وجه الحقيقة.. في رحاب اليوم العالمي للمسرح

– وجه الحقيقة..،
– في رحاب اليوم العالمي للمسرح.
– يا عبده روق.. نحن نمشي في جنازة المطر..
– إبراهيم شقلاوي.

في مقال سابق تحدثنا عن أهمية الحراك المسرحي والدرامي في ذكرى اليوم العالمي للمسرح الذي يصادف السابع والعشرين من شهر مارس من كل عام حيث يعتبر موسم متجدد حافل بالنشاط المسرحي والفعاليات المنشطية التي بإمكانها إعادة المسرح الى الصدارة من جديد في جميع وجوه الحياة بما يقدمه من أعمال.
ظل المسرح في السودان يلعب دوراً أصيلاً ومهماً من خلال الأفكار التي يتبنى طرحها والحراك الثقافي المؤثر الذي ينتظم كافة المجالات هذا بجانب مساهماته الفاعلة في الحياة العامة، كما كـان في السابق له الأثر الواضح في القضايا الاجتماعية والسياسية وله أثر واضح في استقلال البلاد ومن بعد رسم سياسات التطور والانتماء للوطن.. وظـل قائمـاً بالرقابة الاجتماعية على كل ما خرج عن الذوق العام.. حيث أثبت بذلك أنه مسـرح للفرجـة والاستمتاع والمجتمع من خلال المساهمات المبدعة.. ساهم المسرح في السودان مساهمة جادة في مناهضـة الاسـتعمار وتوحيد النسيج الاجتماعي لأبناء الوطن الواحد وكان له الأثر الواضح في تشـكيل ذهنية الجماهير وإيقاظ وعيها تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، مما جعله أداة فاعلـة مـن أدوات التغير الاجتماعي والسياسي في البلاد، لاسيما في بعض الفتـرات التـي شـهدت تطور العمل السياسي وتطور أدواتـه.
أجريت العديد من الدراسـات التحليليـة لواقـع المسرح في السودان بواسطة المختصين.. ومساهمته في نهضة ووعي المجتمع، حيث كانت أهم فترات المسرح في السـودان.. فترة نظام مايو بكـل مظاهرهـا المتقلب بين الأيدلوجيا السياسية وتناقضـاتها وتحولاتهـا السياسية وتأثير هذه التحولات الفكرية والسياسية على الواقع في تلك الفترة حيث أنتج المسرح أجمل الأعمال التي ظلت خالدة في وعي الجماهير، وكان لها تأثير مباشـر في إحداث تحولات كبيرة صنعت ملامح سلطة مايو في جانبها الثقافي في جميع الفترات التي امتدت ستة عشر عاماً.. حيث شكل المسرح الأبعاد الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة ورسم مسارات الصراع الأيدولجي الذي تماهى معه نظام مايو من أقصى اليسار الى أقصى اليمين وما بينهما.. ليأخذ المسرح مـن بعـد دوره الطبيعي والطليعي في الإسهام في حفظ النسيج الاجتماعي وإذكـاء الـروح الوطنية ورفع مستوى الوعي العام بالقضايا المصيرية التي تشكل الواقع في تلك الفترة.
حيث نجد كثير من المسرحيات ساهمت في وعي الجماهير بالقضايا الاجتماعية والسياسية وظلت أعمالاً خالدة في الذاكرة الوطنية المبدعة.. أمثال (أكل عيش) الفاضل سعيد – و_(خطوبة سهير) مكي سنادة – (نقابة المنتحرين – يا عبده روق) للدوش – (ناس القبور واقفين طابور) لعبد اللطيف الرشيد من إخراج عادل حربي.
لقد مثلت تلك الفترة بما فيها من التحولات السياسية والفكريـة وتأثر المسرح فترة خصبة ربما طرحت عدد من التساؤلات هل ازدهار المسرح له علاقة الانتعاش الاقتصادي والحريات أم علاقته بالواجب المهني والأخلاقي الذي يحتم أن يكون المبدعون في طليعة التغيير.. هذا السؤال يجاوب عنه الواقع الراهن الذي نتطلع فيه جميعاً الى دور جديد للمسرح يناهض الاستعمار الحديث بكل تمثلاته والذي بات مسيطراً على جميع وجوه الحياة السياسية والاجتماعية بجانب دوره في دعم وحدة البلاد وتجاوز الدعاوى العنصرية والمناطقية وحفظ النسيج الاجتماعي للبلاد.
ازدهـر المسرح في السودان وتناول الظروف السياسية والفكرية كما عاش وتأثر بالصراع بين تعسـف السلطة وطموح المثقف.. وكان مبادراً فـي صـياغة وصـناعة واقـع الحياة العامة ولم يكن منزوياً هامشياً.. وقد تطور بتطور نظام مايو في تعامله مع المسرح من خلال منظـور أن المسرح بدأ معبرﹰا عن أقصى اليسار السياسي الذي صنع النظام في تلك الفترة ثم الطائفية التي جاءت عبر المصالحة الوطنية وانتهى إلى أقصـى اليمين الديني حين تحالف مع الإسلاميين.. الثابت أن نظام مايو اهتم بالحركة المسرحية ودعم آلياتها الثقافية والفكرية في بداياته.. يتبين ذلك في افتتاح أو دعم مؤسسات عملت على الاهتمام بجميع أوجه الثقافـة والتـي كـان المسرح أحد أدواتها الفاعلة مثل معهد الموسيقى والمسـرح فـي العـام (1969) والذي كانت بدايات فكرة إنشائه خلال فترة حكم السيد إسماعيل الأزهـري الـذي تحول لاحقاً ليصبح كلية متخصصة للدراما والموسيقى وكذلك إنشاء إدارة الفنـون المسرحية والاستعراضية في العام (1972م) والحركة المسرحية النشـطة التـي كانت تعبر عنها المواسم المسرحية.
