بدر الدين العتاق يكتب: رجل يدعى “مُلَيْ مُلْوَاكْ “

بدر الدين العتاق يكتب: رجل يدعى “مُلَيْ مُلْوَاكْ ”

” قاتل الله السياسة فقد حرمتنا من متع الثقافة والفنون ”
******* ******* *******
وجاءنا الأستاذ الحبيب الجميل الجنوب سوداني / مُلَيْ ملواك راو دينق؛ الأبنوسي اللون وهو من مواليد مدينة أبيي ١٩٧٣ ومن خريجي جامعة الخرطوم كلية الآداب لغة عربية وتاريخ؛ ومرَّة عرفت أنَّه تخرج في قسم اللغة الإنجليزية ، أيُّهما كان فهو يجيد التحدث باللغتين بطلاقة لا يُحْسَد عليها؛ حيث أكمل أيضاً دراساته العليا فيها في معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، كما عمل مدرساً في مرحلتي الأساس والثانوي في عُدَّة مدارس في الخرطوم.
هذا ! جاءنا الصديق العزيز من مدينة أبيي حاضرة مديرية جنوب كردفان وهو من قبيلة دينكا نوك التي تقطن مع حليفتها وشريكتها التاريخية في ذات الموضع قبيلة المسيرية منذ مئات السنين ( 1755 تقريباً ) ؛ والتي قطنت قبيلته تلك المنطقة قبل سنة ١٩٠٥ كما ذكر ذلك الأستاذ المؤرخ الدكتور / أمين حامد زين العابدين ، في كتابه ” أزمة أبيي – بين القانون الدولي ومسألة التحكيم ” الصادر في أميركا سنة 2009 ، في محاولة منه لإدراك أخطاء إتفاقية أو بروتوكول ميشاكوس حول المدينة المذكورة فلا تلحق حدودها بالحدود الجنوبية التي فصلتها السياسة ٢٠١١ وليس ههنا موضعها من التفصيل؛ ويمكن مراجعة ما كتبته عنها بالإنترنت تحت عنوان ” المناطق الثلاث؛ حلايب نموذجاً ” .
جاءنا لمدينة بيت المال بأم درمان سنة ١٩79 أو قبلها بقليل حيث أقيم أنا آنذاك ؛ فهو جاري في المقام الأول وصديقي كذلك ، وتزاملنا معاً في مدرسة بيت المال الابتدائية بنين التي كان مديرها آنذاك المرحوم شمس الدين الغول – رحمه الله – منذ ذات العام إلا أنَّه كان يدرس في نهر شرق وأنا أدرس في نهر غرب وإذا لم نلتقي في فترة الإفطار فإننا نتقابل في الحِلَّة؛ وسبق أن رشحه خاله ” وليم ” للسنة الأولى الدراسية ١٩٧٩ قبل التحاقه رسمياً أي سنة 1980- 1981 ، فرفض مدير المدرسة قبوله لأنَّه يجد صعوبة في نطق الحروف العربية فأوصاه بأن يختلط مع الناس حتى يقوى لسانه ويأتي به العام المقبل كما حدَّثني بذلك هو شخصياً ؛ وفعلاً قد حدث ذلك واستمر في المدرسة الإبتدائية حتى تخرج فيها سنة ١٩٨٨ – 1989 بامتحان الشهادة الابتدائية بنجاح .
حسب النظام المتبع لإدارة التعليم بمحلية أم درمان جنوب بأنَّ خريجي بيت المال الابتدائية يُقَسَّمون بين مدرستي بيت المال المتوسطة ( الثانوي العام) ومدرسة أم درمان الأهلية المتوسطة جوار صينية الزعيم الأزهري الجهة الجنوبية المقابلة لمنزل الزعيم إسماعيل الأزهري ؛ وكان نصيبه أن التحق بمدرسة بيت المال المتوسطة بنين وهنا تزاملنا في السنة الأولى فقط فصل نجومي – كنت أظن أننا تزاملنا طيلة الست سنين بالإبتدائية بفصل واحد لكنه صحح لي المعلومة – وكان ذكياً جداً في مادة الرياضيات واللغة العربية وكثيراً ما ألجأ إليه لحل التمارين الرياضية ولم يكن ليبخل عليَّ ولا على أحد بالشرح حيناً والشف والنقل أحياناً كثيرة.
