فإن عليك أن تراجع “كسبك، فهمك للدين والتدين، مجموع معارفك وفسلفتك، سبحتك العاجباك.. الخ”..

نجهل الحسابات، تماماً، بالنظر إلى الأشياء “البسيطة والعادية” التي يفتح الله عليك ملاحظتها، يوماً ما..

المهم..

لم “أظفر” بأسطوانة غاز – رمضان الماضي – إلا في الثامن والعشرين منه.. سلخت شهري أواجه الكوانين، نهاراً، وليلاً، أحياناً.. ذلك أن الكهرباء التي تشغل الهيتر والفرن، شهراً كاملاً، مكلفة.. ثم إن ملاح الكهربا ما حلو..

حين ظفرت بالغاز يوم ٢٨ رمضان.. قلت في نفسي إن رفض جورج برنارد شو، المسرحي الآيرلندي الساخر والشهير، لجائزة نوبل، وهو في السبعين، دقيق.. إذ قال “إنها مثل طوق النجاة الذي أُلقي إلى الغريق، بعد أن بلغ الشاطئ”..

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...