حسن فضل المولى يكتب: بابكر صديق .. و الذي بَعْثَرنا ..
حسن فضل المولى يكتب:
بابكر صديق .. و الذي بَعْثَرنا ..
كنت قريباً منه ..
و هو قُربٌ يوحي إليك بكل موجبات
التقدير و التبجيل ..
تزاملنا و تلازمنا ، في ( تلفزيون
السودان ) ، و في ( قناة النيل الأزرق ) ..
هناك يُعد و يقدم ( أصوات و أنامل ) ،
و هنا يكتشف و يرعى( نجوم الغد ) ..
و في كلٍ كنت أراه ..
دائب البحث عن بذرة يتعهدها
بالسُّقْيا ..
و كان دائم التعلق بكل بارقة جمال لتستحيل تحت ملامسة أنامله كائناً
من نور ..
و هو إذ يفعل ذلك فلا تكاد تسمع
له جَلَبةً أو تحس له رِكزا ، مَثَلُه مثل
( نَسْمَة ) تحرِّك مِن حولك ساكنَ
( الأغصانِ ) ، من غير أن تدركها
الأبصار ، أو تُرهق الآذان ..
و ( بابكر ) ، و أنت تعمل معه ، تجده ينهض بما يُعْجِز الرَّهْطَ أولي القوة
و الحيلة ، فهو رهين بوقته و جهده
و فكره و ما ملكت يداه ، لِما عقدَ
عليه العزم و نوى ، ليأتي عطاؤه
فوق ما تنتظر من فرد أو تتوقع ..
و كنت شاهداً على صبره و سعة
صدره و علو كعبه ، و هو يتصدى
لبرنامج ( نجوم الغد ) ، وكيف أنه
قد جعل منه مهوى لأفئدة ناشئة
المغنيين و متنفساً للمشاهدين ..
يفعل ذلك بحب و شغف ، دون أن
ينتظر جزاءً و لا شُكورا ..
و ( بابكر ) قليل الكلام ..
و إذا تكلم تجد فيما يقول شفاءً
لما في الصدور ، و ( تلمس فيه
إشراقاً و فنا ) ..
و يقول مايرسخ في وجدانك ، و كثيراً
ما تجد فيه ضالتك ..
و كان أن تباعدنا و طال عهدي به ..
و عندما كتبت في وداعه مقالاً
بعنوان ( محمد الأمين .. أسمر
جميل ) ، كتب إليَّ ..
( ألفين سلام و محبة ..
حَلَّقت بنا كعادتك ..
سلمت و سلمت الأنامل الذهبية ،
و مفرداتك الأنيقة المترفة ..
أتابع بشغف كتاباتك المدوزنة
و هي استمرار ( لذلك الشيء ) ..
دمت و سلمت أين ما كنت ..
محبات ) ..
و أخبرني بما آل إليه ..
و أخبرته بما صرت إليه ..
فقال لي :
( الله يجازي ..
الذي بعثرنا في كل وادي ) ..
و إن كان ثناؤه عليَّ قد أطربني
و هزني ، إلا أنه قد أيقظ كل حواسي ،
و انقبضت فرائصي ، و هو يَتَلظَّى ..
( الله يجازي ..
الذي بعثرنا في كل وادي ) ..
و هذه العبارة المُفعمة بالفجيعة ، مُستقاة من قصيدة لامست
وجداننا ، نظمها شاعر أفريقيا
( محمد مفتاح الفيتوري ) ، غداة
انبلاج ( ثورة أكتوبر ) ..
و منحها رسوخاً ( محمد وردي )
بأدائه المُبهر ..
و القصيدة ..
( أصبح الصبح�ولا السجن ولا السجان باقي�واذا الفجر جناحان يرفان عليك�واذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي�والذي شد وثاقا لوثاق�والذي بعثرنا في كل وادي�فرحة نابعة من كل قلب يابلادي�أصبح الصبح�وها نحن مع النور التقينا�التقى جيل البطولات�بجيل التضحيات�التقى كل شهيد�قهر الظلم ومات�بشهيد لم يزل يبذر في الأرض�بذور الذكريات�أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا�بالذي اصبح شمسا في يدينا�وغناء عاطرا تعدو به الريح�فتختال الهوينى�من كل قلب يا بلادي�فرحة نابعة من كل قلب يابلادي ) ..
و بعد كل ليلٍ
يُصبحُ صُبحٌ أغرٌ ..
و إن طال الإدلاج ..
و ( الفيتوري ) ، المرة الأولى التي جمعتني به ، عندما حل علينا ضيفاً
في ( مشوار المساء ) ، و أذكر كيف
أنه في حضرة ( ليلى المغربي ) قد تجلى شعراً و نثراً و رقة و عذوبة ..
و بعدها امتد بيننا التواصل من على البعد ..
و وجدتني قريباً جداً من زوجته الراحلة
( آسيا الكتيابي ) ، و إبنه ( تاج الدين ) ،
و إبنته ( سولارا ) ، التي كانت تناديني
( يا خالي ) ..
و أنا في ( القاهرة ) شرفوني بأن أكون
و كيلاً عن ( سولارا ) في عقد قرانها
( بسفارة السودان بمصر ) ..
و ( الفيتوري ) تخلده مقولةٌ أمْسَكَتْ
بالحكمة من أطرافها في ( ياقوت العرش ) ..
( دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
و الغافل من ظن الأشياء
هي الأشياء ) ..
نعم ، و بكل تأكيد ..
الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء ..
و قد ظللنا نظن أن الأشياء هي الأشياء ..
حتى تبينا ضُحى الغد أن الأشياء
قد لا تكون هي الأشياء ..
و تبعثرنا في كل وادي ، يا ( بابكر ) ..
اللهم اجمعنا ..
و قد تجمع الشتيتين بعد ما يظُنان
كل الظن أن لا تلاقيا ..
و لك مودتي
أستاذي ( بابكر صديق ) ..
فجر آخر يوم من العام الذي فيه
تبعثرنا ٢٠٢٣ ..