أذكر تماماً وأنا أسجل له هذا التوثيق الذي له من السنين ثلاثاً وأربعين سنة حتى لحظة كتابتي لهذه المادة؛ كان يجلس في البيت وأحياناً في الشارع العام ويمسك بيده آلة موسيقية الربابة – الطمبور – ويأخذ طيلة اليوم في صيانتها والاعتناء بها والدندنة عليها مما أكسبه خبرة كبيرة لاحقاً وكنت ربما حاولت لعب البلي مع غيره الذي أخرج منه بإستمرار بالهزيمة.
الجدير بالذكر وأنا شاهدته أكثر من مرَّة وهو يجلس تحت عمود النور الكهربائي أو تحت نور أي دكان قريب من البيت وهو يذاكر دروسه بجد واهتمام بالغين الساعات الطِوال ، في حالة انقطاع التيار الكهربائي من الحي فهو مثابر كما ترى .
هذا ! في بيت المال؛ بالنسبة لسكانها الغالبية العظمى من سِماتها أحد أمرين : إمَّا أن تكون سبَّاحاً ماهراً؛ لأنَّ المدينة تقع على شاطئ النيل الغربي إذ فأغلب السكان يذهبون للنيل – البحر – ويسبحون كالتماسيح العُشارية بلا خوف ولا تردد خصوصاً في موسمي الدميرة الخريف وزيادة منسوب النيل ، يقطعون النيل حتى حدود شمبات الزراعية من الإتجاه الشرقي لشاطئ النيل وموسم رمضان فصل الصيف الجهنمي .
الأمر الثاني لعب كرة القدم باحترافية عالية من المهد إلى اللحد؛ فلا تكاد يخلو في العصريات أي شارعٍ كان أو ميدان أو خلافه إلا وبه جماعة يلعبون الكرة وبالذات ميدان السَهَلَة بسوق أم سُوِيْقَة – بيت المال تحت – وحين يشتد وطيس المنافسات الكبرى بين فريق بيت المال وفريق الكِدَّاوية مثلاً فلا تجد مكاناً للوقوف وتراهم يهتفون ويصرخون في حماس منقطع النظير ويضربون الدفوف وربما صاحبتهم فرقة موسيقية حال الكأس ويحرقون الأعلام بعدة شعارات منها : ” بيت المال النار النار؛ بيت المال النار النار ” وخلافه.
أنا استطردت هذا الاستطراد لأنَّ صاحبنا مُلَيْ يجيد فن لعب كرة القدم بشكل رائع وجميل للغاية والسباحة إن لم تخني الذاكرة؛ وكان يتم عَزْلَهُ – من الطلب والاختيار وليس من الاعتزال – وهو نائم في بيته إذ كان ماهراً للغاية ومراوغاً رائعاً داخل الميدان والفريق الذي ينضم إليه مُلَيْ لا شك هو الفائز بأهداف لا تقبل التساوي أو الدرون؛ وأذكر مرةً أثناء مراوغته باغته أحدهم من الخلف فترنَّح حتى كاد أن يقع على الأرض وكانت فترة امتحانات الشهادة الثانوية 1994 فعلَّق صديقنا المرحوم أحمد يوسف الملقب ب” كُمْبُسْ ” – رحمه الله رحمة واسعة – قائلاً : في مقالة طارت!! واعجبنا التعليق باعتباره ذكياً جداً في الأكاديميات.
اللطيف في الأمر؛ أنا لا أعرف السباحة ولا أعرف كرة القدم ببصلة؛ ولك أن تتخيل أخي القارئ الكريم أنني لا أعرف حتى كيف أشوت الكرة ولي فوبيا من المرتفعات والمياه والكلاب وعموم البقر بجدارة وربما أجد صعوبة في مسك القلم للتأليف؛ فتأمل ! .
لا يقف الأمر بين علاقة جنوب السودان مع شماله مع مُلَيْ مُلواك راو دينق؛ بكل تأكيد؛ بل يتعداها إلى غيرها من العلائق والوشائج ذات الصِلَة غير المتناهية ؛ فأذكر رجلاً من جنوب السودان يُدعى ألبينو أكيج؛ حمامة سلام شعبوي بلا منازع ؛ تجده دائماً متكلِّماً عن التسامح والمحبة والسلام في الأديان بين الناس وبالتحديد الشعب السوداني في التجمعات والتجمهرات بميدان البوستة أم درمان مرةً وكنيسة المحطة الوسطى بالخرطوم بحري ثانية؛ وبشارع الجمهورية أحياناً كثيرة؛ وقلَّما تجد من يستمعون إليه قليلين؛ وفي أي وقت أصادفه أقف لأستمع إليه وحديثه الشيق؛ ولا أدري أين هو الآن.
