هل يتشطّى سودان ما بعد الإنقاذ؟

عبد الحفيظ مريود

هل يتشطّى سودان ما بعد الإنقاذ؟

عبد الحفيظ مريود

 

يبدو أنَّ عبئاً ثقيلاً أُلقِىَ على كاهل الحياة السياسيّة السّودانيّة بسبب جرأة نّظام الإنقاذ الذى أسفر عن إنفصال جنوب السّودان عام 2011م، فى إعقاب الإستفتاء على تقرير المصير للجنوب، الذى تضمّنته إتفاقية السّلام الشامل الموقّعة فى نيفاشا، بكينيا،عام 2005م. ذلك أنَّ الباب أصبح موارباً لأطراف أخرى من السُّودان، فى نضالها ضدّ السلطة المركزيّة، أنْ تحصل على مصير جنوب السّودان، فى حال تعثّر البقاء ضمن السودان الموحّد. تظهر دارفور – باستمرار – كاحتمال تالٍ للجنوب، نظراً للتعقيدات التى تشوب قضيّتها، التى برزتْ إلى السّطح عام 2003م، قبيل التوقيع على السّلام الشّامل. فما هى حدود هذا الإحتمال؟ هل تتبع دارفور جهاتٌ وأقاليم أخرى، مثل الشّرق، جبال النّوبة والنّيل الأزرق؟ أم أنَّ شروط بقائها ضمن السّودان تتحسّن شيئاً فشيئاً، بحيث يصبح خيار المغادرة ضعيفاً؟

الواقعُ أنَّ بروز إحتمالية إنفصال دارفور، فى أعقاب رحيل نّظام الإنقاذ عام 2019م، بعد ثورةٍ شعبيّة، نبع من تنفيذ إستحقاقات السّلام الموقّع فى جوبا، عاصمة دولة جنوب السّودان، بين الحكومة الإنتقالية وبعض الحركات المسلّحة، عام 2020م. ومع أنَّ سلام جوبا شمل مناطق أخرى غير دارفور، إلّا أنَّ تركيز القراءات والتكهّنات والمخاوف على دارفور. ويأتى ذلك من التشابه الكبير بين إنفاذ سلام نيفاشا الذى أدّى لفصل الجنوب وبين سلام جنوب فى المبنى العمومىّ. فقد ظهرتْ كلُّ هذه المخاوف والتساؤلات بعد إعلان وتنصيب القائد منّى أركو منّاوى حاكماً لإقليم دارفور، تنفيذا لسلام جوبا، فى الوقت الذى لم تُطرح فيه قضية الحكم الفيدرالىّ فى السّودان لعمليّة بحث موسّع واستفتاء أكاديمىّ وشعبىّ يتمُّ بموجبه العودة إلى نّظام الأقاليم. بما يُشير إلى أنَّ إجراءات تعيين وتنصيب منّاوىّ المتعجّلة تنطوى على نيّةٍ مبيّتة لفصل الإقليم، أو على الأقلّ التمهيد لفصله. على غرار ما جرى فى نيفاشا من إنشاء حكومة الجنوب التى وضعتْ دستورها وبرلمانها وجيشها، فى شبه عزلة، وسنواتٍ خمسٍ من المران على إدارة شؤونها، مستقلّة عن الحكومة المركزية فى الخرطوم.  لا سيّما وانَّ حركة منّاوىّ – بعد إعلانه حاكماً – بدتْ شبه مستقلّة عن الحكومة المركزيّة فى الخرطوم، من خلال زياراته الخارجيّة واللقاءات مع المسؤولين فى الدّول، وتوقيعه للإتفاقيّات فى عدم حضور ومشاركة حكومة الخرطوم. مما يشيرُ إلى تهيئة عموميّةٍ، لقبول التعامل مع منّوى على أنّه حكومة قائمة بذاتها، إنْ لم يكنِ الآنَ، ففى القريب العاجل. 

لكنَّ الأكثر تغذية للمخاوف، والأبعث على التساؤلات هو غرق الحكومة الإنتقالية فى إنعدام الرؤية، والتخبّط الكبير فى توجّهاتها، وهو أمرٌ لازمٌ للتنافر الحادّ بين مكوّناتها، وعدم استنادها إلى مرجعية. ذلك انَّ قرارات مثل العودة إلى نّظام الأقاليم يتوجّب أنْ تكون قائمة على أرضية مشتركة ومتفّق عليها، بحيث يتمكّن المراقب من قراءة سلوك التعيين والممارسة الفعلية لسلطة منّاوى على ضوئها، عِوَضاً عن التكهّنات والمخاوف والقلق. فالواقع يقول إنَّ دارفور ليستْ كتلةً صمّاء يجرى تصنيفها بسلاسةٍ ويسر. إذْ انَّ التنوّع الكبير فى تركيبتها، عرقيّاً، إجتماعيّاً، إقتصاديّاً، وسياسيّاً يقفُ عائقاً أمام عزلها وفصلها على غرار ما حدث فى جنوب السّودان. من جهةٍ ثانية فإنَّ وجودها الكثيف على مستوى قيادة الفترة الإنتقاليّة على كافة المستويات، سياديّاً، تنفيذيّاً وعسكريّاً يجعلُها فى موقع الآخذ نصيب الأسد من كعكة الإنتقاليّة، ويطمعها فى المزيد، وليس فى الإنفصال المرتّب له، حتّى ولو كانَ ثمّة آذان مصغية لصوته.