من خلال ما تقدم نخلص إلى أن نظام مايو كواحد من الأنظمة الشمولية التي حكمت البلاد.. قد ساهم بصورة أو بـأخرى فـي شـحذ عزيمة المبدعين، كما أتاح لهم قدراً من الحرية والعمل الإبداعي والمسرحي بصورة أحدثت نهضة مميزة.. لكن مع الأسف سرعان ما ضاق النظام بهذه الحريات.. سنفصل ذلك لاحقاً.. ازدهر المسرح على إثر هذه الحريات وقـدم أجمل أعماله على الإطلاق.. حيث كان المسرح حاضراً ومعبراً عن واقع الجماهير ومرضيا لتطلعاتها في كشف تناقضات النظام السياسي والاجتماعي الذي ساد تلك الفترة.. رغم ذلك فقد أفلح المثقفون في توجيه وإصلاح الواقع الاجتمـاعي عبـر الخطاب المسرحي المباشر متأثرين بالحركة الإبداعية السائدة إبان تلك الفترة حيث كان أبرز ما يميزها طموح المثقفين في ضرورة نهضة المسرح وتطوير أدواتـه التي كانت تحكمها ظروف التحول الفكري والسياسي المحيط بالواقع والممارسـة السياسية انعكس كل ذلك إيجاباً على حركة الإبداع والعطاء المسرحي فـي تلـك الفترة حيث جعلت أهل الدراما يتدفقون عطاء.. غيـر محكـومين بسـلطة النظـام المايوي الذي بدأ متوافقاً مع فكرة أن يلعب المسرح دوراً في الحياة العامة، مما نتج عن ذلك مسرح مؤسسي تحكمه آليات الإبداع وعطاء المبـدعين مـن حيـث البنيات والنصوص والممثلين والجمهور الذكي.
بالرغم من ذلك لم تترك المساحات واسعة دون رغابة كثيرة هي المسرحيات السودانية قد منعت من العرض أو ظلت تحرسها السلطة أمثال المشي على الرموش للمبدع إبراهيم شداد كذلك نبته حبيبتي للكاتب المسرحي الشاعر هاشم صديق بجانب حكاية تحت الشمس السخنة للكاتب المسرحي صلاح حسن أحمد ومسرحية نحن نمشي في جنازة المطر للمسرحي والشاعر عمر الطيب الدوش التي عرضت سراً على مسرح الفنون الشعبية بجانب أعمال أخرى.
من واقع كل ذلك دعونا نتطلع الى دور جديد لنهضة المسرح يمثل امتداد لدوره الطليعي في التغيير بالرغم من أن البعض ينظر الى هذا النهوض من زاوية التحديات التي ظلت تواجه المسرح التي نوجزها في إشارات منها.. عدم اهتمام المسرحيين وأهل الدراما بالنشاط الثقافى والإبداعي الذي يعتبر المسرح أحد أهم مكوناته.
كذلك عدم الاهتمام بالبنيات، إنشاء وتأسيس المسارح بما يمكن من تقديم الأعمال المسـرحية في صورتها المهنية.
كذلك ضعف الميزانيات المخصصة من الدولة أو القطاع الخاص وعدم تشجيع الإبداع.. كذلك يعتبر الأثر الأكبر غياب النخب المبدعة وهجرة العقول المؤثرة التي كانت تبادر في مثل هذه الظروف في قيادة التغيير.
دعونا نتجاوز هذه الصورة القاتمة التي ربما تحكي واقعاً مريراً لغياب المسرح في السودان عن دوره المهم حتى نتجاوز هذه المرحلة وهذا التراجع لينهض من جديد عبر الإنتاج المسرحي الهادف وجمهور المسرح المحب.. حديثنا هذا نرسل إشارات قلقة ونضم صوتنا إلى أصوات كثيرة محذّرة من اختفاء المسرح في السودان في هذه المرحلة.. في حال ظل الغياب مستمراً.. على أهمية الشعور بالواجب الوطني تجاه البلاد في هذه الفترة المؤثرة يجب أن ينهض عمالقة المسرح والدراما لإنتاج أعمال جديدة تعبر عن هذا الواقع.
وحتى لا يتناقض واقع المسرح مع بداياته الواعدة التي تحدثنا عنها سابقاً التي شهدت الفترة الذهبية من عمر المسرح في السودان خلال عقدي الستينيات والسبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، حيث كان يلقى رعاية الدولة.. ويقوم بدوره خير قيام.. مما جعله مؤثر في تغيير كثير من الأحداث.. هل نرى مسرحاً بذلك العنفون من جديد أن كان ذلك ممكنا فاليكن المدخل إنتاج جديد أو إعادة إنتاج للمسرحيات الخالدة بجانب تطوير نصوص المسرحيات التي لم تجد حظها من العرض.. مثال ذلك النص المسرحي نحن نمشي في جنازة المطر الذي يحكي عن الوطنية والخلاص من القيود والانطلاق لرحاب الاستقرار للشاعر المسرحي عمر الطيب الدوش كل ذلك بالإمكان أن يمثل محاولات جادة نحو استعادة المجد والدور الطليعي للمسرح في قيادة التغيير ومناهضة الاستلاب الثقافي والاستعمار الحديث الذي بدأ متمكننا من وجوه الحياة الاجتماعية في هذه المرحلة المهمة من مراحل تطورنا السياسي والاجتماعي.
دمتم بخير..،.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...