تجسيداً لوشيجة التعايش السلمي الإنساني العالمي بين الأديان تحديداً ؛ لك أن تعرف أنه يعيش بين إخوة أشقَّاء عشرة لإن لم تخني الذاكرة منهم المسلمون ومنهم المسيحيون في بيت واحد يتقاسمون رغيفاً واحداً وإداماً واحداً وهو يعتنق ديانة الإسلام ولم نسمع قط بأنَّهم متخاصمين بسبب الديانة أو خلافه حتى غادرنا جميعاً محطة بيت المال.
بمدرسة بيت المال المتوسطة الحكومية؛ زامَلَنَا مع مُلَيْ مُلْوَاك؛ الأخ الحبيب الجميل الجنوب سوداني / زكريا فيتر شامبيل ليط؛ – آخر مرة قابلته فيها قبل الانفصال وعلمت منه أنَّه في المكتب الإعلامي للحركة الشعبية ودار بيننا حديث طويل وممتع ووجدته ما زال يذكر ضيافته عندي بمنزلنا ببيت المال بالأمسيات وفتة البوش الجميلة ، لا أدري أين هو الآن – وهو شاب طويل القامة وكان نحيفاً جداً آنذاك؛ وكنَّا لا نفطر إلَّا سوياً فتكون قيمة فتَّة البوش شراكة مع بعض الزملاء وأول ما نقف على طابور الصباح تجده يطقطق الزملاء ليكون أول ذاهب للبوفيه مع جرس الفطور؛ إلا أنَّ مُلَيْ لا يشاركنا في ذلك فله مجموعة أخرى؛ وهما عندي حمامات سلام بلا شك.
وفيما يخص الموسيقى فقد كان مُلَيْ مُلْوَاك عازفًا أساسياً لآلتَيْ الطنبور والآدنقو بفرقة الآلات الموسيقية الشعبية ٢٠٠٠/ ٢٠١١؛ وزار كل العالم تقريباً مع الأستاذ الدكتور الموسيقار جراهام عبد القادر؛ وزير الثقافة الحالي؛ وكان عضواً فاعلاً في فرقة البالمبو قبل الانفصال السياسي بين الدولتين ؛ وأجمل المقطوعات التي كانوا يؤدونها :
يا أجمل الحلوين وين عهودك وين
لو انت ناسي الناس إحنا ما ناسين
ﻣﺎﻛﻨﺖ ﺑﺘﻜﺘﺐ ﻟﻰ …
ﻣﺎﻛﺖ ﻋﺎﺭﻑ ﺍﻟﺒﻰ …
ﻭﻟﻌﺖ ﺟﻤﺮﻯ ﺍﻟﺤﻰ …
ﺧﻠﻴﺖ ﻗﻠﻴﺒﻰ ﺣﺰﻳﻦ …
ﺇﻧﺸﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺑﺴﺎﻡ …
ﺗﺘﺤﻘﻖ ﺍﻷﺣﻼﻡ …
ﺗﻈﻬﺮ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﻌﺎﻡ …
ﻭﺗﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺟﺤﻴﻦ …
ﺍﺳﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺠﻮﺩ …
ﻳﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ …
ﺍﻧﺎ ﻭﺃﻧﺖ ﺗﺎﻧﻰ ﻧﻌﻮﺩ …
ﺗﺘﺸﺎﺑﻚ ﺍﻹﻳﺪﻳﻦ …
ﻓﻴﻬﺎ ﺇﻳﻪ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ …
ﻃﻠﻴﺘﻨﺎ ﻣﺮﺓ ﺣﻨﺎﻥ …
ﻟﻰ ﺟﺪﺩ ﺍﻹﺣﺰﺍﻥ …
ﻭﺍﺭﺣﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﺮﺍﺣﻠﻴﻦ !!