ينفتحُ الإحتمالُ على شرق السّودان الذى برز إلى السّطح فى أعقاب تعيين صالح عمّار والياً على ولاية كسلا، ضمن تعيينات رئيس الوزراء للولاة المدنيين كاستحقاق إنتقالىّ. فقد أثار تعيينه كوجةً من المعارضة المنطوية على عنف، والتى تزّعمها النّاظر محمد الأمين ترِكْ، ناظر عموم الهدندوة. والتى أسفرت عن عزل صالح عمّار، مفسحةً المجال لنجوميةٍ كاسحة للنّاظر تِرِكْ، ومجموعة من زعماء القبائل لتقرير كيف يمكنُ حكم شرق السّودان. فى أثناء ذلك برزتْ حوادث إقتتال على أساس قبلىّ فى عواصم ولايات الشّرق الثلاث: بورتسودان، كسلا والقضارف، والتىجرى تفسيرها، ضمن تفاسير أخرى، على أنّها أجندة خارجيّة، أو تخطيط غشيم من قبل ما جرتْ تسمّيته ب”الدّولة المعميقة”، لإفشال الإنتقالية. تصاعدتْ حدّة التوتر بين الحكومة الإنتقالية والشّرق، ممثلاً فى نّاظر عموم الهدندوة تِرِكْ، وجرى تبادل الإتّهامات والتحدّى، إلى درجة انَّ الكثيرين باتوا على يقينٍ من أنَّ شرق السّودان هو المرشّح الأوّل للإنفصال عن السّودان، فى حال لم يتوافق حكّام المركز مع شروط تِرِكْ.

فى الأثناء جرى تجميد إنفاذ إتّفاق مسار الشّرق، الموقّع ضمن إتّفاقية سلام جوبا، وجرى تقديم عروض ومساومات للإدارات الأهلية للقبول بقسمة تضمنُ نّصيباً “جيّداً” من الكعكة للشّرق. كلُّ ذلك فى تغييب للقوى السياسيّة الحديثة، من أحزاب ومنظمات مجتمع مدنىّ، بحيث تمّتْ إعادة الشّرق إلى القرون الوسطى، حيث تتركّز المشورة والفعل فى قبضة الإدارات القبليّة.

ثمّة حراكٌ فى جبال النّوبة، مع الدّعوى القديمة المتجدّدة لتقرير المصير، لكنّه – مثل حراك النّيل الأزرق – لا يشكّلُ تهديداً حقيقيّاً للدّولة السّودانية الموحدة، كما يفعلُ الإقليمان : دارفور وشرق السّودان. فالواضحُ أنَّ جبال النوبة والنّيل يزايدانِ بمسألة الإنفصال وتقرير المصير أكثر مما هى نوايا فعليّة. فالقادة فى المنطقتين يعرفون أنَّ إمكانية ذلك صفر تقريباً، ومواتٌ مؤكّد.

لكنَّ السؤال المركزىّ هو : هل هناك مبرّراتٌ حقيقيّة تغذّى مخاوف تشظّى السّودان فى ضوء الواقع السياسىّ الرّاهن؟

يبدو أنَّ الخطوة التى خطتها الحكومة الإنتقالية باتّجاه التطبيع مع إسرائيل، فتحت باباً يفضى إلى القلق. فالمراقبون يعرفون الدّور العميق الذى لعبته إسرائيل فى فصل جنوب السّودان، ضمن خططها المدعومة أمريكيّاً لرسم خارطة جديدة للمنطقة، بالتركيز على بعض الدّول، ومن بينها السّودان. وسيكونُ بدهيّاً أنَّ إسرائيل ستمضى فى مخططها قُدُماً، فى ظلّ وجود حكومة غارقة فى تنافرها ومشكلاتها، وأميَل إلى القيام بتنفيذ أجنداتٍ خارجيّة، وعلى المكشوف، بدلاً من التخفّى وراء لافتات قديمة، كما كانت تفعل على أيّام الإنقاذ.

الشيئ الثانى هو قصور الذّهن السياسىّ الرّاهن عن إدراك تعقيدات الدّاخل، والفعل النّاجز فى صياغة مسودّة مصالح وطنية عليا، يجرى الإلتفاف حولها. فالواضح أنّه فى ظلّ فقر المشاريع الوطنية الكبرى والواضحة، وافتقار الوضع إلى قائد ملهم، على خلفية الخطى والمخططات الدّولية والإقليميّة، فإنَّ بواعث ومبرّرات المخاوف ستتنامى، مخلّفةً رغبات مصطرعة فى الحصول إجابات ناجزة، أو أنصبة مشبعةٍ من لحم الثور الآيل للسقوط.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...