وشارك في كثير من الفعاليات الموسيقية ممثلاً السودان الكبير وتراه يغني للفنان محمد وردي؛ بل غنَّى له قبل وفاته وفي حضرته بالمسرح القومي بأم درمان إذا اسعفتني الذاكرة وله صور تجمعهما معاً بعثهما لي هو شخصياً قبل عامين وأشاد به وردي للغاية وبصوته واداءه وعزفه على آلتي الربابه والآدنقو؛ وبالمناسبة؛ يجيد العزف على الفلوت أيضاً ” إيه الحلاوة دي إيه الجمال ده كله ما شاء الله تبارك الله ربنا يبارك ويزيد “.
اقرأ معي رأيه في علاقة شعبي الجنوب والشمال في اللقاء الذي كان معه من عام ٢٠١٦ : [ المقطع الغنائي لوردي “ابداً ما هنت يا سوداننا يوماً علينا ” كان مدخلاً لفاصلك الغنائي أثار في نفوس الحاضرين الكثير من المشاعر، لماذا اخترت هذا المدخل بالذات ؟ .
أردت أن أوصل رسالة مهمة لشعب البلدين بأنَّ علاقات وأواصر المحبة ما زالت موجودة رغم الانفصال الذي حدث، لأنَّ التواصل الاجتماعي والثقافي باقي ما بقي الانسان، ونأمل أن يتواصل الحب بيننا كشعب وترك السياسة جانبا لأنَّها تفسد العلاقات بين الناس، وأيضاً أردت أن أوكد أنَّ وحدة الشعب باقية وستظل باقية ما حيينا كفنانين من السودان الشمالي والجنوبي، وترديدي لتلك الأغنية يؤكد على ذلك ، وتجاوب الجمهور معي بهذه الطريقة يؤكد أن الانفصال الذي حدث سياسي ولا علاقة له بشعب الدولتين.
*وكيف تنظر لتجاوب الجمهور معك وأنت تردد ماهنت يا سوداننا يوماً علينا ؟
بصراحة لم أكن اتوقع أن أجد هذا التجاوب من قبل اخواني السودانيين ، وكنت استبعد ذلك تماماً بأن يقف الجمهور ويهتف باسمي فهذا شرف كبير، وأنا سعيد بذلك، ومشاركتي في المهرجان دليل على أن الفنَّان الجنوبي محبوب بالشمال رغم ما يروج له البعض بأنَّ الجنوبيين لا يحظون بمحبة في الشمال (انا متكيف جداً من تلك المشاركة).
*بعد كل هذه السنوات من الانفصال الجغرافي هل ما زالت أغنيات الشمال يرددها شعب الجنوب ؟ .
(اتمنا انو “الكوماج” الحصل دا يزول وتجونا في زيارة بعد تهدأ الأحوال الأمنية ، ستلاحظ ذلك في مناسباتنا الخاصة والعامة، ويكفى أنك ستجد في سوق (كوجي كوجي والملكية)، الراحلان محمد وردي ومحمود عبد العزيز لا تقف أصواتهما عن تريد الأغاني، لأنهما باختصار سيطرا على قلوب ووجدان الشعب الجنوب سوداني لأنَّهما كانا جزءا من هذا الوطن العزيز، وما زلنا نراهن على أنَّهما يلعبان دوراً كبيراً في التواصل الثقافي والوجداني بيننا ] انتهى.
قيل قديماً : ( مَنْ بَعُدَ عن السياسة فقد سلم ) ولعل القائل هو ابن خلدون في مقدمته المعروفة؛ وأنا بدأت هذا المقال ب ( قاتل الله السياسة؛ فقد حرمتنا من متع الثقافة والفنون) وهي هي التي جعلت الحبيب الجميل مَلِّيِ – كما يحب أن يُنادى – أن يعود لمسقط رأسه بحاضرة أبيي وأهاجر أنا لمصر العزيز؛ ولا نامت أعين الجبناء.
كانت آخر رؤيتي له بمحطة كبري شمبات بيت المال قبل توقيع إتفاقية السلام نيفاشا ٢٠٠٥ وعلى السريع سألته عن جون قرنق فلم يبد استعداده للمناقشة ولكني تطفلت وأخبرته بأنَّ جون قرنق لن يمكث في الحكم حال جاء لسُدَّة الحكم أكثر من عام فلن يترك في حاله؛ وصدقت نبوءتي فاغتيل في ٢٠٠٥ بعد واحد وعشرين يوماً في الحكم يقابلها واحد وعشرين سنة من النضال.
يا أجمل الحلوين وين عهودك وين
لو انت ناسي الناس إحنا ما ناسين

القاهرة في ٢٩/١٢/٢٠٢٣م

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...